ثلّة أصدقاء. أحد منا لم يكن قد تجاوز العشرين. كل خميس نذهب إلى بيت الأستاذ. بيته هناك وسط مزرعة قرب قرية بعيدة في الجبل.
نسميه دون تحفّظ بل وبفخر "الأستاذ". نتجادل ، نثير مواضيع ، نقرأ كتباً.. جميعاً كنا مهجوسين بعالم آخر.
في خميس ما ، وكان الطقس شتاءً ، كان يوماً بارداً.. بارداً غائماً. جالسين في مؤخرة الباص كما العادة نحن الأربعة.
انتبه "سين" إلى ذلك الجرف الصخري على يسار الطريق. كلنا انتبهنا كأننا نرى ذلك للمرة الأولى. "سين" انطلق كالمجنون يحكي عن منام رآه البارحة. انصعقنا، صرخنا بصوت واحد: "عجيب"..
"ع" قال: "غير معقول ، أنا رأيتُ نفس المنام". "م" "أوه"، قال.. هل أنت متأكد.. هل أنتم.. وأنا لاأعرف ماذا كنتُ أقول ، كنتُ أحتاج لأصدّق ما أسمعه.
أثارت ضجتنا جميع من في الباص. تبادلنا تفاصيل المنام لكي نتأكد. كلّ منا روى المنامَ نفسَه؟ التفاصيل نفسها. كنا نريد من الباص أن يلتهم المسافة ، أن يوصلنا بأسرع وقت إلى بيت الأستاذ أو إلى.. أقدارنا.
في المسافة بين الطريق الرئيسي وبيت الأستاذ لم يكن أحدٌ يسمع أحداً. كانت أصواتنا مثل فرقعات حريق هائل. ما أن وصلنا ، استقبلنا الأستاذ بابتسامته وقد بدا أكبر من عمره بكثير. خلعنا أحذيتنا على العتبة دون أن نتفق على ذلك. من المدخل إلى غرفة الجلوس مضينا كأننا نقطع جبلاً كاملاً من الفرح والتوجُّس ، من الزمهرير والينابيع.
بكل سلالاتنا المتدافعة التي أكدها المنام ، ونحن نتربّع حول المدفأة ، تّمَزَّقْنَا ، انكشفنا لعبة طازجةً من الأطياف.. من خيوط الرموز.
كان الأستاذ على غير عادته وضع كمية كبيرة من البخور على مدفأة الحطب. غيمة البخور في الغرفة كانت واطئة ، الملكوت كله لهذه الغيمة.. لهذه الريح الصغيرة التي تعصف في فضاء الغرفة.. للنار وقد استطاعت أن ترفع اسمها أحمرَ مرفرفاً.
مثل ملائكة مؤقتين نحرس بنظراتنا مزاج هذه الريح الصغيرة ، نحرس رائحة أرواحٍ تدلَّتْ من حناجرها السديمية بين أيدينا.
"م" بحركات خفيفة حضَّر ابريق الماء الساخن وكؤوس المتّة.
خوَّلْتُ نفسي أن أبدأ الحديث ، وأذعن الجميع.
قلتُ: "أستاذ!! ثمة شيء أقلُّ ما يُقال فيه..."
بدأتُ أتلعثم: "لقد..لـ ق د.. رأينا البارحة جميعاً حلماً واحداً". سكتُّ ، كنت أبحث عن كلمات ، لبرهة شعرتُ أنني نسيتُ المنام ثم هممتُ بـ.. قاطعني الأستاذ بحركة هادئة من يده:
- الملكة التي جاءت من هناك ، صادفتَها أنتَ\كلكم قرب بركة ماء تحوطها صخور بنيّة ، على حافّاتها مشاعل صغيرة. الملكة بكامل روعتها قالتْ: "كنت أعرف أنني سأراك، أنك ستأتي.." وجَرَّتْكَ\جرَّتْكُمْ إلى الماء.
مشدوهين نتأرجح بين تحفّزٍ ملتاعٍ منتشٍ وبين هدوء رخوٍ عميق.
قال "سين": الصخور بنية قاتمة مدببة ولكن بحنوّ ، غابة صخرية تضمُّ البركة ، عتمة رقراقة كأنها وجه الماء في الجوّ.
"م" قال: الماء صافٍ عذب تنعكس عليه أضواءٌ حانيةٌ لقمرٍ برتقالي وظلال مشاعل النار تهتز وتتراقص على الماء ، مشاعل مغروسة بهندسة مذهلة كأنها لم تطفأ منذ الأزل تتخللها مخلوقات طيفية تبدو وتختفي.
"ع" قال: الملكة خارقة الجمال ، تجلس على الطرفِ القصيِّ من البركة لابسةً ثوب راعية أو ربما هو ثوبها الملكيّ وقد اهترأ . بيدها قصبة مقطّعة بعقدٍ ملوّنة ، شعرها غيمة مستحيلة..
قلتُ: الملكةُ وقد انداحَ عنها فستانها ولمعَ جسدٌ عبقريٌّ ، وضعتْ القصبة بين شفتيها، لاأعرف إذا ماسمعتُ كلاماً أو موسيقا ، لكني فهمتُ إنها ندهتني.. مسكتْ يدي.. ياإلهي ، أية رعشةٍ هذه.. مثل جسدين من النجوم والعصافير رحنا عميقين في الماء.
ربما الأستاذ هو من قال لنا ، أنا شخصياً لم أعد أذكر سوى أن صوتاً مشبعاً بحرير الغيب وصلني ، أقصد (وصَلَنا)..
- "إنها الملكة.. الأنثى التي لاتضاهى ، روح المستحيل الذي تحقّق في جسدها.. إنها.. إنها هناك في غابة القصب قرب النهر الشمالي.. إنها ضائعة وجريحة."
كلّنا ارتجفنا ، كأننا مخلوقات قطعت رحلة طويلة من أول الأزمنة إلى هذه اللحظة. كنا نلهثُ.. نرتجف.. نبكي ، دموعنا بلّلتِ المكان.
لم تعد تسعفني الذاكرة.. ماأعرفه...
أحدٌ لم يخبرْ أحداً ، أحد لم يستشِرْ أحداً ، جميعاً مضينا إلى الغابة ، كلٌّ على حدة. دخلنا الغابة من جهاتٍ متفرِّقة. أحدٌ لم يلتقِ بأحد.
كنتُ أسمعُ صرخاتٍ ، وحدي كنتُ أعرف أنها صرخاتُ أصدقائي المتوهِّمة ، لأنني وحدي وجدتُ الملكة أكثر بهاءً ممّا قيل ، شعرها عالق بقشور القصب.. ركبتها اليسرى مجروحة ، تحوم حولها الفراشات.. في يدها كومة من الحصى تنبعثُ منها موسيقى نادرة.. وكانتْ تحادث الطيور بلغةٍ لاأفهمها ، قصفَني صوتها ، سقطّتُ...
كنتُ أرقبُ تمايلَ القصبِ ، لمعان الحشرات ، غزل ريحٍ صغيرةٍ للأخضر العشبيّ فوق صدرها. كألفِ طفلٍ كنتُ أبكي.. أبكي. قادني ارتجافي إليها ، لم أكن أستطيع النطقَ ، ولاأعرف إذا كانتْ هي أعارتني انتباهاً أم لا..
فجأةً ، لاأعرف من أين أتتني هذه الطاقة: "أنتِ هي الملكة"، وكاد يغشى عليّ. طفقتُ أتحدثُ ، أتلألأ ، أياماً وأنا أتحدّثُ ، أرقصُ ، أبكي فرحاً. قالت الملكةُ: "لابأس".. ثم دعتني لأعانقها.. لم أصدّقْ كلّ هذه الغبطة. ثم فجأةً طردتني. قالتْ: "مازلتَ تحمل شيئاً من تلك الأمكنة الجائرة". ثم عادتْ وندهتني..ثم.. ثم...
هكذا خلَّعَ مشاعري هذا العصفُ المجنون ، هكذا بعدما استنفدتُّ كل حواسّي.. بعدما كدتُ أموت ، لاأعرف من أين أتتني كلّ هذه الطاقة لأهرب.
هرمتُ ، شيخاً صرتُ. لكن أية قسوةٍ هذه ،أيُّ ندم. كيفما اتّجهتُ.. في كلِّ الأمكنة ، مازلتُ أبحثُ عنها ، يحدوني أمل غامض.. ويأسٌ ملفع بالخوف.. يؤجِّلان موتي.
بكل سلالاتنا المتدافعة التي أكدها المنام ، ونحن نتربّع حول المدفأة ، تّمَزَّقْنَا ، انكشفنا لعبة طازجةً من الأطياف.. من خيوط الرموز.
كان الأستاذ على غير عادته وضع كمية كبيرة من البخور على مدفأة الحطب. غيمة البخور في الغرفة كانت واطئة ، الملكوت كله لهذه الغيمة.. لهذه الريح الصغيرة التي تعصف في فضاء الغرفة.. للنار وقد استطاعت أن ترفع اسمها أحمرَ مرفرفاً.
مثل ملائكة مؤقتين نحرس بنظراتنا مزاج هذه الريح الصغيرة ، نحرس رائحة أرواحٍ تدلَّتْ من حناجرها السديمية بين أيدينا.
"م" بحركات خفيفة حضَّر ابريق الماء الساخن وكؤوس المتّة.
خوَّلْتُ نفسي أن أبدأ الحديث ، وأذعن الجميع.
قلتُ: "أستاذ!! ثمة شيء أقلُّ ما يُقال فيه..."
بدأتُ أتلعثم: "لقد..لـ ق د.. رأينا البارحة جميعاً حلماً واحداً". سكتُّ ، كنت أبحث عن كلمات ، لبرهة شعرتُ أنني نسيتُ المنام ثم هممتُ بـ.. قاطعني الأستاذ بحركة هادئة من يده:
- الملكة التي جاءت من هناك ، صادفتَها أنتَ\كلكم قرب بركة ماء تحوطها صخور بنيّة ، على حافّاتها مشاعل صغيرة. الملكة بكامل روعتها قالتْ: "كنت أعرف أنني سأراك، أنك ستأتي.." وجَرَّتْكَ\جرَّتْكُمْ إلى الماء.
مشدوهين نتأرجح بين تحفّزٍ ملتاعٍ منتشٍ وبين هدوء رخوٍ عميق.
قال "سين": الصخور بنية قاتمة مدببة ولكن بحنوّ ، غابة صخرية تضمُّ البركة ، عتمة رقراقة كأنها وجه الماء في الجوّ.
"م" قال: الماء صافٍ عذب تنعكس عليه أضواءٌ حانيةٌ لقمرٍ برتقالي وظلال مشاعل النار تهتز وتتراقص على الماء ، مشاعل مغروسة بهندسة مذهلة كأنها لم تطفأ منذ الأزل تتخللها مخلوقات طيفية تبدو وتختفي.
"ع" قال: الملكة خارقة الجمال ، تجلس على الطرفِ القصيِّ من البركة لابسةً ثوب راعية أو ربما هو ثوبها الملكيّ وقد اهترأ . بيدها قصبة مقطّعة بعقدٍ ملوّنة ، شعرها غيمة مستحيلة..
قلتُ: الملكةُ وقد انداحَ عنها فستانها ولمعَ جسدٌ عبقريٌّ ، وضعتْ القصبة بين شفتيها، لاأعرف إذا ماسمعتُ كلاماً أو موسيقا ، لكني فهمتُ إنها ندهتني.. مسكتْ يدي.. ياإلهي ، أية رعشةٍ هذه.. مثل جسدين من النجوم والعصافير رحنا عميقين في الماء.
ربما الأستاذ هو من قال لنا ، أنا شخصياً لم أعد أذكر سوى أن صوتاً مشبعاً بحرير الغيب وصلني ، أقصد (وصَلَنا)..
- "إنها الملكة.. الأنثى التي لاتضاهى ، روح المستحيل الذي تحقّق في جسدها.. إنها.. إنها هناك في غابة القصب قرب النهر الشمالي.. إنها ضائعة وجريحة."
كلّنا ارتجفنا ، كأننا مخلوقات قطعت رحلة طويلة من أول الأزمنة إلى هذه اللحظة. كنا نلهثُ.. نرتجف.. نبكي ، دموعنا بلّلتِ المكان.
لم تعد تسعفني الذاكرة.. ماأعرفه...
أحدٌ لم يخبرْ أحداً ، أحد لم يستشِرْ أحداً ، جميعاً مضينا إلى الغابة ، كلٌّ على حدة. دخلنا الغابة من جهاتٍ متفرِّقة. أحدٌ لم يلتقِ بأحد.
كنتُ أسمعُ صرخاتٍ ، وحدي كنتُ أعرف أنها صرخاتُ أصدقائي المتوهِّمة ، لأنني وحدي وجدتُ الملكة أكثر بهاءً ممّا قيل ، شعرها عالق بقشور القصب.. ركبتها اليسرى مجروحة ، تحوم حولها الفراشات.. في يدها كومة من الحصى تنبعثُ منها موسيقى نادرة.. وكانتْ تحادث الطيور بلغةٍ لاأفهمها ، قصفَني صوتها ، سقطّتُ...
كنتُ أرقبُ تمايلَ القصبِ ، لمعان الحشرات ، غزل ريحٍ صغيرةٍ للأخضر العشبيّ فوق صدرها. كألفِ طفلٍ كنتُ أبكي.. أبكي. قادني ارتجافي إليها ، لم أكن أستطيع النطقَ ، ولاأعرف إذا كانتْ هي أعارتني انتباهاً أم لا..
فجأةً ، لاأعرف من أين أتتني هذه الطاقة: "أنتِ هي الملكة"، وكاد يغشى عليّ. طفقتُ أتحدثُ ، أتلألأ ، أياماً وأنا أتحدّثُ ، أرقصُ ، أبكي فرحاً. قالت الملكةُ: "لابأس".. ثم دعتني لأعانقها.. لم أصدّقْ كلّ هذه الغبطة. ثم فجأةً طردتني. قالتْ: "مازلتَ تحمل شيئاً من تلك الأمكنة الجائرة". ثم عادتْ وندهتني..ثم.. ثم...
هكذا خلَّعَ مشاعري هذا العصفُ المجنون ، هكذا بعدما استنفدتُّ كل حواسّي.. بعدما كدتُ أموت ، لاأعرف من أين أتتني كلّ هذه الطاقة لأهرب.
هرمتُ ، شيخاً صرتُ. لكن أية قسوةٍ هذه ،أيُّ ندم. كيفما اتّجهتُ.. في كلِّ الأمكنة ، مازلتُ أبحثُ عنها ، يحدوني أمل غامض.. ويأسٌ ملفع بالخوف.. يؤجِّلان موتي.