أنفاسلقد قتلتهُ وأمام أنظار ملايين المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلتُ الخط.

كل البدايات رائعة وجميلة وهادئة ورومانسية وحتى صادقة، لكن العبرة بالنتائج!
شعرت بلحظة أن المكان ارتفع بي سابحاً في الفضاء الواسع عبر الأثير نحو تلك الأيام.. نافذة من الذاكرة تُفتَح على زمنٍ قد مضى.. انهُ الماضي يطرق أبواب ذاكرتي.. وأفتح الباب.. لِيُبحر بي زورق الذكرى في بحرٍ لا آفاق له.
دخل حياتي بتخطيطٍ مسبقٍ منه.. كنتُ حُلماً غير قابل للتصديق في خياله، وعندما اقترب مني بموعدٍ هيأهُ له القدر ما صدق بأنهُ أمامي.. تلعثم بالكلمات.. احمر وجهه وتفصد جبينه وتعرق جسده إلى درجة أن تبلل قميصه الأخضر. ما علِمتُ نواياه.. أراد مني حواراً في حينها.. أجبته بكل برود:
_ هيئ أسئلتك.
تألقت عيناهُ بالسعادة وهو يسمع موافقتي على إجراء الحوار.

أنفاسبصم ًالطيب ً على نهاية عام دراسي طويل، سلم كشف حسابه للتاريخ، خرج من الباب الكبير للمؤسسة بعد أن وقع محضر الخروج
ما أسرعك يا زمن بل ما أبطأ أفعالنا وأسرع رغباتنا.!
في نهاية كل عام، يستسلم الطيب لحالة من القلق المشروع، فتتناسل في ذهنه أسئلة كثيرة ملحاحة:
-  أتراني أتغير هذا الصيف لأصبح مثل باقي البشر ؟
-  أيعقل أن بإمكاني السفر هذه المرة ؟ لكن إلى أين ؟
- هل ثمة رابط سحري بين محضر الخروج والعطلة والسفر ؟
أسئلة لا تنقطع مع حلول كل صيف، وسوف تتكرر مادام التردد يسكن الفؤاد ويغزو الصدور.
هذه المرة سأسافر، ليس المهم إلى أين  ...قضيتي هذه المرة أن أتحرك..أن أتغير. تذكر الطيب بسخرية فوائد السفر التي طالما شنف بها أسماع مريديه الصغار، فكثيرا ما حاول إقناعهم بأن السفر ترفيه،وتعلم،وتدبر، وسياحة، وتنشيط، ومعرفة، دون أن ينسى تنبيههم إلى أنه أيضا قطعة من جهنم، وضحايا حقيبة السفر أكثر من أن يعدوا ويحصوا. هذه المرة سأكون كريما مع ذاتي، سأشبع حاجة نفسية عميقة ظلت تلح علي إلحاحا متواصلا.

أنفاسوقفت سيارة أنيقة بجوار رصيف قديم، وربما الرصيف الوحيد، يتشعب من دوّار صغير في وسط المخيم.. ومن السيارة نزل رجل طويل بشرته قمحية فيها سمرة طيبة، وكان منظره أنيقا.. وباين على شكله أنه رجل في غاية الاحترام وابن ناس طيبين، لابسا بذلة رمادية محبوكة على جسده وتزيد طوله الفارع، وتقلل رفعه الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ممكن بيسر إدخاله في خرم إبرة.. وتكاد تخنقه ربطة عنق حمراء يتوسطها دبوس ذهبي لامع.. هذا وكانت سخونة الجو تسلق أجسادا تلهث منها الأفواه، وتتكتم في لهاثها الأنفاس، وتحمر للفحها الجفون. لمّا نزّل الرجل من السيارة رمى  بصره إلى اليمين، ثم سحبه وألقاه ثانية إلى اليسار، ثم أعاده وثبته قرب طرف الدوار في الجهة المقابلة، عند أول الشارع الذي نهايته توصل إلى وسط السوق.
 مشى الرجل عدة خطوات وئيدات فيها تردد، ترددها يقول أنه غريب عن الحي، مشاها على مهله في قلق وهو يتلفت لفتات حيرانة فيها ذهول، كأنه تائه عن مكان معروف.. لحظتها هبت الّسنة الناس الذين ينتشرون في الدوار بكلمات حانقة راحت تندفع من قلوبهم المعتصرة بالوجع، وعبارات غاضبة مكهربة كلها غليان، وعلت حناجرهم بهتافات راحت تنتشر كالرياح في شوارع الحارة، وتسري لعلعتها كأمواج متدفقة تتقوّس مع تقوّس الشارع، وكانت الآذان تلتقطها بغضب مستعر.

أنفاسافترقوا خلف أبواب العشرين يلتمسون رفاف الجناح , قاربت بينهم القصيدة وصفة لاجئ على وثيقة السفر, وباعدت بينهم أحلامهم المتباينة , حلم باسل باكتشاف العالم فتخرج من الأكاديمية البحرية كمساعد قبطان كي لا يرسو أبداً وحفر أحمد كل الأنفاق التي تفضي إلى الأضواء والنجومية وحمل شهاب معوله كي يهدم قبوه حالماً بصعود درجات الطوابق العليا ..
وبعد مرور عشرين عاماً التأموا مرة ثانية على متن يخت  تعود ملكيته لشهاب الذي أصبح من حيتان البورصة , ومع قصائد أحمد الذي لمع نجمه وأصبح مذيعاً كبيراً بإحدى القنوات الفضائية المشهورة عبروا إلى العشرين على جناحي القصيدة ثم إنحنوا يلملمون صدف المحيطات الذي جمعه باسل بعد أن أصبح قبطاناً !!
وبين العشرين والأربعين رفعوا مساتر الفصول بحثاً عن قبعات الرمال لكنهم لم يجدوا سوى هياكل الأيام , أسدلت نظراتهم الحزينة ستائر الخيبة فوق الواجهة الجميلة التي أخفت تصدعات الفصول لبعض الوقت , قال باسل :

أنفاس جلست - بعد ثلاثين عاما- على مصطبة خشبية متآكلة الحواف.. بدت الساحة أمامي خاوية والأبنية حائلة الألوان.. حقيبة ملابسي بمحاذاة المصطبة, وإلى جانبي كيس به ما تبقى من طعام.. انظر إلى الشجيرات العارية من أوراقها- مع أننا في منتصف الربيع- وأجتر الصور التي اختزنتها ذاكرتي, فلا أجد أيما تطابق أو تشابه يوحي بملامح واضحة لما أرى.. كل شيء شائخ ومهترئ, وأنا أعود بعد ثلاثين عاما بجلد لم تعد خلاياه تتجدد.
السيارة التي أقلتني من عم ان الى بغداد رمتني إلى هذا المكان.. نزل كثير من الركاب وبقي القليل منهم.. ترددت قبل النزول وأنا أتطلع من نافذة السيارة.. قلت للسائق:
- أروم الوصول إلى »مدينة الثورة«.
رمقني ولم يعلق بشيء.. أنا من ناحيتي كنت أستعيد الكلام الذي قلته, فربما أخطأت في التسمية, ولما كانت عيناه ما تزالان تحدقان باستغراب فقد نزلت في ساحة مربعة الشكل.

أنفاس-1 -
لم ترغب في الانتقال ابدا ، ولم تتمن السفر يوما...
ولكنهم اتوا عند الفجر واقتلعوها ...فسال النسغ احمر...
اركبوها الطائرة ،فشمت نسائم الاجواء العليا ..وعطست ...
وفي تربة غير تربتها ، وفي جو غير جوها ، ارغموها على الحياة..
بقليل من الماء والهواء ، وكثير من التصفيقات ...
وكانت ربطات العنق تزين المشهد ، والنظارات الشمسية تصور اللقطة ...
ومن قبل كانت هي في الواحة الخضراء فتاة تتفتح للحب ...
-2-
سنون مرت ..وها هو العيد يعود ...

أنفاسما كاد يدخل الغرقة الوحيد المأجورة التي يقطنها في هذا الحوش المتفسخ حتى ضم إليه زوجته وإبنتيه يقبلهن وهو يلهث لشدة ما أسرع في الوصول إليهن ولشدة سعادته بهذا الخبر الذي طالما انتظره.وأدركت الزوجة حتى دون أن تسأل أن إسمهم لا شك قد ظهر على قائمة المستفيدين من السكنات التي بنتها الدولة للمواطنين المعوزين.
لم تتمالك نفسها بدورها فأطلقتها زغرودة حادة حارة حملتها كل ما اختزنه كيانها من لوعة الانتظار لهذا اليوم السعيد , فتهاطل الجيران مهنئين مهللين مزغردين إذ كان بينهم من ظهر إسمه على القائمة , فعم الفرح كأن اليم يوم عيد.لأول مرة شعر بوعلام البكوش 1 أن إنسانيته قد عادت إليه.
فرغم أنه مجرد زبال تابع للبلدية فلم  يكن يشعر أبدا أنه إنسان محروم أو مغبون إلا حين ياوي إلى هذه الغرفة الرطبة حيث يقيم.. وكان أشد ما يغضبه هو المرحاض المشترك بين سكان الحوش2 وكأنهم في محتشد.
كان يرى كل مرة بحكم احتكاكه بموظفي البلدية ورئيسها آماله تتبخر المرة تلو الأخرى كلما وزعوا سكنات جديدة ولم يظهر إسمه على القائمة رغم توسلاته ودموعه ورغم كونه إبن شهيد لثورة التحرير الكبرى.

أنفاسالتقينا واختفى... هكذا كان، وهكذا سيكون...
زرته في بيته، تعرفت على كل ما يخصه، صوره، لوحاته السريالية العميقة، رحلاته الغريبة التي كان يمارسها كطقوس لمجنون أدرك حرباً لن تنتهي. حدثني عن عالمه الذي يرسمه، حياته القاتمة داخل جدران أربعة، عن الـ55 متر التي تتغلغل في أعماق روحه، حتى كادت أن تقتله. وحين هممت بمغادرة المكان أهداني طائر العنقاء من الكريستال.
كم كنت أحب تلك الأيقونة، أضعها أمام عينيّ كل مساء، أتأملها، أتأمل هويتي الضائعة، وأستاذ التاريخ يعيد فيّ حياة القدماء:
- إن العنقاء طائر مقدس.
يتابع:
- إنها تحمل هويتنا الكنعانية، تحمل ذلك الرمز المشفر الذي لا يفقهه أحد غيرنا.
وينتهي كلامه على أعتاب حصة أخرى في الرياضيات.
أحببت العنقاء، بشكلها الغريب، أحببتها حين أهداني صديقي هذا الطائر الكريستالي العظيم. وما زاد حبي لهذه الهدية أن صاحبها قد استشهد على قارعة الحرب، وتناثرت أشلاؤه في غارة حاقدة على مخيمنا. بعد تلك الحادثة قررت أن أحتفظ بتلك الهدية حتى الموت، وفعلت حتى ذلك الصباح الحزين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة