لو تعرفين وهل إلاَّك عارفة هموم قلبي؟ رددت الكلمات مرارا وأنا أحس كأنما هي كلماتي آتية من الأعماق يغلفها الحزن ويجللها إحساس بانكسار في داخلي. كادت أن تهمي دمعة من عيني. ترقرقت ولكنها تحجرت في الجفن. تذكرت أمس حزني المكبوت وقهري الصامت وبكائي في سواد الظلام كي لا تحس بي أمي فيصيبها الحزن وتشرع في البكاء والنشيج.
كانت فيروز تغني بصوتها الملائكي والدنيا تألقت باشراقة نورانية. كان الفضاء صحوا والهواء باردا عليلا في صباح من صباحات نيسان. لكن الأمر لم يخل من إحساسي الدائم بالحزن يسري في أعماق القلب وفي شراييني فأحس باضطراب داخلي . بدت الدنيا كلوحة انطباعية بألوانها اللازوردية الزاهية من ريشة فنان كرذاذ أثيري رائع. لكن إحساسي بالحزن صار غريزيا. لقد تغير شيء ما في داخلي. لم أعد أنا ذاتي. أفكر بالألم قبل اللذة، وأستشعر الحزن قبل الفرح. نيسان يثير فينا ذكريات. يوقظ الشجن وينكأ الجراح. نيسان وما أدراك ما نيسان. تذكرت اليوت حين قال انه أقسى الشهور ينبت الزنابق في الأرض اليباب. أحس نفسي مثل صحراء جرداء لم يعد ينبت فيها نخيل وجفت واحاتها. صار البيت عالمي الوحيد وأرضي اليباب. كنت أشعر بالضيق والاختناق أول الامر، لكنني تعودت عليه وطوعت إرادتي وآمالي وأحلامي لتعيش فيه بغير شكوى أو حزن. لم تعد الوحدة ترعبني كما كانت أول الامر.
لم يعد سجنى الصغير هذا يسبب لي انتكاسة نفسية كما كان في السابق. فلم أعد أشعر برغبة للخروج أو الالتقاء بالناس. فكما قال أحدهم الآخرون شر! أنني محتجزة في هذا البيت بإرادتي. ولكن الرغبة تلح علي بين حين وأخر. إحساس قاسٍ يثور بداخلي. أحاول أن اقمعه ولكنني بشر يؤرقني حب الحياة وإطفاء الضرام حين يشتعل بالقلب. تثور ثائرتي وأنا أرى أحلامي قد قتلت وما تزال تقتل في كل يوم وأشواقي تختنق وتموت في مهدها.
تجلس أمي في مقعدها المتحرك أمامي تتمتم ببضع كلمات. تنظر إلي بين فينة وأخرى. كنت اقرأ في الكتاب أمامي واختلس النظر اليها. أرى في وجهها كل وقائع سنوات الشقاء والعذاب. تتلاقى أعيننا . ندعي الصدفة. ثم أعود للكتاب مرة أخرى. لا أعرف لماذا قررت دراسة اللغة الايطالية. هل هو الفراغ أم الاحساس بعقدة النقص حين أرى الاخرين يتكلمون بلغات أخرى فلا أفهم ماذا يقولون؟ لست أدري. كان خالد يحاول أن يعلمني الفرنسية. كان ذلك منذ سنوات طويلة ونحن في بداية المشوار، ولكني لم أعر الأمر اهتماما. التقطت بعض الكلمات والعبارات التي بالكاد تنفع في أي حديث قصير. كان يتقن الفرنسية إلى حد كبير وأراه في كثير من الأحيان يمسك كتابا وهو مستغرق بقراءته. كان يجد مشكلة في العثور على الكتب التي تثير اهتمامه. ولكنه كان يشتري بعض الكتب عندما يجدها. كانت عندي رغبة كبيرة أن أتعلمها وقد لاحظ علي ذلك فصار يساعدني على التعلم ويشرح لي بعض الكلمات والجمل.
نظرت الى أمي. بدأ رأسها يميل إلى الأمام. يبدو أن النعاس بدأ يغالبها في هذا الصباح وهي تجلس في الضوء الذي يملأ أرجاء الغرفة. أمي رفيق وحدتي وأنيس حياتي بعد الذي جرى. تقسو علي كثيرا في بعض الاحيان فأحترق من داخلي قهرا وغيظا، ولكني تعودت أن اسمع واسكت. لم أكن استطيع أن أغضبها او أرد عليها بما يعكر صفوها، فقد صارت ضعيفة حساسة يتعبها أي شيء. وبرغم ذلك فهي سندي في هذه الحياة. أشعر بالضعف أمامها، وأنا ضعفها هي. قبل ان يصيبها المرض كانت قوية عنيدة المراس. كانت تدير شؤون البيت كما لو أنه مملكتها هي لوحدها. كان أبي لا يحب مجادلتها او مقاومة عنادها. وكانت هي تدرك ذلك. فنشأت انا واخوتي نخشاها ونخشى سطوتها المهيبة. حنونة الى بعد أحد. ولكن لا تبدي ضعفا او خضوعا أنثويا كما تفعل النساء.
عندما أراها بهذا الضعف الان أحس بالحزن في قلبي. اخشى عليها من أي شيء. لا أتصور حياتي الان بدونها. لو صار لها شيء سأموت حزنا وربما يقع لي شيء ولا احد من إخوتي سيعرف ذلك. وربما نموت ونشبع موتا وهم ليس لديهم علم! وجودها يجمعنا حولها. ورغم ان كل واحد منهم قد أخذته الحياة فلم تعد الروابط بعمق الماضي ولا حرارته، الا ان وجودهم حولها في البيت يعطيني نوعا من الثقة والأمان.
أرى في عيون أمي حزن دائم وأحس في كلماتها رقة كأنما تريد ان تمسح جراحي بلمسة حانية محاولة لارضائي. توقفت عن التيه في افكاري. لململت خيالي واستجمعت نفسي مرة أخرى من بين يدي الحزن والبؤس. عدت اقرأ في الكتاب مرة أخرى. اه من احلامي التي عذبتني. كل أحلامي تتوقف في منتصف الطريق. أريد ان اتكلم الايطالية بطلاقة فانا أشعر انها لغة جميلة وهذا ما يشجعني على الاستمرار. يجب ان استعد اليوم فاليوم ستأتي سناء وستسألني عن الواجب الذي أعطتني اياه المرة الماضية. صرت أكره موعد درس سناء. تأتي بعد العصر ثلاثة ايام بالاسبوع. تدرسني الايطالية لمدة ساعتين في كل مرة. صرت اشعر أنني صرت أعرف ان اقرأ ولكني ما زلت لا أثق ان اقول جملة واحدة من غير اخطاء رغم مضي شهر على دروسي. فما الفائدة اذن؟!
عدت الى الكتب والاوراق أمامي. قررت أن اركز بها. أخذت أدرب نفسي على لفظ الكلمات الجديدة. وانا أقلب الصفحات والاوراق وقعت الرسومات من بينها أمامي. أمسكت بها. أخذت أتأملها. رسومات طفولية أحتفظ بها منذ زمن طويل. وقد غلفتها بالنايلون كي أحافظ عليها. أطلت النظر وانا أتامل بها. لم أتمالك نفسي. دمعت عيوني ولم استطع منع نفسي من البكاء. تحسست بأناملي على الخطوط والالوان. رسومات بريئة والوان طفولية. نظرت الى رسمي فيها. خطوط تمثل وجه أم تقف هناك امام بيت صغير له نوافذ وباب وبجانبه شجرة ذات أوراق خضراء. وفي السماء الوان زرقاء وعصافير صغيرة تفرد اجنحتها. وفي اقصى الرسم جبال رمادية بعيدة يتخللها نهر بلون أزرق سماوي يجري مارا قرب البيت، والارض تم تلوينها بلون بني وعليها بعض الاعشاب الخضراء. وفي أعلى زاوية الرسم دائرة برتقالية تضيء وترسل أشعتها الذهبية.
انتبهت الى أمي كانت تنظر الي وانا احدق في الرسومات. سمعتها تقول الى متى ستظلي تبكين كلما نظرت الى هذه الرسومات؟ الله يعوض عليك ويحرق قلب من كان السبب مثلما حرقوا قلبك. زادتني كلماتها حرقة وألما فصرت أبكي بصوت أعلى. صارت أمي تحاول تهدئتي وأنا امسح دموعي الغزيرة على خدي. صرت اصرخ زينة.. زينة.. ماما.. يزن ماما أين انتما؟ بقيت انظر فيها وانا احاول كتم بكائي فلم استطع. مر اسبوعان منذ أتى عيد الام. ولم أسمع ماما مرة أخرى.. جاء عيد الام وراح ولم اسمعها. وكم عيد جاء وراح وانا قلبي يتحسر ويتمزق من الالم. قدمت لي زينة ويزن هذه الرسومات في عيد الام قبل سبع سنوات حينما كان عمرها ست سنوات ويزن خمس سنوات. وما زلت احتفظ بهم. اجمل وأغلى ذكرى بقيت لي منهما.
كان خالد يحب ان يصطحب الاطفال معه اينما ذهب. كان يحب ان يلاعبهم ويشاركهم العابهم الطفولية. كان يمثل الجانب المفقود في تكويني. كان النقيض لي في اللعب مع الاطفال. لم اكن اتحمل تدليل او مداعبة الاطفال او مشاركتهم العابهم. لم يكن عندي صبر عليها. كان ينتقدني احيانا انني لا اخصص وقتا لهم، ولكنه كان يدرك كم احب الاطفال وأحن عليهم. كانت طريقتي في التعامل معهم تختلف عنه .. لينة حينما لا ينفع الا اللين وحازمة حينما يتطلب الامر ذلك. بل كان احيانا يثور من حزمي الشديد معهم ويعتبرها قسوة لا داعي لها. كانا دائما يتعلقان به كلما اراد الخروج ويقفان له بالمرصاد عند الباب! كانا يحبان الخروج بالسيارة معه لتغييرالجو.
لا زلت أذكر تفاصيل ذلك المساء الخريفي من شهر تشرين الثاني قبل ثلاث سنوات. كان خالد مدعواً لحضور حفلة زفاف صديقه في العمل. سألني اذا كنت احب الذهاب معه فالدعوة عائلية. اعتذرت عن الذهاب فأنا لا اعرف صديقه ولا أعرف احد من أهله او عروسه. لم اشعر انني سآخذ راحتي هناك. فلا أحد أعرفه كي اتكلم معه، واذا كانت الحفلة غير مختلطة، فسأشعر بالملل بين اناس لا أعرفهم. ما اصعب ان تجد نفسك وحيدا بين أناس لا تعرفهم، وخصوصا اذا لم يبادر احدهم لكسر الجليد. تفهم خالد ذلك. قال انه سيذهب لوحده. سمعت زينة ويزن كلامه فقالا انهما يريدان الذهاب للحفلة وطلبا مني الذهاب مع أبيهما، وأخذا يلحان على الذهاب معه. نظر خالد في وجه زينة ويزن وقال انه سيأخذهما معه. طلب مني ان أساعدهما في اختيار وارتداء اجمل ما لديهما من ملابس. فرحا بذلك كثيرا. ودعتهم عند الباب ورجوت خالد ان ينتبه لهما ولا يتركهما يغيبان عن عينه. كنت دائما اوصيه ان ينتبه لهما كلما كانوا يخرجون معا. فهما املي في هذه الحياة اللذين رعيتهما بماء عيني ودم قلبي.
بعد حوالي الساعة والنصف رن الهاتف. اسرعت ارد على المكالمة. كان صوت رجل يبدو عليه التأثر والاضطراب رغم انه حاول ان يصطنع الهدوء. كان يسأل اذا كان هذا بيت خالد. أخبرته أنني زوجته. طلب مني الحضور فورا للمستشفى. صعقت لم أتمالك نفسي. صرخت به أخبرني ماذا حدث؟ طلبت منه أن يخبرني ماذا حصل؟ صرت اصرخ واصيح من الصدمة، ولكنه لم يجبني. بقي يكرر انه من الضروري الحضور للمستشفى لأمر طاريء قد حصل. كنت على وشك الانهيار من الخوف؟ ماذا حصل لزوجي وأولادي؟ اضطربت من الذهول وأنا أبكي وأصيح. شعرت بجسمي يرتجف وقلبي يخفق باضطراب من الخوف. لم أتمالك نفسي.. وقعت على الارض.. امسكت بالهاتف واتصلت بأخي الاكبر.. لم استطع ان أحافظ على هدوئي. بقيت ابكي وأنا أخبره بما حصل بصوت متهدج وانا انشج من الالم والحزن.
جاء اخي سريعا وكان يبدو عليه الخوف.. لم يستطع ان يسألني فقد كنت بحالة مزرية.. اسرع بنا الى المستشفى.. كانت أصوات سيارات الاسعاف تملأ الشوارع وهي تتحرك سريعا، ورايت رجال الشرطة ينتشرون بأعداد كبيرة.. كان الجو مكفهرا والحزن يخيم على النفوس والصدمة بادية في عيون من رأيتهم. في الطريق للمستشفى شاهدت عدة سيارات للاسعاف تسير مسرعة باتجاه الطواريء وصوت صافراتها يثير الخوف والترقب. شعرت أن في الامرشيئا غيرعادي. ما أراه يدل على حدث جلل قد وقع.. بقيت ابكي بحرقة من الخوف والترقب وسمعت أخي يحاول تهدئتي. لكن احساسي بأن شيئا بالغ السوء قد وقع كان يؤرقني. صرت أتوقع الاسوأ ولم اعد اعرف كيف أفكر فكل لحظة تمر تزيد من هول الصدمة علي.
دخلنا من باب المستشفى بصعوبة فائقة رغم الاعداد المحتشدة عنده.. صرت اسمع الصراخ ونحيب النساء والرجال.. كان منظرا محزنا للغاية. شعرت أن الامر اصعب مما توقعت.. رأيت انه ما تزال هناك حالات تصل الى المستشفى..أخذ أخي يسأل عن مكان خالد وزينة ويزن..عندما أخبروني بالامر صرت اصرخ كالمجنونة .. صرت اصيح لا.. لا.. أريد زينة ..أريد يزن ..اين خالد؟ أريد أن أراهم. لم ادر ما حصل لي بعدها .. فتحت عيوني واذا بي على سرير في المستشفى .. لم اعرف ماذا حصل لي .. كانت امي تجلس في كرسيها بجانب سريري وهي تبكي بحرقة بصوت عال لم ارها في حياتي تبكي هكذا من قبل. احسست انني فقدت الوعي من الصدمة.. لم استوعب الامر.. صرت اصرخ واهذي وانا انتفض بالسرير أريد ان اقوم وهم يحاولون منعي والسيطرة علي.. شعرت بوخز ابرة في جسدي.. لم أدر بعدها ماذا حصل لي.. ولم استوعب الامر.. أصبت بنوبات هستيرية.. كنت أرى الناس تهجم علي تحاول منعي من الحركة ثم أشعر بوخزة ابرة فأغيب بعدها عن الوعي. عندما صحوت قال لي أخي الاكبر بصوت حزين مخنوق والدموع تفر من عينيه وهو يعتصر شفتيه ألما وحزنا أن مجموعة من الاشخاص قد فجروا قاعة الاحتفالات بالفندق الذي كانت تجري فيه حفلة الزفاف بالقنابل والمواد المتفجرة.
لقد احترقت أحلامي ورحلت زهراتي.. ورغم مضي هذه السنوات.. ما زلت أصحو في الليل وأنا أبكي واصرخ.. صارت تنتابني نوبات هستيرية.. لم أعد أرى من الدنيا سوى صور الالم والمرارة.. لقد تحطم قلبي واحترقت من الحزن.. انتفضت كما لو كنت في كابوس مرير.. انتبهت على صوت فيروز وهي ما تزال تغني لو تعرفين وهل إلاَّك عارفة هموم قلبي؟...
ايـــاد
تجلس أمي في مقعدها المتحرك أمامي تتمتم ببضع كلمات. تنظر إلي بين فينة وأخرى. كنت اقرأ في الكتاب أمامي واختلس النظر اليها. أرى في وجهها كل وقائع سنوات الشقاء والعذاب. تتلاقى أعيننا . ندعي الصدفة. ثم أعود للكتاب مرة أخرى. لا أعرف لماذا قررت دراسة اللغة الايطالية. هل هو الفراغ أم الاحساس بعقدة النقص حين أرى الاخرين يتكلمون بلغات أخرى فلا أفهم ماذا يقولون؟ لست أدري. كان خالد يحاول أن يعلمني الفرنسية. كان ذلك منذ سنوات طويلة ونحن في بداية المشوار، ولكني لم أعر الأمر اهتماما. التقطت بعض الكلمات والعبارات التي بالكاد تنفع في أي حديث قصير. كان يتقن الفرنسية إلى حد كبير وأراه في كثير من الأحيان يمسك كتابا وهو مستغرق بقراءته. كان يجد مشكلة في العثور على الكتب التي تثير اهتمامه. ولكنه كان يشتري بعض الكتب عندما يجدها. كانت عندي رغبة كبيرة أن أتعلمها وقد لاحظ علي ذلك فصار يساعدني على التعلم ويشرح لي بعض الكلمات والجمل.
نظرت الى أمي. بدأ رأسها يميل إلى الأمام. يبدو أن النعاس بدأ يغالبها في هذا الصباح وهي تجلس في الضوء الذي يملأ أرجاء الغرفة. أمي رفيق وحدتي وأنيس حياتي بعد الذي جرى. تقسو علي كثيرا في بعض الاحيان فأحترق من داخلي قهرا وغيظا، ولكني تعودت أن اسمع واسكت. لم أكن استطيع أن أغضبها او أرد عليها بما يعكر صفوها، فقد صارت ضعيفة حساسة يتعبها أي شيء. وبرغم ذلك فهي سندي في هذه الحياة. أشعر بالضعف أمامها، وأنا ضعفها هي. قبل ان يصيبها المرض كانت قوية عنيدة المراس. كانت تدير شؤون البيت كما لو أنه مملكتها هي لوحدها. كان أبي لا يحب مجادلتها او مقاومة عنادها. وكانت هي تدرك ذلك. فنشأت انا واخوتي نخشاها ونخشى سطوتها المهيبة. حنونة الى بعد أحد. ولكن لا تبدي ضعفا او خضوعا أنثويا كما تفعل النساء.
عندما أراها بهذا الضعف الان أحس بالحزن في قلبي. اخشى عليها من أي شيء. لا أتصور حياتي الان بدونها. لو صار لها شيء سأموت حزنا وربما يقع لي شيء ولا احد من إخوتي سيعرف ذلك. وربما نموت ونشبع موتا وهم ليس لديهم علم! وجودها يجمعنا حولها. ورغم ان كل واحد منهم قد أخذته الحياة فلم تعد الروابط بعمق الماضي ولا حرارته، الا ان وجودهم حولها في البيت يعطيني نوعا من الثقة والأمان.
أرى في عيون أمي حزن دائم وأحس في كلماتها رقة كأنما تريد ان تمسح جراحي بلمسة حانية محاولة لارضائي. توقفت عن التيه في افكاري. لململت خيالي واستجمعت نفسي مرة أخرى من بين يدي الحزن والبؤس. عدت اقرأ في الكتاب مرة أخرى. اه من احلامي التي عذبتني. كل أحلامي تتوقف في منتصف الطريق. أريد ان اتكلم الايطالية بطلاقة فانا أشعر انها لغة جميلة وهذا ما يشجعني على الاستمرار. يجب ان استعد اليوم فاليوم ستأتي سناء وستسألني عن الواجب الذي أعطتني اياه المرة الماضية. صرت أكره موعد درس سناء. تأتي بعد العصر ثلاثة ايام بالاسبوع. تدرسني الايطالية لمدة ساعتين في كل مرة. صرت اشعر أنني صرت أعرف ان اقرأ ولكني ما زلت لا أثق ان اقول جملة واحدة من غير اخطاء رغم مضي شهر على دروسي. فما الفائدة اذن؟!
عدت الى الكتب والاوراق أمامي. قررت أن اركز بها. أخذت أدرب نفسي على لفظ الكلمات الجديدة. وانا أقلب الصفحات والاوراق وقعت الرسومات من بينها أمامي. أمسكت بها. أخذت أتأملها. رسومات طفولية أحتفظ بها منذ زمن طويل. وقد غلفتها بالنايلون كي أحافظ عليها. أطلت النظر وانا أتامل بها. لم أتمالك نفسي. دمعت عيوني ولم استطع منع نفسي من البكاء. تحسست بأناملي على الخطوط والالوان. رسومات بريئة والوان طفولية. نظرت الى رسمي فيها. خطوط تمثل وجه أم تقف هناك امام بيت صغير له نوافذ وباب وبجانبه شجرة ذات أوراق خضراء. وفي السماء الوان زرقاء وعصافير صغيرة تفرد اجنحتها. وفي اقصى الرسم جبال رمادية بعيدة يتخللها نهر بلون أزرق سماوي يجري مارا قرب البيت، والارض تم تلوينها بلون بني وعليها بعض الاعشاب الخضراء. وفي أعلى زاوية الرسم دائرة برتقالية تضيء وترسل أشعتها الذهبية.
انتبهت الى أمي كانت تنظر الي وانا احدق في الرسومات. سمعتها تقول الى متى ستظلي تبكين كلما نظرت الى هذه الرسومات؟ الله يعوض عليك ويحرق قلب من كان السبب مثلما حرقوا قلبك. زادتني كلماتها حرقة وألما فصرت أبكي بصوت أعلى. صارت أمي تحاول تهدئتي وأنا امسح دموعي الغزيرة على خدي. صرت اصرخ زينة.. زينة.. ماما.. يزن ماما أين انتما؟ بقيت انظر فيها وانا احاول كتم بكائي فلم استطع. مر اسبوعان منذ أتى عيد الام. ولم أسمع ماما مرة أخرى.. جاء عيد الام وراح ولم اسمعها. وكم عيد جاء وراح وانا قلبي يتحسر ويتمزق من الالم. قدمت لي زينة ويزن هذه الرسومات في عيد الام قبل سبع سنوات حينما كان عمرها ست سنوات ويزن خمس سنوات. وما زلت احتفظ بهم. اجمل وأغلى ذكرى بقيت لي منهما.
كان خالد يحب ان يصطحب الاطفال معه اينما ذهب. كان يحب ان يلاعبهم ويشاركهم العابهم الطفولية. كان يمثل الجانب المفقود في تكويني. كان النقيض لي في اللعب مع الاطفال. لم اكن اتحمل تدليل او مداعبة الاطفال او مشاركتهم العابهم. لم يكن عندي صبر عليها. كان ينتقدني احيانا انني لا اخصص وقتا لهم، ولكنه كان يدرك كم احب الاطفال وأحن عليهم. كانت طريقتي في التعامل معهم تختلف عنه .. لينة حينما لا ينفع الا اللين وحازمة حينما يتطلب الامر ذلك. بل كان احيانا يثور من حزمي الشديد معهم ويعتبرها قسوة لا داعي لها. كانا دائما يتعلقان به كلما اراد الخروج ويقفان له بالمرصاد عند الباب! كانا يحبان الخروج بالسيارة معه لتغييرالجو.
لا زلت أذكر تفاصيل ذلك المساء الخريفي من شهر تشرين الثاني قبل ثلاث سنوات. كان خالد مدعواً لحضور حفلة زفاف صديقه في العمل. سألني اذا كنت احب الذهاب معه فالدعوة عائلية. اعتذرت عن الذهاب فأنا لا اعرف صديقه ولا أعرف احد من أهله او عروسه. لم اشعر انني سآخذ راحتي هناك. فلا أحد أعرفه كي اتكلم معه، واذا كانت الحفلة غير مختلطة، فسأشعر بالملل بين اناس لا أعرفهم. ما اصعب ان تجد نفسك وحيدا بين أناس لا تعرفهم، وخصوصا اذا لم يبادر احدهم لكسر الجليد. تفهم خالد ذلك. قال انه سيذهب لوحده. سمعت زينة ويزن كلامه فقالا انهما يريدان الذهاب للحفلة وطلبا مني الذهاب مع أبيهما، وأخذا يلحان على الذهاب معه. نظر خالد في وجه زينة ويزن وقال انه سيأخذهما معه. طلب مني ان أساعدهما في اختيار وارتداء اجمل ما لديهما من ملابس. فرحا بذلك كثيرا. ودعتهم عند الباب ورجوت خالد ان ينتبه لهما ولا يتركهما يغيبان عن عينه. كنت دائما اوصيه ان ينتبه لهما كلما كانوا يخرجون معا. فهما املي في هذه الحياة اللذين رعيتهما بماء عيني ودم قلبي.
بعد حوالي الساعة والنصف رن الهاتف. اسرعت ارد على المكالمة. كان صوت رجل يبدو عليه التأثر والاضطراب رغم انه حاول ان يصطنع الهدوء. كان يسأل اذا كان هذا بيت خالد. أخبرته أنني زوجته. طلب مني الحضور فورا للمستشفى. صعقت لم أتمالك نفسي. صرخت به أخبرني ماذا حدث؟ طلبت منه أن يخبرني ماذا حصل؟ صرت اصرخ واصيح من الصدمة، ولكنه لم يجبني. بقي يكرر انه من الضروري الحضور للمستشفى لأمر طاريء قد حصل. كنت على وشك الانهيار من الخوف؟ ماذا حصل لزوجي وأولادي؟ اضطربت من الذهول وأنا أبكي وأصيح. شعرت بجسمي يرتجف وقلبي يخفق باضطراب من الخوف. لم أتمالك نفسي.. وقعت على الارض.. امسكت بالهاتف واتصلت بأخي الاكبر.. لم استطع ان أحافظ على هدوئي. بقيت ابكي وأنا أخبره بما حصل بصوت متهدج وانا انشج من الالم والحزن.
جاء اخي سريعا وكان يبدو عليه الخوف.. لم يستطع ان يسألني فقد كنت بحالة مزرية.. اسرع بنا الى المستشفى.. كانت أصوات سيارات الاسعاف تملأ الشوارع وهي تتحرك سريعا، ورايت رجال الشرطة ينتشرون بأعداد كبيرة.. كان الجو مكفهرا والحزن يخيم على النفوس والصدمة بادية في عيون من رأيتهم. في الطريق للمستشفى شاهدت عدة سيارات للاسعاف تسير مسرعة باتجاه الطواريء وصوت صافراتها يثير الخوف والترقب. شعرت أن في الامرشيئا غيرعادي. ما أراه يدل على حدث جلل قد وقع.. بقيت ابكي بحرقة من الخوف والترقب وسمعت أخي يحاول تهدئتي. لكن احساسي بأن شيئا بالغ السوء قد وقع كان يؤرقني. صرت أتوقع الاسوأ ولم اعد اعرف كيف أفكر فكل لحظة تمر تزيد من هول الصدمة علي.
دخلنا من باب المستشفى بصعوبة فائقة رغم الاعداد المحتشدة عنده.. صرت اسمع الصراخ ونحيب النساء والرجال.. كان منظرا محزنا للغاية. شعرت أن الامر اصعب مما توقعت.. رأيت انه ما تزال هناك حالات تصل الى المستشفى..أخذ أخي يسأل عن مكان خالد وزينة ويزن..عندما أخبروني بالامر صرت اصرخ كالمجنونة .. صرت اصيح لا.. لا.. أريد زينة ..أريد يزن ..اين خالد؟ أريد أن أراهم. لم ادر ما حصل لي بعدها .. فتحت عيوني واذا بي على سرير في المستشفى .. لم اعرف ماذا حصل لي .. كانت امي تجلس في كرسيها بجانب سريري وهي تبكي بحرقة بصوت عال لم ارها في حياتي تبكي هكذا من قبل. احسست انني فقدت الوعي من الصدمة.. لم استوعب الامر.. صرت اصرخ واهذي وانا انتفض بالسرير أريد ان اقوم وهم يحاولون منعي والسيطرة علي.. شعرت بوخز ابرة في جسدي.. لم أدر بعدها ماذا حصل لي.. ولم استوعب الامر.. أصبت بنوبات هستيرية.. كنت أرى الناس تهجم علي تحاول منعي من الحركة ثم أشعر بوخزة ابرة فأغيب بعدها عن الوعي. عندما صحوت قال لي أخي الاكبر بصوت حزين مخنوق والدموع تفر من عينيه وهو يعتصر شفتيه ألما وحزنا أن مجموعة من الاشخاص قد فجروا قاعة الاحتفالات بالفندق الذي كانت تجري فيه حفلة الزفاف بالقنابل والمواد المتفجرة.
لقد احترقت أحلامي ورحلت زهراتي.. ورغم مضي هذه السنوات.. ما زلت أصحو في الليل وأنا أبكي واصرخ.. صارت تنتابني نوبات هستيرية.. لم أعد أرى من الدنيا سوى صور الالم والمرارة.. لقد تحطم قلبي واحترقت من الحزن.. انتفضت كما لو كنت في كابوس مرير.. انتبهت على صوت فيروز وهي ما تزال تغني لو تعرفين وهل إلاَّك عارفة هموم قلبي؟...
ايـــاد