إذا أحصينا ما يُستعصى على النّسيان ليعشّش في الذّاكرة ويصبح وكرًا ثابتًا ومستقرًّا نأوي إليه في كل موسم يحضن أفكارنا كي نزوّد العالم بما يتناساه الإنسان عمدًا من شدة ألم فوات مطلوب، نعثر في قائمة المنقوش على جبين أحجار جبال خمير والمحفور على جذوع شجر الفلين والزّان والمطبوع على ثرى طرق البداوة والقرى الرّيفية النائمة بين أحضان جبال خمير، تحاكي في جمالية اختبائها أعشاشًا بحثنا عنها في لحظات الطّفولة، نعثر على رواية "ورقات من تباريح الأيام" لكاتبها عبد الرزّاق السّومري ابن مدينة عين دراهم الواقعة شمال غرب البلاد التونسية أين ولد وتعلم من قمم الجبال وقساوة الطّبيعة فنّ التّحليق بواسطة الرّيح ضد الرّيح مسكونًا بهاجس الإشراف من علوّ شاهق على ما لا تراه عيون العابرين في الطّرق المتعرجة. أين يمكن لشجرة واحدة أن تُخفيَ الحقيقة؟ وأين يمكن لمنعرج واحد أن يجعلنا نتخفّى عن أنظار من يلاحقوننا؟ كي يسدّوا علينا منافذ العبور الى جمال المنسيّ والمهمّش والمقصيّ والمتروك لأقداره تعبث بوحدته وتفرّده لتسكن كأرواحٍ شرّيرة بيوتًا مهجورة أو مقابر منسيّة أو نفوسًا طيّبة جرحت قساوة الزّمن لحمها الطّريّ وأنهكها المسير، لكن خطواتها رسمت للقارئ طُرقا نعبر منها السّبيل إلى ولادة المعنى وسكينة الرّوح حين يأخذنا الكاتبُ الى عوالم ليس لنا بها عهد، تختزن جمال المحكيّ وتروي تفاصيل الآلام، لا لكيْ ينتشل تلك العوالم من النّسيان والتّلاشي فقط، بل لينبّهنا أيضًا إلى إمكانية الإحساس بأنّنا أحياء، وأنه ثمة فرق بين أن نعيش كالعُميان أو أن نشعر بالحياة ونتملّى التّفاصيل. أحيانًا ينتابك شعورٌ وأنت تقرأ نصّ التّباريح، أنّه من جنس رواية التّفاصيل، وبالتّفاصيل يرأب الكاتب شروخ الذّاكرة ويحاول لملمة النّسيان وإعادة الهامشيّ والمنسيّ والمقصيّ إلى حرم الذّاكرة الجماعيّة تفصيل نقرأها في تاريخ هروب المعارضين السياسيين عبر الوادي الكبير إلى الجزائر، في ليالي السّمر والحكايات والمواويل القديمة، في مواسم الغجر وبدايات الخريف، في ليالي الأنفاق في باريس، في تلك الرخامة المنقوشة على بيت "إديث بياف" في "بال فيل" والتي تحكي كيف ولدت على الرصيف ثمّ هزّ صوتها العالم.
إنّ أخطر ما يمكن أن يصيبَ المنسيَّ، هو أن تمنحه الطّبيعةُ ذاكرةً لا تفْلُتُ من شباكها شاردةٌ أو واردةٌ. ولعل هذا هو مُصابُ عبد الرزّاق السّومري الذي أبى إلاَّ أن يُذكّرنا بكل تباريح أيام إبراهيم جوابلية سيّد المنسين وأشدّهم مقاومة لكل ما يمكن أن يتصيّد أحلامه بشباكٍ تارة يحيكُها التّاريخ وطورا تصنعها الجغرافيا. ولم يكن هناك من خلاص سوى تمزيق شباك القدر، في وسط خلا تمامًا من أي وسيلة يمكن أن تعضُد إرادته في تخطي أحجار طرقه وأشواك ثناياه صوب ما يمكن أن يمنحه الأملُ في الظّفر بحياة تشبه حياة البشر، أولئك الذين تبدو عليهم علاماتُ البِشْرِ ليعودوا الى أرضهم ببِشَارةٍ للمنتظرين قدومه من رحلة أشدّ عليه من ليلة شتوية باردة في العراء وأقسى من عودة المهزوم وقد خسر الرّوح والجسد وفرحة الأطفال.
إبراهيم جوابلية بطلٌ منسيٌّ استوطن في قلبه كلَّ منسيٍّ وكلَّ المنسيّين. سكنته قريةُ "عين سعيدة" قبل أن يسكنها بملامحها الرّيفية وجمال طبيعتها السّاحرة بين مدينة طبرقة وعين دراهم متاخمة للحدود الشّمالية من الجهة الغربية. إنّها الحضن المنسيّ الذي ضمَّ إبراهيم جوابلية كما تضمّ أمٌّ حنونٌ سرقت الأيّامُ منها نضارةَ الوجه وأبقت فقط على الخطوط العريضة للجمال في عينيها. هي تلك التي زرعت بيوتها على السّفوح وقد شُيّدت من جلّة البقر المجبولة بالتّبن والسّمار. مدينة كان جد إبراهيم الكامل يوقظ صمتها ويستفز هدوءها بالغناء والمواويل. إنه بذرة الفنّان الأولى المنسية، بأغانيه التي ترجف لها القلوب وتنتفض على أنغامها خصور النّساء. إنّه الجدُّ المنسيُّ الذي نبتت منه البذرة الأولى عند إبراهيم جوابلية، حتى أنّه بقي مجهول المصير واختفى في تضارب أقوال مُحبّيه، بين من يتحدث عن قتله لفتنةٍ في فنه، وبين من يؤكد رؤيته هائما يتسول على أبواب المقابر في الجزائر.
"عين سعيدة" مدينة تنامت فيها نبتةُ الفنّ البرّية، فورث إبراهيم جوابلية حظّ جدّه الكامل عندما قتل برصاصات الغدر، لا لشيء، إلّا لأنّه محبٌّ للحياة بشكل جنوني. هتك بموجبه قوانين لُعبة الكبار حين أراد أن يبني حُلْمًا حتى وإن كلّفه ذلك حياته.
تدور حول إبراهيم جوابلية أحداثٌ وشخصياتٌ غرفها الكاتب من قاع الذّاكرة البدوية، وافتكّها من براثن النّسيان، إمّا لأنّها تلامس الأجساد الميّتة في صمت، أو ربّما لأنّها تلاطف القلوب المتعطّشة للحظة حبٍّ وعطفٍ، أو لكونها هامشيّة تتسلى إن ضاقت بها أحوال الدّنيا بالتّلذذ بخلق روايات موغلة في المبالغة إلى حد الكذب الّذي يجد فيه المحرومون والمنسيون ملاذًا أخيرًا للنجاة والخلاص من أسر الواقع المُسيّج بقيم البداوة القاسية وندرة أسباب الضّحك.
ليس من اليسير على قارئ يؤمن بعمق الكتابة أن يهمل التّفاصيل، غير أن ذكرها يعتدي على حبكة نسيج أحداثها وينتهك خصوصية المكان وطرافة الشّخصيات، ولذلك سنعتمد في قراءتنا للرّواية على فكرة ناظمة ندّعي أنّها قبضت بكلتا يديه على عنق الألم الذي كابده أبطال الرّواية بين الاكتفاء بالموجود والتّوق للمنشود، بين لعنة الماضي والحاضر، ووعد القادم. إنّها عالم بأسره، لا يمكن للتّحبير على ورق أبيض أن يتجاسر على إعادة خلقه، ولكنّنا، مع ذلك، سنحاول وصف الأثر الذي تركه عبد الرزّاق السّومري في كل من يشعر بالقرب لعين سعيدة في مستوى المكان أو التّخييل أو التّمثل، ولعله أثرٌ يُشعر القارئ بعد الانتهاء من الرّواية بأنّ القهرَ والحسرة لا يقعان على الكلّ بنفس الشّاكلة، وأنّ الفرديَّ والجزئيَّ يحملان خصوصيّة الكليّ ويضيفان إليه قليلاً، لأنَّ هُويّة المأساة لا تستمدّ صلابتها من شخصيات سَطع نجمُها في التّاريخ أو أمكنة متعارف عليها فحّج إليها السّوّاح في كل صيفٍ أو شتاء، أو أزمنة عجت بالأحداث الكبرى وقلبت أنظمة العالم وغيرت مجرى التّاريخ، بل من عالم الرّعاة والبحارة وروّاد المقاهي وسكّان المقابر والمتشردين وبائعات الهوى والبسطاء من عامة النّاس، وأحيانا - وهو ما يعمق الماساة- من عالم فنّاني الرّصيف والأنفاق الّذين ضيّعوا سبل الوصول الى النّجاح وطواهم النسيان. وها هو إبراهيم جوابلية واحد منهم، وقد لاحقته -وهو طالب في كلية الفنون الجميلة- صورة مُعلّم التّصوير وهي فكرة المتطفلين من القرية وحديث العوامّ، وهي نفس القرية التي اختُزلت فيها أحلامُ سكانها في "ترشف كأس من الشّاي في لحظة صفاء وهم في حل من العوز والدّيون" على حد تعبير الكاتب. هؤلاء المنسيون هم في الواقع ثقوبٌ سوداء في ضِياء زمن الحداثة والعدالة والدّيمقراطية وحقوق الانسان والعولمة بما تدعيه من انمحاء للحدود والفواصل والتّفاضل بين البشر يعبر عنها المكان بين "عين سعيدة" و"العيون" و"أمّ الطّبول" و"السّوارخ" وغيرها من القرى الحدوديّة المنثورة على الجبال مثل "نُدف الغيوم".
لم تكن عملية الحفر في المنسيّ والمنسيّين تستهدف شخصيات ريفية وأحداثا بدوية فحسب، بل امتدّت إلى أماكن أخرى مثل "راس الرّاجل" و"عين الصبح" وجزيرة "جالطة" وقرى جزائرية كالسوارخ وعنابة و"الطّارف" و"الذرعان" وطالت كذلك باريس في "بال فيل" ومقاهيها و"سان ميشال" و"مونمارت" ومقابرها و"مرسيليا" و"كان" و"نيس" و"الكورس".
و بالإضافة إلى إبراهيم جوابلية سيّد المنسيّين، يعرض الكاتب شخصياتٍ أخرى طواها النّسيان وكادت تنفرط من الذّاكرة الجماعيّة، فنُلفيها مبثوثةً في الرّواية بحبكة شديدة الإتقان كالشّاعر السّريالي والصّحافي فريد العريبي المدفون بمقابر "مونمارت" والرسّام الرّوسي "كاندسكي" الذي زار تونس سنة 1903 وكذلك والمغني الطّبرقي الإيطالي "بيار دولا غاليت" والشّاعرة المصرية السّريالية المغمورة "جويس منصور" والصحافي المغربي محمد الباهي أضف الى ذلك حضور البعد السياسي في فترة الستينات والسبعينات كهروب بعض المعارضين عبر الحدود الجزائرية.
إنّ العودة الى المنسيّ والمغمور في رواية عبد الرزاق السّومري "ورقات من تباريح الأيام" لم تكن عودة حزينة يائسة يستبد بها الحنين الى الأحداث الماضية وبساطة حياة الجبل والقرى الرّيفية وآلام التّشرد والعوز والحرمان في باريس، بل كانت عودة تنفخ الرّوح في ما طواه النّسيان من قيم وعاداتٍ وأحداث تذكر بما يمكن أن نضحّيَ به في سبيل نحت الكيان وإثبات الذّات والدّفاع عن الهوية والخصوصية الثّقافية والحضارية بين عالمين فرّق بينهم البحر ووحّدتهم المقابر إذ تدفن أحلام المشرقي في الغرب كما تدفن مطامح الغربي في الشّرق ويبقى الأحياءُ منّا والأوفياء منهم يبحثون دائما عما يرتّق به فتق المسافة وآلام اليُتم وقهر الحرمان وجراح اللااعتراف..
وأنتَ تقرأ الرّواية سينتابك حزنٌ وألمٌ يخترق حواشيك وينفذ ما بين الضّلوع، وفي نفس الوقت ستنفجر ضحكًا وستقهقه وحدك على أديم الورق حتّى تبتلّ دموعك، ضحكٌ مثل البكاء. تلك هي لعبة السّخرية السّوداء والهزل المُرّ، الذي دأب عليه السّومري في نصوصه الرّوائيّة وأعماله القصصيّة.