القاعة فارغة، الكراسي مصطفة دون أن يجلس عليها أحد..بالركن منبر مستطيل وضعت عليه ميكروفونات تستعد لنقل أصوات المحاضرين..وبالجدار لافتات تعلن عن ندوة حول الكتابة الرقمية..المستقبلون بباب القاعة ينتظرون استقبال من يأتي..لحظات تمر دون أن يظهر أحد..لكن بعد فترة يظهر بعض الحضور، يليهم آخرون على فترات متفرقة.
لم تمتلئ كل الكراسي..ظل أغلبها فارغا..ومع ذلك قرر المنظمون عدم الانتظار..ولعلهم كانوا متعودين على عدم حضور أشخاص كثيرين..لذا أعلنوا عن افتتاح الندوة، مكتفين بالجمع القليل.
جلس المحاضرون بأماكنهم أمام الميكروفونات..وشرعوا في طرح أفكارهم وعرض آرائهم بالتناوب. التفت ورائي فإذا بالكاتب الكبير يحتل مقعدا بالصفوف الخلفية، استبشرت خيرا، وخمنت أن الندوة ستكون غنية بالأفكار المفيدة والتدخلات الفريدة..ولم أهتم بنظرة غريبة تشع من عينيه، وربما لاحظتها أكثر عندما سمعت سعاله المتكرر، وعدم استقراره في جلسته..وقلت لعلها نظرة تنم عن فيض ذكاء..أو هي مؤشر عن اختلافه وتفرده..ومن حق الكتاب الكبار أن يختلفوا عن الناس العاديين..ماداموا يملكون رؤى تسبق المرئي..وسينتظر انتهاء العرض ليتدخل برؤيته ومعرفته التي ستكون حتما جديدة متطورة تتناسب مع موضوع الندوة المتطور والمتجدد..وبذلك سيبحر بنا في عوالم الإعلام والرقميات الأنترنيتية..
وتمنيت لو تواجد أدباء كبار آخرون..لكن لابأس، ربما منعتهم أشغالهم الكثيرة..فمثلهم لايجدون وقتا يحكون فيه رؤوسهم.لأن هذه تكون مشغولة بالتفكير..فهم دوما في نقاش وجدال لا ينتهي..وهو نقاش وجدال قد يمارسونه في أوقات فراغهم كذلك..هذا لو افترضنا أن لهم أوقاتا فارغة.. خمنت ذلك عندما كنت ألمحهم مصادفة ببعض المقاهي أو الحانات..وقد علا صياحهم وكلامهم الذي لم أكن أتبينه أو أسمعه..ربما بسبب الضجيج واختلاط الأصوات..ولكن كنت ألاحظ حدة تشوب هذا الصياح والكلام .. وكنت أقدر دائما أنها حدة لا يمكن أن تكون إلا بسبب قضية أدبية أو خلاف حول إشكالية فكرية..ولا أدل على ذلك من كثرة الكؤوس والقنينات الفارغة التي كانت تملأ طاولاتهم..وطاولاتهم كانت دائما مليئة.. تؤكد طول امتداد جلساتهم وأحاديثهم..والحديث ذو شجون كما يقولون..وبما أن شجونهم لا تنتهي فكذلك حديثهم الذي يضطرون إلى إتمامه في جلسات شبيهة أخرى..
وحمدت الله على عدم انشغال الكاتب الكبير في هذه اللحظة التي يجالسنا فيها..ولعله سرق من وقته الثمين هذه اللحظات ليقضيها معنا في هذه الندوة التي تفتخر بقدومه..
المحاضرون مستمرون في طرح أفكارهم ومناقشاتهم..والناس الجالسون يسمعون..ربما كان البعض لا يسمع..وربما كان البعض الآخر منشغلا بالتفكير في أشياء أخرى..لكن المهم أنهم كانوا يملؤون بعض الكراسي الفارغة..والأهم أنهم كانوا صامتين..والصمت من علامات الاستماع والانتباه..
استمر المحاضرون في مداخلاتهم..كلامهم كان واضحا يملآ جنبات القاعة..والغريب أن كلامهم كان يتحول إلى أرقام تسبح فوق رؤوس الحاضرين..بل هما رقمان فقط، يتكرر عددهما إلى ما لانهاية: الرقم ” صفر ” والرقم ” واحد “..أعداد هائلة من الصفر تتحرك بشكل أفقي، وتمتد في صفوف منتظمة مشعة..وأعداد أخرى مثلها من الرقم ” واحد ” تتصاعد في شكل عمودي..وأحيانا تتداخل الصفوف العددية في نظام بديع.
انتبه الحاضرون أكثر، ولم يعد بعضهم يفكر في أشياء أخرى..بل إن البعض الآخر منهم ألقى ماكان بيده من أوراق كان يسترق إليها النظر، وراح يتابع في شغف مع الآخرين الرقصة الرقمية..كل الحاضرين تابعوا تحركات الأرقام المتراصة كالبنيان .. وشغفوا بنظامها الرائع وهم يتابعون تحليقها بأجواء القاعة..وربما لم يألفوا رؤية هذا المشهد المثير فانشدوا إليه..
التفت إلى الكاتب الكبير، ورجحت ألا يقل اندهاشه وإعجابه عن اندهاش وإعجاب الحاضرين..وخمنت أن يصفق بحرارة لهذه السمفونية الرقمية المنتظمة الإحكام..لكن تخميني خاب عندما وجدته مكشرا عابس الوجه، وظننت أن الرقصة لم تعجبه، وأنه سيقترح في النهاية نظاما آخر لها..وسيسهب لا محالة في شرح اقتراحه..وستتضاعف الأرقام ويشتد عودها أكثر نتيجة هذا الإسهاب..
لكنه لم يحرك ساكنا..وفي خضم صمت الحاضرين المشدودين للظاهرة الرقمية..انطلقت ضحكة هستيرية مدوية..ولعلها كانت قهقهة حادة اخترقت سمعي بقوة..ويقينا أنها اخترقت آذان الحاضرين..وما كاد هؤلاء يستطلعون الخبر حتى تلتها ضحكة كانت أكثر حدة..
التفت أبحث عن مصدر الضحك، وإذا بي أفاجأ بالكاتب الكبير في حالة تشنج وهو يغمغم بكلام غير مفهوم ..
ثم يشفع ذلك بضحكات أخرى متقطعة..كان يفعل ذلك وهو ينش الأرقام وكأنه يحاول سَوْقَ سرب ذباب..وربما اعتقدها بعوضا عضوضا فاستعان على محاربتها بملف أوراقه الذي كان يحمله معه..كان الغضب مستبدا به، وكان حنقه على الأرقام واضحا من خلال ملامحه..
استمر في هشه ونشه وسط استغراب الجميع ..والغريب أن لا أحد حاول أن بثنيه عن ذلك ..وربما كان الجميع متيقنا من عدم حاجة الأرقام إلى مساعدة أحد، ومن قدرتها على الدفاع عن نفسها..
لذلك تضاعفت أعدادها بشكل هائل..وتضاعف حنق الكاتب عليها وعلى نظامها الذي تتشكل به أمامه، وتضاعف عنفه في مواجهتها..
كان يستنجد بضحكاته الساخرة المتقطعة ليكسر صفوفها وينقص من قيمتها..لكن الأرقام لم تتأثر بقهقهات الكاتب الكبير..ولم تعر اهتماما لنشات ملفه الورقي الذي اتخذه سلاحا ضدها..وانطلقت حرب رقمية ورقية:
الأرقام تهاجم..والأوراق تهش وتنش عشوائيا..والحاضرون يتابعون المعركة في صمت....الإعياء يظهر على الكاتب الكبير من كثرة النش..والأرقام تضاعف من هجومها باستمرار، وتنطلق مجددا في خطة حربية محكمة..
ويظهر أن الخطة كانت ناجحة، فقد تشكلت الأرقام في صفوف أكثر تماسكا وتنظيما، وكانت أعداد هائلة من الأصفار تتصدرها..لتتعقبها أعداد هائلة أخرى من الرقم ” واحد “..وكأنها دروع وراءها رماح حادة..وينطلق هذا الجيش العرمرم في هجمة حربية واحدة نحو الكاتب الكبير، ويحاصره من جميع الجهات..وتنفلت بعض الأرقام من الصفوف كفرسان يستهدفون المبارزة..لتحط على أنفه وأذنيه وتبدأ عملية القرص واللدغ، فلا يملك المسكين الكبير إلا الصراخ..لكن الأرقام تتجمع من جديد حول فمه فيختفي صراخه.. ويوقن بهزيمته فيسلم قدميه للريح تاركا القاعة ملكا للأرقام المنتصرة..ويتلاشى في الخارج..
وعلى الأرض..كانت أوراق الكاتب الكبير منثورة هنا وهناك..وكانت الأرقام تقرضها تدريجيا إلى أن تلاشت بدورها.
محمــــد فــــري
وحمدت الله على عدم انشغال الكاتب الكبير في هذه اللحظة التي يجالسنا فيها..ولعله سرق من وقته الثمين هذه اللحظات ليقضيها معنا في هذه الندوة التي تفتخر بقدومه..
المحاضرون مستمرون في طرح أفكارهم ومناقشاتهم..والناس الجالسون يسمعون..ربما كان البعض لا يسمع..وربما كان البعض الآخر منشغلا بالتفكير في أشياء أخرى..لكن المهم أنهم كانوا يملؤون بعض الكراسي الفارغة..والأهم أنهم كانوا صامتين..والصمت من علامات الاستماع والانتباه..
استمر المحاضرون في مداخلاتهم..كلامهم كان واضحا يملآ جنبات القاعة..والغريب أن كلامهم كان يتحول إلى أرقام تسبح فوق رؤوس الحاضرين..بل هما رقمان فقط، يتكرر عددهما إلى ما لانهاية: الرقم ” صفر ” والرقم ” واحد “..أعداد هائلة من الصفر تتحرك بشكل أفقي، وتمتد في صفوف منتظمة مشعة..وأعداد أخرى مثلها من الرقم ” واحد ” تتصاعد في شكل عمودي..وأحيانا تتداخل الصفوف العددية في نظام بديع.
انتبه الحاضرون أكثر، ولم يعد بعضهم يفكر في أشياء أخرى..بل إن البعض الآخر منهم ألقى ماكان بيده من أوراق كان يسترق إليها النظر، وراح يتابع في شغف مع الآخرين الرقصة الرقمية..كل الحاضرين تابعوا تحركات الأرقام المتراصة كالبنيان .. وشغفوا بنظامها الرائع وهم يتابعون تحليقها بأجواء القاعة..وربما لم يألفوا رؤية هذا المشهد المثير فانشدوا إليه..
التفت إلى الكاتب الكبير، ورجحت ألا يقل اندهاشه وإعجابه عن اندهاش وإعجاب الحاضرين..وخمنت أن يصفق بحرارة لهذه السمفونية الرقمية المنتظمة الإحكام..لكن تخميني خاب عندما وجدته مكشرا عابس الوجه، وظننت أن الرقصة لم تعجبه، وأنه سيقترح في النهاية نظاما آخر لها..وسيسهب لا محالة في شرح اقتراحه..وستتضاعف الأرقام ويشتد عودها أكثر نتيجة هذا الإسهاب..
لكنه لم يحرك ساكنا..وفي خضم صمت الحاضرين المشدودين للظاهرة الرقمية..انطلقت ضحكة هستيرية مدوية..ولعلها كانت قهقهة حادة اخترقت سمعي بقوة..ويقينا أنها اخترقت آذان الحاضرين..وما كاد هؤلاء يستطلعون الخبر حتى تلتها ضحكة كانت أكثر حدة..
التفت أبحث عن مصدر الضحك، وإذا بي أفاجأ بالكاتب الكبير في حالة تشنج وهو يغمغم بكلام غير مفهوم ..
ثم يشفع ذلك بضحكات أخرى متقطعة..كان يفعل ذلك وهو ينش الأرقام وكأنه يحاول سَوْقَ سرب ذباب..وربما اعتقدها بعوضا عضوضا فاستعان على محاربتها بملف أوراقه الذي كان يحمله معه..كان الغضب مستبدا به، وكان حنقه على الأرقام واضحا من خلال ملامحه..
استمر في هشه ونشه وسط استغراب الجميع ..والغريب أن لا أحد حاول أن بثنيه عن ذلك ..وربما كان الجميع متيقنا من عدم حاجة الأرقام إلى مساعدة أحد، ومن قدرتها على الدفاع عن نفسها..
لذلك تضاعفت أعدادها بشكل هائل..وتضاعف حنق الكاتب عليها وعلى نظامها الذي تتشكل به أمامه، وتضاعف عنفه في مواجهتها..
كان يستنجد بضحكاته الساخرة المتقطعة ليكسر صفوفها وينقص من قيمتها..لكن الأرقام لم تتأثر بقهقهات الكاتب الكبير..ولم تعر اهتماما لنشات ملفه الورقي الذي اتخذه سلاحا ضدها..وانطلقت حرب رقمية ورقية:
الأرقام تهاجم..والأوراق تهش وتنش عشوائيا..والحاضرون يتابعون المعركة في صمت....الإعياء يظهر على الكاتب الكبير من كثرة النش..والأرقام تضاعف من هجومها باستمرار، وتنطلق مجددا في خطة حربية محكمة..
ويظهر أن الخطة كانت ناجحة، فقد تشكلت الأرقام في صفوف أكثر تماسكا وتنظيما، وكانت أعداد هائلة من الأصفار تتصدرها..لتتعقبها أعداد هائلة أخرى من الرقم ” واحد “..وكأنها دروع وراءها رماح حادة..وينطلق هذا الجيش العرمرم في هجمة حربية واحدة نحو الكاتب الكبير، ويحاصره من جميع الجهات..وتنفلت بعض الأرقام من الصفوف كفرسان يستهدفون المبارزة..لتحط على أنفه وأذنيه وتبدأ عملية القرص واللدغ، فلا يملك المسكين الكبير إلا الصراخ..لكن الأرقام تتجمع من جديد حول فمه فيختفي صراخه.. ويوقن بهزيمته فيسلم قدميه للريح تاركا القاعة ملكا للأرقام المنتصرة..ويتلاشى في الخارج..
وعلى الأرض..كانت أوراق الكاتب الكبير منثورة هنا وهناك..وكانت الأرقام تقرضها تدريجيا إلى أن تلاشت بدورها.
محمــــد فــــري