ابتلعت العتمة كل البيت الصغير الذي يشبه شكله أكثر ما يشبه علبة اللحمة البرازيلية، من الخارج.. أما من الداخل فهو إلى حد بعيد مثل مكعبات شوربة ماجي. هو بيت في احد مخيمات وسط قطاع غزة.. يزيد عدد سكانه في الليل عن عشرين نسمة، الأب وألام والأبناء وأبناء الأبناء، يحشرون به حشرا حين يجتمعون إذا حل المساء.. وبالكاد يصل العدد إلى خمسة أنفس في النهار. تأبى الشمس أن تزور البيت، كأنها حلفت بالله على ذلك، والهواء قليل وفاسد لا يتجدد إلا ليفسد مرة أخرى.. وليس بمقدور أنوفهم انتقاء ما يشتهون من هواء نقي وطازج ليتنفسوه، فيبذلوا أقصى جهدهم لنيل حصة أجسادهم منه، بعد كفاح مع صدروهم المليئة بالحنق على الحياة.. والزمن الذي على الدوام يلعنونه ويسبونه..
- يلعن أبا الدنيا.. حياة مثل الكندرة القديمة.. ساق الله على أيام زمان.
جلسوا مثلما اعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبة عشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأ يتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلى جدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصير تثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لا يكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو.
كلهم ينتظرون وجبة العشاء، الوجبة التي اعتادت أن تشتريها لهم في طريق عودتها من العمل الأخت الكبرى، أختهم فاطمة التي جاوزت الثلاثين.. فاطمة التي أملها في الزواج راح يتأرجح بين بطون أهلها الفارغة على الدوام، وبين عمرها الذي يتقدم كل يوم ويسير بها بثبات وعناد مقيت.. وهي ترغب كثيرا في الزواج وتتمنى أن تذوقه، لكنها تخشى أن تموت أسرتها من الجوع إذا تزوجت.. كأن زواجها مصيبة يهلك من هولها الجميع.. وتخشى في الوقت نفسه أن تبقى بلا زواج، فيفوتها القطار الذي قطع من عمرها مسافات طويلة.. فتبور.
طرق أذانهم نقرات حذاء فاطمة على الأرض في الخارج قرب الباب، فلمعت عيون، وراقت وجوه، وارتاحت قلوب، وتلمظت أفواه، و تململت أجساد في مجلسها واعتدلت.. وجرى الصغار نحو الباب ليفتحونه.. وامسكوا بذيل جلباب فاطمة، وبعضهم تسلل من بين رجليها، وآخرون نتشوا من بين يديها الفلافل، وخطفوا صحون الفول المدمس، المنتظرة بشوق ولهفة.. وعادوا بكل هذا جريا إلى الطبلية يهللون ويضحكون.. على الفور تحلقوا كلهم حول طبلية العشاء وراحوا يتزاحمون ويتراصون، تتلاصق الأكتاف بالأكتاف.. وتتناطح الأكف لنيل نتفه من قرص فلافل أو لقمة خبز مغمسة بالفول، يحصلون عليها بعد أن يخوضوا حروبا طاحنة مريرة، وبطلوع الروح.. حروب كلها وخز ولكز وزعق.. لأنهم في مرات كثيرة لا يشبعون.. فينامون بعد أن يطيح برءوسهم النعاس، فتتناثر أجسادهم في الغرف الضيقة أكواما من اللحم الحي الذي له فحيح متعب مؤرق وساخن.
انتهوا من تناول وجبة العشاء.
ذهب الصغار إلى النوم..
تمددت فاطمة كي تريح جسدها من تعب نهار كان طويلا.. تحدق إلى السقف ساهمة غارقة في حيرتها العويصة.. فاليوم رئيسها في العمل اخبرها أنه سيحضر غدا إلى أهلها لخطبتها منهم، وهي لا تعرف كيف تخبر أخاها الكبير بهذا الخبر المؤسف الأليم إلى قلبه.. وتخشى إن هي رفضت الزواج من رئيسها أن ينتقم منها ويطردها من العمل، العمل الذي نشف ريقها وريق أهلها من اجل الحصول عليه، وستضيع أيضا فرصة الزواج التي ربما تكون الأخيرة، ويطير العريس.. ويؤلمها أن فوق هذا كله سيفطسون كلهم من الجوع ويتهدم البيت فوق رءوسهم ويعم حياتهم الوبال. أخوها الكبير لا يرغب في تزويجها خوفا من العواقب الوخيمة التي يحاول أن ينساها كلما خطرت في باله، فهو عاطل عن العمل كبقية إخوانه القاعدين كأنهم أصحاب عاهات. أخوها هذا أيام زمان لم يكن يصلي، إلا انه من وقت قريب صار يصلي خصيصا، بما في ذلك صلاة الصبح حاضرا في أوج برد الشتاء، كي يدعو الله في صلواته الخمس أن لا تتزوج فاطمة وان يوقف الله بختها ويعثر حظها بعريس، كي تستمر في إعالتهم، وكي لا يدمر بيتهم.. لكنه ما أسرع أن يندم بعد ذلك على دعائه، فيتوب، وتسيل من عينيه الدموع حارة مريرة معذبة، ويستغفر الله بركعتين.. وما أكثر المرات التي استغفر بها الله وتاب كلما تقدم إلى فاطمة عريس.. أو إذا تكلم أحد وجاب طرف لسانه سيرة الزواج من قريب أو من بعيد.
مواصفات العريس الذي كانت تتمناه فاطمة على الدوام، وربما ما زالت تتمناها إلى الآن، هي أن يكون طويلا عريضا ابيض.. وكثيرا ما كانت تدعو الله أن يكون بلا كرش وبلا صلعة.. وما زالت تطمع في أن يكون داخل رأسه ولو قليل من مخ يفكر، وان يكون في صدره قلب حنون ورقيق.. ولكن ما يحزنها ويحيرها انه لا يتوفر في رئيسها هذا أي صفة من هذه الصفات، ولا حتى واحدة منها.. وهو على العكس من ذلك فهو قصير مثل قرن الفلفل، وأعمش، ولون بشرته بني داكن كأنه نسي في فرن واحترق، حتى صار لونه كلون الخروب.. وفاطمة ما زالت قلقة لأنه من زمن طويل لم يتقدم أحد لخطبتها، ربما بسبب تقدمها في السن، وربما لغلظة أخيها في معاملة الخطاب، وربما لفقرها غير المعهود.. رغم أنها من فترة ليست قليلة صارت تتخلى عن الكثير من أحلامها وتتنازل عن بعض رغباتها.. أحلامها التي بدأ يخبو وهجها في ضميرها، ويشحب بريقها في عقلها مع مرور كل أسبوع وانقضاء كل شهر.
اهتز سكون البيت ورجف الصمت، وجفلت فاطمة وارتعشت على صوت عطسات شديدات متتابعات، فرقع بها انف أخيها وفمه.. على مهل جمعت في طيات نفسها كل ما استطاعت جمعه من شجاعة، وحدثته بصوت ضئيل باهت لا رنين له..
- غدا سيتقدم لخطبتي رئيسي في العمل.
- لن أوافق.. وجهه مثل الرغيف المحروق.. وسنموت جوعا.
- الرزق على الله.. لا يموت احد من الجوع.
- سأموت قهرا على ابني إذا طلب شيئا وعجزت عن تلبيته.
- لكن عمري جاوز الثلاثين.. سأصبح فوق سن الزواج.
- أنت تحت خط الزواج.. رغم انك فوق سن الزواج.
- أي خط هذا؟ وما الذي يحدده؟
- الظروف هي التي تحدده.. تذكري أن أبي وأمي بحاجة دائمة إلى الدواء.
- لكنك تبيع الترمس.. طوال النهار.
- بيع الترمس بالكاد يجلب لنا ثمن الخبز الحاف.. بماذا نغمس؟.. ورسوم أختك في الجامعة.. وكتب مدارس الأولاد.. والثياب.. الأحذية.
- ومتى سيكون بإمكاني أن أتزوج.
- عندما ينفك الحصار، وقتها ساجد عملا مجزيا.. حينها ستصبحين فوق خط الزواج.
- لا احد يعلم متى سينتهي هذا الحصار.. والوقت لا يرحم.
كشر أخوها وتأزمت ملامحه، لقد تجمعت كل عفاريت الدنيا أمامه كأنها في مظاهرة عارمة، وراحت كلها تتنطط في وجهه الذي أوشك أن يطفر بالدم، فأحس بأن جسده لا يتسع لروحه التي أخذت تغلي وتفور، وراح فمه يبربر بكلمات حادة كادت تمزع قلب فاطمة.. ثم تركها بسرعة واندفع إلى خارج البيت، وظل يبرطم إلى أن غادر وابتعد.
أحست فاطمة بالأسى على نفسها والشفقة على أخيها والحزن على أهلها.. وأكثر ما يجرحها وينهش نفسها أن الزواج الحلال، على سنة الله ورسوله، انقلب إلى ما يشبه الحرام في ظل ظروفها القاهرة، أو هو الحرام بذاته، وأكيد انه من الكبائر التي من الصعب أن تغتفر مهما أكثرت من الصلوات.. وأحست في ثنايا نفسها أن زواجها بمثابة خيانة لأسرتها، وكأنها تتحول إلى مجرمة ترتكب مجزرة جماعية بزواجها الذي قد يهلكهم مرة واحدة أو بالتدريج.. وقد يدفنهم أحياء، ستكون قاتلة مع سبق الإصرار والترصد.. وعدم زواجها هو حياتهم، ومصيرهم، وحاضرهم، ومستقبلهم الذي هو بلا أمل، وبلا ملامح.. ودغدغ عقلها أنها المنقذة الوحيدة لهم، واليد الوحيدة الممدودة التي تحميهم من الغرق.. وتسأل نفسها..
- هل علىّ أن أضحي بمستقبلي من اجلهم؟
لكنها لا تجيب.. وتبقي الإجابة معلقة على مستقبل مجهول الملامح.. أو هي تتهرب من ثقل الإجابة ومرارتها.. بل تخاف حتى الاقتراب من الجواب.
جلست فاطمة بجوار والدها بعد أن كتمت مشاعرها ودفعتها بعيدا في أعماقها.. كل شيء فيها صار ساكتا، فلا جدوى من الكلام أمام والدها الذي فقد القدرة على الحركة والنطق، قبل سنين بعيدة، حين أصابه الشلل، والشيء الوحيد الذي يشعره انه آدمي وانه ما زال على قيد الحياة، هو قعود فاطمة إلى جواره في كل مساء.. فيحدق إليها بعينين زائغتين يشعان وهج الماضي البعيد ونيران الحاضر المشتعل بالبلايا.. حتى أمها لا تستطيع أن تساعدها، ولو بالكلام، حتى لو كان كلاما تافها فارغا بلا أي قيمة ولا أي معنى، فهي مريضة مقعدة أيضا، لا تبرح غرفتها البتة.. وطوال النهار غارقة في آهاتها، تشكو من آلام مزمنة في ركبتيها، ولا تتوقف عن الأنين بسبب وجع ظهرها، وقد يئست من علاجه، فتركت الأدوية جانبا وصارت فاطمة في كل مساء تدهنه بالزيت البلدي، فتعبق رائحته الكريهة كل أركان البيت.. وفوق هذا تبقى أمها على الدوام غارقة في أسوا أنواع الاكتئاب.
نظفت فاطمة الطبلية، ووضعتها في المطبخ.. وجلست في غرفتها تحدق إلى لعبة بلاستيكية ممدة على طاولة خشبية ليست كبيرة، هي لعبة على شكل عروس.. أهدتها لها إحدى صديقاتها عندما تخرجت في الجامعة، لمّا نالت مرتبة الشرف.. اللعبة لها شعر أشقر وطويل، اعتادت أن تمشطه فاطمة كل يوم.. وعيون جميلة لها رموش تقوّست أطرافها.. ويزيد الكحل الذي تضعه لها فاطمة من حلاوة عينيها، ويرقى بجمالها احمر الشفاه الذي هو طلاء كأنه ابدي لا يزول.. يلف العروسة فستان ابيض مثل فستان العروس الآدمية بالضبط.. وطرحة بيضاء.
تحولت عينا فاطمة إلى عدستي ميكروسكوب ليكبرا فستان اللعبة، والطرحة، إلى الكثير الكثير من المرات.. حتى كبر الفستان وأصبح على مقاس جسمها غير المكتنز.. تناولت فاطمة الفستان برقة وحنان بين يديها كأنما تخشى عليه من الكسر.. وارتدته على جسدها، ولم تنس إغلاق السحاب من ناحية ظهرها.. ووضعت على رأسها الطرحة الطويلة التي تجر على الأرض، ووقفت تشاهد نفسها أمام ما تبقى من قطعة مرآة قديمة مكسورة ملصقة على باب خزانة الملابس.. وابتسمت.. ابتسامة واسعة شغلت معظم مساحة وجهها.. كادت الابتسامة أن تكبر وتستحيل إلى ضحكة عميقة رنانة، لكنها كتمتها خشية أن يراها أحد، فيقول أنها مخبولة.. لقد أدركت ما هي فيه على الفور.. فجلست على السرير واضعة اللعبة في حضنها.. ثم تمددت بجانبها حتى هفا بها النعاس.. راحت فاطمة في نوم لا يبدو انه عميق.. لكن اللعبة ظلت مستيقظة.. بعينيها الضيقتين تحدق صوب سقف الغرفة.. وتكاد تبتسم.. كما يبتسم الرضيع عندما يشفط ثدي أمه ويشبع.
طرق أذانهم نقرات حذاء فاطمة على الأرض في الخارج قرب الباب، فلمعت عيون، وراقت وجوه، وارتاحت قلوب، وتلمظت أفواه، و تململت أجساد في مجلسها واعتدلت.. وجرى الصغار نحو الباب ليفتحونه.. وامسكوا بذيل جلباب فاطمة، وبعضهم تسلل من بين رجليها، وآخرون نتشوا من بين يديها الفلافل، وخطفوا صحون الفول المدمس، المنتظرة بشوق ولهفة.. وعادوا بكل هذا جريا إلى الطبلية يهللون ويضحكون.. على الفور تحلقوا كلهم حول طبلية العشاء وراحوا يتزاحمون ويتراصون، تتلاصق الأكتاف بالأكتاف.. وتتناطح الأكف لنيل نتفه من قرص فلافل أو لقمة خبز مغمسة بالفول، يحصلون عليها بعد أن يخوضوا حروبا طاحنة مريرة، وبطلوع الروح.. حروب كلها وخز ولكز وزعق.. لأنهم في مرات كثيرة لا يشبعون.. فينامون بعد أن يطيح برءوسهم النعاس، فتتناثر أجسادهم في الغرف الضيقة أكواما من اللحم الحي الذي له فحيح متعب مؤرق وساخن.
انتهوا من تناول وجبة العشاء.
ذهب الصغار إلى النوم..
تمددت فاطمة كي تريح جسدها من تعب نهار كان طويلا.. تحدق إلى السقف ساهمة غارقة في حيرتها العويصة.. فاليوم رئيسها في العمل اخبرها أنه سيحضر غدا إلى أهلها لخطبتها منهم، وهي لا تعرف كيف تخبر أخاها الكبير بهذا الخبر المؤسف الأليم إلى قلبه.. وتخشى إن هي رفضت الزواج من رئيسها أن ينتقم منها ويطردها من العمل، العمل الذي نشف ريقها وريق أهلها من اجل الحصول عليه، وستضيع أيضا فرصة الزواج التي ربما تكون الأخيرة، ويطير العريس.. ويؤلمها أن فوق هذا كله سيفطسون كلهم من الجوع ويتهدم البيت فوق رءوسهم ويعم حياتهم الوبال. أخوها الكبير لا يرغب في تزويجها خوفا من العواقب الوخيمة التي يحاول أن ينساها كلما خطرت في باله، فهو عاطل عن العمل كبقية إخوانه القاعدين كأنهم أصحاب عاهات. أخوها هذا أيام زمان لم يكن يصلي، إلا انه من وقت قريب صار يصلي خصيصا، بما في ذلك صلاة الصبح حاضرا في أوج برد الشتاء، كي يدعو الله في صلواته الخمس أن لا تتزوج فاطمة وان يوقف الله بختها ويعثر حظها بعريس، كي تستمر في إعالتهم، وكي لا يدمر بيتهم.. لكنه ما أسرع أن يندم بعد ذلك على دعائه، فيتوب، وتسيل من عينيه الدموع حارة مريرة معذبة، ويستغفر الله بركعتين.. وما أكثر المرات التي استغفر بها الله وتاب كلما تقدم إلى فاطمة عريس.. أو إذا تكلم أحد وجاب طرف لسانه سيرة الزواج من قريب أو من بعيد.
مواصفات العريس الذي كانت تتمناه فاطمة على الدوام، وربما ما زالت تتمناها إلى الآن، هي أن يكون طويلا عريضا ابيض.. وكثيرا ما كانت تدعو الله أن يكون بلا كرش وبلا صلعة.. وما زالت تطمع في أن يكون داخل رأسه ولو قليل من مخ يفكر، وان يكون في صدره قلب حنون ورقيق.. ولكن ما يحزنها ويحيرها انه لا يتوفر في رئيسها هذا أي صفة من هذه الصفات، ولا حتى واحدة منها.. وهو على العكس من ذلك فهو قصير مثل قرن الفلفل، وأعمش، ولون بشرته بني داكن كأنه نسي في فرن واحترق، حتى صار لونه كلون الخروب.. وفاطمة ما زالت قلقة لأنه من زمن طويل لم يتقدم أحد لخطبتها، ربما بسبب تقدمها في السن، وربما لغلظة أخيها في معاملة الخطاب، وربما لفقرها غير المعهود.. رغم أنها من فترة ليست قليلة صارت تتخلى عن الكثير من أحلامها وتتنازل عن بعض رغباتها.. أحلامها التي بدأ يخبو وهجها في ضميرها، ويشحب بريقها في عقلها مع مرور كل أسبوع وانقضاء كل شهر.
اهتز سكون البيت ورجف الصمت، وجفلت فاطمة وارتعشت على صوت عطسات شديدات متتابعات، فرقع بها انف أخيها وفمه.. على مهل جمعت في طيات نفسها كل ما استطاعت جمعه من شجاعة، وحدثته بصوت ضئيل باهت لا رنين له..
- غدا سيتقدم لخطبتي رئيسي في العمل.
- لن أوافق.. وجهه مثل الرغيف المحروق.. وسنموت جوعا.
- الرزق على الله.. لا يموت احد من الجوع.
- سأموت قهرا على ابني إذا طلب شيئا وعجزت عن تلبيته.
- لكن عمري جاوز الثلاثين.. سأصبح فوق سن الزواج.
- أنت تحت خط الزواج.. رغم انك فوق سن الزواج.
- أي خط هذا؟ وما الذي يحدده؟
- الظروف هي التي تحدده.. تذكري أن أبي وأمي بحاجة دائمة إلى الدواء.
- لكنك تبيع الترمس.. طوال النهار.
- بيع الترمس بالكاد يجلب لنا ثمن الخبز الحاف.. بماذا نغمس؟.. ورسوم أختك في الجامعة.. وكتب مدارس الأولاد.. والثياب.. الأحذية.
- ومتى سيكون بإمكاني أن أتزوج.
- عندما ينفك الحصار، وقتها ساجد عملا مجزيا.. حينها ستصبحين فوق خط الزواج.
- لا احد يعلم متى سينتهي هذا الحصار.. والوقت لا يرحم.
كشر أخوها وتأزمت ملامحه، لقد تجمعت كل عفاريت الدنيا أمامه كأنها في مظاهرة عارمة، وراحت كلها تتنطط في وجهه الذي أوشك أن يطفر بالدم، فأحس بأن جسده لا يتسع لروحه التي أخذت تغلي وتفور، وراح فمه يبربر بكلمات حادة كادت تمزع قلب فاطمة.. ثم تركها بسرعة واندفع إلى خارج البيت، وظل يبرطم إلى أن غادر وابتعد.
أحست فاطمة بالأسى على نفسها والشفقة على أخيها والحزن على أهلها.. وأكثر ما يجرحها وينهش نفسها أن الزواج الحلال، على سنة الله ورسوله، انقلب إلى ما يشبه الحرام في ظل ظروفها القاهرة، أو هو الحرام بذاته، وأكيد انه من الكبائر التي من الصعب أن تغتفر مهما أكثرت من الصلوات.. وأحست في ثنايا نفسها أن زواجها بمثابة خيانة لأسرتها، وكأنها تتحول إلى مجرمة ترتكب مجزرة جماعية بزواجها الذي قد يهلكهم مرة واحدة أو بالتدريج.. وقد يدفنهم أحياء، ستكون قاتلة مع سبق الإصرار والترصد.. وعدم زواجها هو حياتهم، ومصيرهم، وحاضرهم، ومستقبلهم الذي هو بلا أمل، وبلا ملامح.. ودغدغ عقلها أنها المنقذة الوحيدة لهم، واليد الوحيدة الممدودة التي تحميهم من الغرق.. وتسأل نفسها..
- هل علىّ أن أضحي بمستقبلي من اجلهم؟
لكنها لا تجيب.. وتبقي الإجابة معلقة على مستقبل مجهول الملامح.. أو هي تتهرب من ثقل الإجابة ومرارتها.. بل تخاف حتى الاقتراب من الجواب.
جلست فاطمة بجوار والدها بعد أن كتمت مشاعرها ودفعتها بعيدا في أعماقها.. كل شيء فيها صار ساكتا، فلا جدوى من الكلام أمام والدها الذي فقد القدرة على الحركة والنطق، قبل سنين بعيدة، حين أصابه الشلل، والشيء الوحيد الذي يشعره انه آدمي وانه ما زال على قيد الحياة، هو قعود فاطمة إلى جواره في كل مساء.. فيحدق إليها بعينين زائغتين يشعان وهج الماضي البعيد ونيران الحاضر المشتعل بالبلايا.. حتى أمها لا تستطيع أن تساعدها، ولو بالكلام، حتى لو كان كلاما تافها فارغا بلا أي قيمة ولا أي معنى، فهي مريضة مقعدة أيضا، لا تبرح غرفتها البتة.. وطوال النهار غارقة في آهاتها، تشكو من آلام مزمنة في ركبتيها، ولا تتوقف عن الأنين بسبب وجع ظهرها، وقد يئست من علاجه، فتركت الأدوية جانبا وصارت فاطمة في كل مساء تدهنه بالزيت البلدي، فتعبق رائحته الكريهة كل أركان البيت.. وفوق هذا تبقى أمها على الدوام غارقة في أسوا أنواع الاكتئاب.
نظفت فاطمة الطبلية، ووضعتها في المطبخ.. وجلست في غرفتها تحدق إلى لعبة بلاستيكية ممدة على طاولة خشبية ليست كبيرة، هي لعبة على شكل عروس.. أهدتها لها إحدى صديقاتها عندما تخرجت في الجامعة، لمّا نالت مرتبة الشرف.. اللعبة لها شعر أشقر وطويل، اعتادت أن تمشطه فاطمة كل يوم.. وعيون جميلة لها رموش تقوّست أطرافها.. ويزيد الكحل الذي تضعه لها فاطمة من حلاوة عينيها، ويرقى بجمالها احمر الشفاه الذي هو طلاء كأنه ابدي لا يزول.. يلف العروسة فستان ابيض مثل فستان العروس الآدمية بالضبط.. وطرحة بيضاء.
تحولت عينا فاطمة إلى عدستي ميكروسكوب ليكبرا فستان اللعبة، والطرحة، إلى الكثير الكثير من المرات.. حتى كبر الفستان وأصبح على مقاس جسمها غير المكتنز.. تناولت فاطمة الفستان برقة وحنان بين يديها كأنما تخشى عليه من الكسر.. وارتدته على جسدها، ولم تنس إغلاق السحاب من ناحية ظهرها.. ووضعت على رأسها الطرحة الطويلة التي تجر على الأرض، ووقفت تشاهد نفسها أمام ما تبقى من قطعة مرآة قديمة مكسورة ملصقة على باب خزانة الملابس.. وابتسمت.. ابتسامة واسعة شغلت معظم مساحة وجهها.. كادت الابتسامة أن تكبر وتستحيل إلى ضحكة عميقة رنانة، لكنها كتمتها خشية أن يراها أحد، فيقول أنها مخبولة.. لقد أدركت ما هي فيه على الفور.. فجلست على السرير واضعة اللعبة في حضنها.. ثم تمددت بجانبها حتى هفا بها النعاس.. راحت فاطمة في نوم لا يبدو انه عميق.. لكن اللعبة ظلت مستيقظة.. بعينيها الضيقتين تحدق صوب سقف الغرفة.. وتكاد تبتسم.. كما يبتسم الرضيع عندما يشفط ثدي أمه ويشبع.