قديما قالوا : ً الولد سر أبيه ً ، وإذا صح هذا القول ، فإن ً المعلم إبراهيم ً صاحب هذا السر بامتياز ، فقد كان والده ً الحاج علي ً شيخ المقاولين في مدينته التي اتسعت أطرافها على يديه ، فكم عمارة أعلى ، وكم برج بنى وشيد ، وحمل عنه ابنه إبراهيم أمانة البناء ، وأضاف إليها دهاء ونباهة وذكاء أكبر ، ولم لا وهو المتخرج من مدرسة الحياة التي أكسبته حكمة وصبرا وجلدا أقوى وأمتن. تلقى أصول الحرفة من أبيه ، وعمق خبراته من اتصاله بأصدقائه البنائين ، وزملائه المقاولين من داخل المدينة وخارجها ، فتهيأ له الاطلاع على خبايا هندسة العمران ، ودهاليز فن البناء.
كانت الغاية التي بلغها ً الحاج علي ً أنه وضع ابنه على المسلك الصحيح ، ومكنه من اقتحام المشاريع برباطة جأش ، تقيه من الخسارة التي تلازم عادة جل المقاولين الشباب أينما حلوا وارتحلوا. أما المعلم إبراهيم، فقد تجاوز حدود أبيه ، فقد آل على نفسه الابتكار والإبداع ، وكانت آراؤه وأفكاره الجديدة حلقة من حلقات تطور فن البناء بمنطقته ، ناهيك عن كونه صاحب مبدأ في الحياة ، هذا المبدأ الخالد سمعه كثيرا من والده : ً من غشنا فليس منا ً
- الغشاش لا يربح أبدا يا ولدي ..تذكر هذا.
كانت هذه الجملة كافية لتضع ً المعلم إبراهيم ً على المسار الصحيح ، فرغم قساوة الحياة ، وتكاثر الإغراءات ، فقد أصر على الارتباط بقيم خلقية واجتماعية متينة ، منذ أن كان مجرد عامل في ورشة أبيه.
ولعل ما كرس كراهية الغش والغشاشين في نفسه ، ما حصل أمام ناظريه صبيحة يوم رمضاني جميل ، عندما انهارت عمارة من عشرة أدوار على ساكنتها بينما هم نيام ، لقد رأى الأشلاء المتناثرة بين الأنقاض في منظر مقزز أليم، حينها لم يتمالك أعصابه فصرخ بملء فيه :
مستحيل ...مستحيل أن يكون القدر قاسيا لهذه الدرجة.
بعد أن تمحص، وتحقق من الأمر من أحد عمال الورشة الشرفاء ، أدرك الحقيقة المرة...لقد كان أحد رؤساء الأشغال ينتقي عماله بكل عناية، ويصطفيهم من ذوي المروءة الضعيفة من عبدة المال وتجار الآمال ، ويقوم بحثهم على الغش في مواد البناء ، بدءا من الخلطات ، حيث يكثرون من الرمل على حساب الاسمنت ، وينقصون من الحديد في الأعمدة و...و... كل ذلك من أجل ملايين إضافية، فيها نصيب للمراقبين المرتشين الذين يغضون الطرف عن هذه الأمور قبل وقوع الكارثة ، وبعدها يتنصل الجميع ، وتشحذ السكاكين ، وتتبادل الاتهامات ، ويحمل الصغار في النهاية مسؤولية الكوارث العظام ،فهم في فوهة المدفع على الدوام.
من هذا الحدث الأليم ، امتلأت نفس ً المعلم إبراهيم ً بالعظة والعبرة ، فقد تأثر لهذا المصاب الجلل الذي كشف له النقاب عن حقائق لم تكن في الخاطر ولا بالحسبان.
لقد أيقن أن الناس يسبحون بحمد صاحب المال ، ويتعلقون بأهدابه ، وما أن يخر ويسقط لسبب من الأسباب ، حتى ينفض حوله أعز الأصحاب ، وينقلب عليه المسبحون فلا يذكرون من سيرته إلا أبشع الصفات وأقبح النعوت.
رأى هذا ، ورأى بعض زملاء مهنته ممن يغمر نور التقوى سيماهم ، والمودة تتقطر من ألسنتهم ، من ملازمي الصفوف الأمامية في المساجد الذين لا يبرحون خلف الإمام ، يرجو المرء الانتصاح من ثمرات عقولهم الراجحة . رأى هؤلاء وهم يمتصون دماء المغلوبين من صغار الموظفين ، ويستحوذون على أراضي المستضعفين ، ليشيدوا عليها عمارات واقامات سكنية ، بعيدا عن أعين الفضوليين ، لتسمع بعد حين خبر تداعيها على قاطنيها الأصليين ، وفرار المسؤولين الحقيقيين ، بعد أن يملأوا جيوبهم بأموال المغفلين الكادحين.
رأى المعلم إبراهيم من تقلبات الزمان ما يدعو إلى التدبر والتفكر ، رأى كثيرا من أصدقائه من ذوي الجاه ، وقد قلب عليهم الدهر ظهر المجن ، رأى بيوتا كبيرة وقد تداعت وتزلزل كيانها ، بفعل جشع أصحابها وطمعهم غير المحدود . كل هذا أنضج فكر المعلم إبراهيم ، ودفعه إلى التدقيق في اختيار عماله ، وانتقاء أخلص المخلصين منهم ، وكان يقف بنفسه على سير الأشغال ، وأحيانا يوقفها للتأكد من سلامة الاحتياطات، وقانونية الإجراءات. وكلما لامه أحد الأصدقاء على شكه الزائد، وحرصه الشديد ، يجيبه بكل هدوء :
الروح عزيزة عند الله...
وبما أن لكل مجتهد نصيب ، فقد أغدق عليه المولى من نعمه وفيض رزقه ، ولم يعد يكلف إلا بتشييد أفخم المباني ، وأضخم المشروعات، وما من شك في كون سمعته ومكانة والده قد ساعدتاه كثيرا فيما وصل إليه ، ورغم ذلك فقد ظل المعلم إبراهيم نصير الضعفاء والمحرومين ، فكلما فاض المال بين يديه إلا وبنى مسجدا أو شيد مساكن شعبية يهبها للمحتاجين، بأثمان رمزية حتى يكدوا ويعملوا، ولا يتواكلوا وينتظروا الهبات والصدقات.
- بعد دقيقتين سأجمع الأوراق
- انتظر أستاذ ما زلت أجهل بم سأختم موضوعي
- ماذا تقصد ؟
- لا أعرف الخاتمة
- الخاتمة للمتقين .هات الورقة
- انتظر أستاذ جزاك الله خيرا.
سحب الأستاذ ورقة التحرير من بين يدي التلميذ المتأفف . لقد كان الموضوع حول كتابة قصة أو سيرة غيرية ، تناسب مقولة ً الولد سر أبيه ً لكن المسكين لم يكمل موضوعه ، فقد كان بطيئا هو الآخر مثل أبيه.
أحمد السبكي المغرب .
كانت هذه الجملة كافية لتضع ً المعلم إبراهيم ً على المسار الصحيح ، فرغم قساوة الحياة ، وتكاثر الإغراءات ، فقد أصر على الارتباط بقيم خلقية واجتماعية متينة ، منذ أن كان مجرد عامل في ورشة أبيه.
ولعل ما كرس كراهية الغش والغشاشين في نفسه ، ما حصل أمام ناظريه صبيحة يوم رمضاني جميل ، عندما انهارت عمارة من عشرة أدوار على ساكنتها بينما هم نيام ، لقد رأى الأشلاء المتناثرة بين الأنقاض في منظر مقزز أليم، حينها لم يتمالك أعصابه فصرخ بملء فيه :
مستحيل ...مستحيل أن يكون القدر قاسيا لهذه الدرجة.
بعد أن تمحص، وتحقق من الأمر من أحد عمال الورشة الشرفاء ، أدرك الحقيقة المرة...لقد كان أحد رؤساء الأشغال ينتقي عماله بكل عناية، ويصطفيهم من ذوي المروءة الضعيفة من عبدة المال وتجار الآمال ، ويقوم بحثهم على الغش في مواد البناء ، بدءا من الخلطات ، حيث يكثرون من الرمل على حساب الاسمنت ، وينقصون من الحديد في الأعمدة و...و... كل ذلك من أجل ملايين إضافية، فيها نصيب للمراقبين المرتشين الذين يغضون الطرف عن هذه الأمور قبل وقوع الكارثة ، وبعدها يتنصل الجميع ، وتشحذ السكاكين ، وتتبادل الاتهامات ، ويحمل الصغار في النهاية مسؤولية الكوارث العظام ،فهم في فوهة المدفع على الدوام.
من هذا الحدث الأليم ، امتلأت نفس ً المعلم إبراهيم ً بالعظة والعبرة ، فقد تأثر لهذا المصاب الجلل الذي كشف له النقاب عن حقائق لم تكن في الخاطر ولا بالحسبان.
لقد أيقن أن الناس يسبحون بحمد صاحب المال ، ويتعلقون بأهدابه ، وما أن يخر ويسقط لسبب من الأسباب ، حتى ينفض حوله أعز الأصحاب ، وينقلب عليه المسبحون فلا يذكرون من سيرته إلا أبشع الصفات وأقبح النعوت.
رأى هذا ، ورأى بعض زملاء مهنته ممن يغمر نور التقوى سيماهم ، والمودة تتقطر من ألسنتهم ، من ملازمي الصفوف الأمامية في المساجد الذين لا يبرحون خلف الإمام ، يرجو المرء الانتصاح من ثمرات عقولهم الراجحة . رأى هؤلاء وهم يمتصون دماء المغلوبين من صغار الموظفين ، ويستحوذون على أراضي المستضعفين ، ليشيدوا عليها عمارات واقامات سكنية ، بعيدا عن أعين الفضوليين ، لتسمع بعد حين خبر تداعيها على قاطنيها الأصليين ، وفرار المسؤولين الحقيقيين ، بعد أن يملأوا جيوبهم بأموال المغفلين الكادحين.
رأى المعلم إبراهيم من تقلبات الزمان ما يدعو إلى التدبر والتفكر ، رأى كثيرا من أصدقائه من ذوي الجاه ، وقد قلب عليهم الدهر ظهر المجن ، رأى بيوتا كبيرة وقد تداعت وتزلزل كيانها ، بفعل جشع أصحابها وطمعهم غير المحدود . كل هذا أنضج فكر المعلم إبراهيم ، ودفعه إلى التدقيق في اختيار عماله ، وانتقاء أخلص المخلصين منهم ، وكان يقف بنفسه على سير الأشغال ، وأحيانا يوقفها للتأكد من سلامة الاحتياطات، وقانونية الإجراءات. وكلما لامه أحد الأصدقاء على شكه الزائد، وحرصه الشديد ، يجيبه بكل هدوء :
الروح عزيزة عند الله...
وبما أن لكل مجتهد نصيب ، فقد أغدق عليه المولى من نعمه وفيض رزقه ، ولم يعد يكلف إلا بتشييد أفخم المباني ، وأضخم المشروعات، وما من شك في كون سمعته ومكانة والده قد ساعدتاه كثيرا فيما وصل إليه ، ورغم ذلك فقد ظل المعلم إبراهيم نصير الضعفاء والمحرومين ، فكلما فاض المال بين يديه إلا وبنى مسجدا أو شيد مساكن شعبية يهبها للمحتاجين، بأثمان رمزية حتى يكدوا ويعملوا، ولا يتواكلوا وينتظروا الهبات والصدقات.
- بعد دقيقتين سأجمع الأوراق
- انتظر أستاذ ما زلت أجهل بم سأختم موضوعي
- ماذا تقصد ؟
- لا أعرف الخاتمة
- الخاتمة للمتقين .هات الورقة
- انتظر أستاذ جزاك الله خيرا.
سحب الأستاذ ورقة التحرير من بين يدي التلميذ المتأفف . لقد كان الموضوع حول كتابة قصة أو سيرة غيرية ، تناسب مقولة ً الولد سر أبيه ً لكن المسكين لم يكمل موضوعه ، فقد كان بطيئا هو الآخر مثل أبيه.
أحمد السبكي المغرب .