كلما استمعت إلى صوت البيانو، تذكرت رغبتي القديمة في تعلم الموسيقى.. تلك التي نشأت ذات يوم حين سمعت البيانو لأول مرة. لكن العمر تقدم بي، ولم تتح لي هذه الفرصة حتى اللحظة، وقد كان على الدوام ثمة ما يمنعني من ذلك.. النشاط في حزب سري، والعمل في أوقات الدراسة مثل إخوتي الآخرين، والزواج أخيرا، وإنجاب الأطفال.
لكنني ما إن أرى بيانو في مكان ما، حتى أشعر بقوة تجذبني إليه، وكم تمنيت لو أتمكن من الجلوس ولو مرة واحدة أمام تلك المفاتيح، لكي أثبت أنني قادر على العزف من دون تدريب، نظرا لإحساسي القوي بالنغمات، ولثقتي العالية بقدرتي على معرفة المفاتيح الملائمة لها، حتى وأنا مغمض العينين! ثم نسيت الأمر تماما بعد أن امتلأ المنزل صراخا وعويلا، والقلب كمدا على عمر يتطاير مثل دخان السجائر من بين الأصابع.
كان أصغر أبنائي سيحتفل بعيد ميلاده السادس، وكنت مضطرا لإهدائه شيئا ما. ولأنني مللت الملابس التي أراها الأفضل في المناسبات كلها، نظرا لما يوفره ذلك من استحقاقات يومية ـ أعتذر عن استخدام ( استحقاقات) التي هي من مخلفات العمل السياسي ـ ، فقد قررت أن أهديه شيئا لم يخطر بباله من قبل، من دون أن أحدد ذلك الشيء..
كان علي أن أذهب إلى مكتبات الألعاب، وفوجئت بذلك التعدد الذي ترك على لساني مرارة أعرف أسبابها.. وأخيرا وقعت عيناي على قطعة صغيرة ملونة، تتداخل فوق سطحها البلاستيكي مفاتيح سوداء وبيضاء. اقتربت منها ولمستها بحذر، ثم سألت عنها البائع، وأنا أتوقع الإجابة، لكنه قال: ميلوديكا.. سألته كيف تعمل، فتناولها، ووضع فمها الصغير بين شفتيه، وحرك أصابعه بعشوائية فخرجت بعض الأصوات العشوائية التي خلت من الغموض السري العريق لنغمة البيانو، لكنني قررت شراءها، وأنا أؤكد أنني أضع ابني الصغير على الطريق الصحيحة!
فرح بها الصغير، وأخبرته ما عليه أن يفعله، لكني فوجئت به يجد صعوبة في النفخ ولمس الأصابع، فكان عليّ أن أدربه. أمسكت بالقطعة مثل محترف عريق، ووضعت فمها الصغير بين شفتي، وفردت أصابعي فوق المفاتيح، ولكنني لم أحدد المعزوفة بعد.. كان صدري يندفع عاليا متسارعا، وازداد ذلك بعد أن سألتني ابنتي إن كنت أعرف العزف، وقلت لها بما يشبه اليقين: طبعا، فقالت بفرح: يا بابا.. نانسي عجرم، فقلت جادا: لا أعرف إلا فيروز، فأصبتها بخيبة عابرة.
فجأة خطرت لي السيمفونية الأربعون لموزارت، واعتبرت ذلك ملائما تماما، حيث أصبح مطلع هذه السيمفونية مألوفا بفضل فيروز.
تهيأت تماما، وفردت أصابعي، وأخذت نفسا عميقا، ثم خرج الصوت خجولا ومرتبكا. أبعدت الميلوديكا عن فمي ونظرت إلى المفاتيح، ثم أعدتها، وجربت مرة ثانية بجرأة أكبر، لكن كل الأصوات التي خرجت كانت متنافرة ومن دون ضابط أو رابط أو إيقاع..
وضعت الميلوديكا جانبا، وقلت بحزم: طبعا.. هذه ليست بيانو.. هذه لعبة..
عندما نام الجميع في تلك الليلة، تسللت خلسة وتناولت الميلوديكا وعدت بها إلى غرفة النوم، وأخذت أجرب محاولا الحصول على جملة موسيقية واحدة، لكن زوجتي استيقظت، وأبدت دهشتها عندما رأتني. قلت لها: غريب.. أنا أرى أصابع العازفين تتحرك بتلقائية، وعيونهم مغمضة.. قالت عبر أبخرة النعاس: أين الغرابة؟ قلت: إنني أحاول من دون جدوى، على رغم ثقتي بمقدرتي على العزف. قالت وهي تدير ظهرها: تعلّم. قلت محتجا: بعد هذا العمر؟ قالت باسترخاء: ألا تحبها؟ قلت: يعني؟ قالت: من أحب شيئا عليه أن يفعله. قلت بدهشة: أي شيء؟ قالت: طبعا، تصبح على خير..
أشعلت سيجارة، وفكرت بالأمر.. أي شيء؟ يا إلهي! وأخذت أتذكر الأشياء التي أحبها، فلم أنته، وتوقفت مع آذان الفجر، واكتشفت أن هنالك مئات الأشياء التي أحببت القيام بها منذ طفولتي، من دون أن أتمكن من شيء واحد. لكنني قررت قبل النوم أن أتوجه نهارا إلى أقرب مركز لتعلم الموسيقى، وعلى هذا غفوت!
استيقظت متعبا، وقبل خروجي إلى عملي، سلمتني زوجتي ورقة وهي تقول: لا تنس هذه الأغراض عند عودتك. وعند عودتي، كان عليّ أن أتدخل مع آخرين من أبناء الشارع كي نوقف شجارا كاد يصبح داميا، وكان عليّ أن أحتمل ذلك الضجيج اليومي الذي يخرج من محلات الحدادة، قبل أن أجد نفسي في محل الخضار، أتفقد حبات البطاطا بأصابع فائقة الخبرة قبل وضعها في كيس بلاستيكي. وبعد أن خرجت بأكياس عدة، ومشيت نحو البيت، فوجئت بلوحة زرقاء على مدخل الشارع كتب عليها: شارع الموسيقى!
فرح بها الصغير، وأخبرته ما عليه أن يفعله، لكني فوجئت به يجد صعوبة في النفخ ولمس الأصابع، فكان عليّ أن أدربه. أمسكت بالقطعة مثل محترف عريق، ووضعت فمها الصغير بين شفتي، وفردت أصابعي فوق المفاتيح، ولكنني لم أحدد المعزوفة بعد.. كان صدري يندفع عاليا متسارعا، وازداد ذلك بعد أن سألتني ابنتي إن كنت أعرف العزف، وقلت لها بما يشبه اليقين: طبعا، فقالت بفرح: يا بابا.. نانسي عجرم، فقلت جادا: لا أعرف إلا فيروز، فأصبتها بخيبة عابرة.
فجأة خطرت لي السيمفونية الأربعون لموزارت، واعتبرت ذلك ملائما تماما، حيث أصبح مطلع هذه السيمفونية مألوفا بفضل فيروز.
تهيأت تماما، وفردت أصابعي، وأخذت نفسا عميقا، ثم خرج الصوت خجولا ومرتبكا. أبعدت الميلوديكا عن فمي ونظرت إلى المفاتيح، ثم أعدتها، وجربت مرة ثانية بجرأة أكبر، لكن كل الأصوات التي خرجت كانت متنافرة ومن دون ضابط أو رابط أو إيقاع..
وضعت الميلوديكا جانبا، وقلت بحزم: طبعا.. هذه ليست بيانو.. هذه لعبة..
عندما نام الجميع في تلك الليلة، تسللت خلسة وتناولت الميلوديكا وعدت بها إلى غرفة النوم، وأخذت أجرب محاولا الحصول على جملة موسيقية واحدة، لكن زوجتي استيقظت، وأبدت دهشتها عندما رأتني. قلت لها: غريب.. أنا أرى أصابع العازفين تتحرك بتلقائية، وعيونهم مغمضة.. قالت عبر أبخرة النعاس: أين الغرابة؟ قلت: إنني أحاول من دون جدوى، على رغم ثقتي بمقدرتي على العزف. قالت وهي تدير ظهرها: تعلّم. قلت محتجا: بعد هذا العمر؟ قالت باسترخاء: ألا تحبها؟ قلت: يعني؟ قالت: من أحب شيئا عليه أن يفعله. قلت بدهشة: أي شيء؟ قالت: طبعا، تصبح على خير..
أشعلت سيجارة، وفكرت بالأمر.. أي شيء؟ يا إلهي! وأخذت أتذكر الأشياء التي أحبها، فلم أنته، وتوقفت مع آذان الفجر، واكتشفت أن هنالك مئات الأشياء التي أحببت القيام بها منذ طفولتي، من دون أن أتمكن من شيء واحد. لكنني قررت قبل النوم أن أتوجه نهارا إلى أقرب مركز لتعلم الموسيقى، وعلى هذا غفوت!
استيقظت متعبا، وقبل خروجي إلى عملي، سلمتني زوجتي ورقة وهي تقول: لا تنس هذه الأغراض عند عودتك. وعند عودتي، كان عليّ أن أتدخل مع آخرين من أبناء الشارع كي نوقف شجارا كاد يصبح داميا، وكان عليّ أن أحتمل ذلك الضجيج اليومي الذي يخرج من محلات الحدادة، قبل أن أجد نفسي في محل الخضار، أتفقد حبات البطاطا بأصابع فائقة الخبرة قبل وضعها في كيس بلاستيكي. وبعد أن خرجت بأكياس عدة، ومشيت نحو البيت، فوجئت بلوحة زرقاء على مدخل الشارع كتب عليها: شارع الموسيقى!