I - إيتيمولوجيا الكلمة:
كلمة تقدم (Progrès, Progress) هي كلمة من أصل لاتيني (Progressus) مشتقة من الفعل Progredi بمعنى السير إلى الأمام أو التقدم إلى الأمام في الزمان أو في المكان أو فيهما معا: التقدم في السن والتقدم في قطع مسافة مثلا. عند بادئ الرأي (عامة الناس)، التقدم حركة غير دائرية وغير تراجعية حُمِلَتْ أولا على تنقل الجيش عندما يتقدم نحو العدو ثم استعملت بمعنى مجازي للإشارة إلى التطور في الزمان أو التغيير الذي يسعى إلى هدف محمود كالتغيير في طرق العيش وفي طرق التفكير وفي التعامل مع الطبيعة الخ. تعني أيضا كلمة تقدم: تطور الإنسانية عامة أو التحضر. أما في اللغة العربية فيبدو أن كلمة تقدم تفيد أصلا الرجوع إلى القديم أي المتقدم (في مقابل المتأخر).
II - نشأة وتطور فكرة التقدم:
ظهرت فكرة التقدم، كما نفهمها اليوم، أي بمعنى التحضر، في الحضارة الغربية خلال النصف الثاني من ق17م، وذلك عندما بدأ العلماء والأدباء آنئذ يتجادلون حول الأهمية التي ينبغي إيلاؤها أو عدم إيلائها لآراء القدماء وإنتاجهم العلمي والأدبي. ولقد تمخض عن هذا الجدل موقفان أساسيان: موقف يمثله أنصار الماضي (أو ما نسميه في مغرب اليوم بالموقف السلفي أو الأصولي) وموقف يمثله أنصار الحداثة (أو التقدميون).
حسب الموقف الأول، القدماء أكثر حكمة من المحدثين لأنهم أسبق زمنا وأكبر عمرا، وبالتالي أنضج رأيا. ينطلق أنصار هذا الرأي من فكرة أنثروبومورفية مفادها أن المجتمع الإنساني يشبه الإنسان تماما بحيث كلما طال عمره كلما أصابت حكمته. فالتقدم، بالنسبة لهؤلاء، هو الرجوع إلى آراء القدماء (أي الرجوع إلى التراث) واعتبارها نموذجا للتقدم ينبغي إعادة تحقيقه. ومن المحتمل أن تكون الرغبة في تأدية هذا المعنى هي التي حدت بالمترجم العربي إلى ترجمة كلمة Progress بكلمة تقدم.
التقنية وماهية التقنية (م.هايدغر) ـ أيوب كوش
ليس من شك في أن العلم والتقنية أصبحا أملا واعدا للبشرية بالإزدهار ،والتقدم والرقي ،وهي نتيجة لتطبيق اكتشافات علمية كبرى ،والتقنية كمفهوم شمولي كما عرفها لالاند هي مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة.
فهل نتذكر تلك الخدمات التي قدمتها التقنية للإنسان مند القدم إلى العصر الحديث؟، لكن لعل الشيء الأكثر غرابة أنها أصبحت في الحقبة المعاصرة كائنا غير مراقب يتحرك كما يريد دون إذن من أحد حتى صارت هي التي تراقبنا ولسنا نحن، لقد صنع الإنسان إن صح التعبير فناءه بيده، لقد صارت التقنية عقلانية مغلوطة بتعبير ماركيوز. و أقامت لنفسها محكمة تحاكم كل من تجاوز حدود التعامل معها.
يحاور هايدغر عصره محاورة نقدية وذلك بالعودة إلى مشكلاته, فمن خصائص هذا العصر أنه عرف اكتمال الميتافيزيقا اكتمالا نهائيا في ظل هيمنة الخطاب التقني الذي تحكمه نزعة عقلانية تتمركز حول ذاتها,و تسعى إلى تسخير التقنية لفرض رؤية تدميرية كانت الخطر الأعظم على العالم.
فهل التقنية الحديثة نتيجة لتطبيق علوم الطبيعة على الواقع؟ وماهي المخلفات التي تركتها التقنية على الطبيعة وعلى الإنسانية حسب هايدغر؟ و ماهو السبيل لاستعادة سؤال الوجود في ظل معرفة ماهية التقنية؟ وهل كان للفيزياء دور فعال في تهميش طرح سؤال ماهية التقنية؟ وهل اقترب العقل التقني من لحظة الإنفجار الأعظم كما أسماه هايدغر؟ وهل تشكل التقنية تهديدا فعليا لمصير الإنسان؟
استطاع هايدغر بخلاف غيره من الفلاسفة تحويل عصره إلى مجموعة من الإشكالات ذات أهمية بالغة, كانت مهمة الفلسفة أن تقوض الثوابت الميتافيزيقية وتزعزع سلطة العقلانية الحديثة بكل أبعادها ومستوياتها.
الحرية هنا و الآن ـ محمد أوبلوش
تعتبر كلمة الحرية من بين الكلمات الأكثر إستعمالا اليوم ، في واقعنا خصوصا العربي . و التي تكون ملتصقة في غالب الأحيان مع الديمقراطية و التعددية والإستقلالية. سنركز على مفهوم الحرية بكونه شعارا يرفعه الفرد في فضاءات متعدة : الاسرة ، العمل ، الدولة ...و بالتالي فشعار الحرية يخفي أهدافا متابينة .
سنتوقف عند مفهوم الحرية كمادة للتحليل الفلسفي و الاجتماعي ، كمطلب ضروري موجود في الدولة ومفقود في الواقع . إن الإنطلاق من هذا المفهوم يستدعي منا استيعاب الأليات التي تجعله يغيب و يحضر في الواقع السياسي و الاجتماعي .لذلك فالمطالبة بالحرية هناك ما يبرره. فالحرية يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق هدف معين : حرية التعبير حرية الاحتجاج ، حرية المعتقد ، الحريات الفردية ...يوجد إذن دافع كمبرر للمطالبة بالحرية .فإشكال الحرية يكمن في مدى إمكانية تحقيق الصورة التي تشغلها الحرية في ذهن من يطالب بها . فسؤال ما الحرية ؟ غير مجدي و غير نافع .فالأحرى بنا القول ، كيف تتصور الحرية الآن ؟ بحيث سيكون الجواب حريتي الآن هي أن أفعل و أعبر عن ما أريده في إطار القانون دون أن اشعر بقيد أو أحس بأن هناك من يضايقني أو يسلب لي حريتي. ذلك هو المبرر الفعلي لرفع شعار " الحرية هنا و الآن ".
قراءة في كتـــاب النقـد المـزدوج لصاحبه عبد الكبير الخطيبي "القسم الثاني من الكتــاب" ـ ياسين إيزي
إن هذا المقال حدد لنفسه هدفا هو استخراج مضامين القسم الثاني من كتاب النقد المزدوج/Double Critique، و بها وعليها سنسير لاكتشاف المحتوى الفلسفي لفكر عبد الكبير الخطيبي، الذي وبالرغم من تصنيفه في عداد السوسيولوجيين، إلا أن فلسفــته تقوم على مرتكزات فلسفية صلبة، وبذلك سنسعى إلى تفكيك خطابه من أجل تبين هذه الأسس كما فعل هو ذاته من خلال تفكيك التراث الذي انطلق منه معظم المفكرين العرب عموما والمغاربة خصوصا من أجل الكشف عن أسسه الميتافيزيقية واللاهوتية، وعليــه فإن محـاور هذا العرض ستعرض بشكـل مقتضب ومركز فيما يخص أهم الأفكــار الواردة في القسم الثاني "علاقة ماركس باليهود، الماركسية ضد الصهيونية، وسوسيولوجيا المغرب والعالم العربي".
1-القراءة الماركسية و الفرويدية للمسألة اليهودية من منظور الخطيبي:
"إن اليهودي لن يتحرر إلا بعد تحرره من اليهودية"
كارل ماركس، المسألة اليهودية
بعد أن فكك د. الخطيبي التراث العربي أو ما يسمى بالأنــا وبين أن الوحدة والأصـل في ما يسمى الهوية العربية مجرد مفهومان ميتــافيزيقيان يستندان تارة علنا (الأصولية) وتارة ضمنيا (التاريخانية) لأساس لاهوتي هو النص القرآني، يذهب الآن إلى تفكيك خطــاب الوحدة والأصل لدى الآخر الذي ندعوه الغرب ممثلا في المسـألة اليهودية/La question juive ، معتمدا على المنظور المــاركسي و الإختلافي على حد سواء، فقد نجد نقطة تماس ما بين فلاسفة الاختلاف والماركسيين فيما يسمى بالمسألة القومية عمــوما، وعليه فإن أهم خلاصة نظرية يجب أن نتلمسها بعد الإنتهاء من هذا المحور هي: لمــاذا تطرق الخطيبي بالذات للرؤية الماركسية والفرويدية؟
مجاز الوجود وإشكالية المعنى في فكر ابن رشد ـ العربي اشماعو
I – حول الصور المتعددة للفكر التأويلي الرشدي.
لا ريب أن تقييم المتن الفلسفي الرشدي الشارح لأرسطو، والتأمل في أبعاده ودلالاته الفلسفية العامة من شأنه أن يفضي حتما إلى إدراك وجود مفارقة كبرى تفصل هذا المتن إلى نصين، أو بالأحرى إلى نظامين دلاليين يتولد فيهما اللاحق عن سابقه ويستنسخه في الوقت ذاته، إذ يتعلق الأمر في الممارسة الرشدية الشارحة لأرسطو بالوضع الإشكالي لقضية المعنى ولصيغ تداوله وتأويله، ذلك أن الشروحات الرشدية على أرسطو تضعنا في مواجهة بناء معرفي يتقابل فيه نظامان للحقيقة ولكيفية إنتاج الدلالة يمتلك كل منهما أفقه اللساني والثقافي الخاص به. ومن الأكيد أن القصد الرشدي المحرك لشروحاته الفلسفية يتجاوز ذلك الفهم الضيق للتأويل البرهاني كحصر لمنطق العلاقات بين العلامة والمعنى، ليصب في اتجاه البحث في المنظومات والقواعد التي حددت تحولات هذا المعنى، تلك التحولات التي أفضت إلى استيعابه في ممكنات تأويلية متعددة، مشائية متأخرة وإسلامية، قاسمها المشترك في الاعتبار الرشدي عكوفها على إنتاج وتوليد صور من المعاني والدلالات ليست بتلك "الدلالة الأولى" التي يؤشر عليها النص الأرسطي المؤسس، ولا يصلها به سند مرجعي محدد.
ومما لا شك فيه أن إصرار ابن رشد على ضرورة وفاء النظر الفلسفي بشروط اليقين التام والعلم المحقق، كشرط إبستيمولوجي يضمن إمكانية العلم بالعلة، لا يبرره إلا قلقه الصامت من تفكك أنساق الدلالة وتضارب أنظمة المعنى بفعل تصارع التأويلات المذهبية وانكسار الخطاب الفلسفي أمام المد الكلامي الأشعري نتيجة استبدال الركائز الثقافية والفكرية للعقلانية الفلسفية في الفترات الحالكة من سياسات الموحدين بمستويات فكرية جديدة ترتكس بالتعقل الفلسفي، وبشكل جذري، نحو الخيال الصوفي وصور اللامعقول. إذ يوحي الضروري في السياسة بمعالم هذا الوضع المضطرب، فإضافة إلى اعتراضات ابن رشد العديدة على مضامينه كنص أخلاقي وسياسي[1]، والتي تشهد على استحالة إمكانية تحول فكر أخلاقي يستند في بنيته العقلية ومرجعيته العملية، إلى مفاهيم كونية تتصل بالطبيعة الجوهرية للإنسان، إلى سلطة عملية لتدبير الواقعة الأخلاقية عن طريق السلوك المدني الفاضل، فإن الرشدية تأخذ على العقل العملي الأرسطي عجزه عن التقريب بين التصورات المختلفة عن طبيعة الإنسان في لغة أخلاقية موحدة ونظام مدني جامع[2].
مفهوم الانخـراط من خلال دراسة باتريك بـومار ـ يـاسين إيزي
سنحاول في هذا المقـــال التطرق لمفهوم "الانخـراط/ L’implication"، بالاعتماد على الدراسة التي أنجزها البيداغوجي الفرنسي Patrick BOUMARD ، فعرضنا سيكون بمثابة قراءة في قراءة، أي قراءة للدراسة التي أقامها باتريك بومار لمفهوم الانخراط بمنهجها و إشكالاتها و كذا مفاهيمها. بالتالي و من الناحيـة المنهجيـة كان لابد لنا من الإحاطـة بمفهوم الانخراط من الناحية الدلالية/اللغوية لا لشيء إلا من أجل تقريب الصورة و من تم الانفتاح على الدلالة الفلسفية و التربوية التي يحملها، من هنا سيأتي مقالنا على مجموعة من المحطـات النظرية و التي هي كالآتي:
1- مفهوم الانخـراط/L’implication وقفة مع الدلالات: -و من خلالها سنعرض للدلالة المعجمية لهذا المفهوم في صيغتها الفرنسية.
2- مسارات و استعمالات مفهـوم الانخـراط في الحقلين الفلسفي و الإبيستيمولوجي : -و التي سنعرض من خلالها لقراءة المفكر الفرنسي لمراحل تطور هذا المفهـوم.
3- مفهـوم الانخراط و فلسفة التربية أية علاقة؟: -و سنعرض من خلال هذه المحطة وكما يحيل عنوانها للروابط المعرفية ما بين مفهوم الانخراط كمفهوم فلسفي و فلسفة التربية كحقل معرفي لاشتغـال اللوغوس بناءا على الإشكالات التي تم طرحها في المحطة السابقة.
4- الانخـراط و هدف التربية الجمـالية: -و مهمتها الإشارة إلى أحد الأوجه النظرية لمفهوم الانخراط ممثلتا في التربية الجمالية.
5- انخراط العائلات في السيرورة التعليمية لأطفالهم: -و هي المحطة الأخيرة التي سنسعى من داخلها إبراز أحد الأوجه التي يكتسيها مفهوم الانخراط في المجـال التطبيقي/العملي.
"كي لا نستسلم" ريجيس دوبريه ، جان ويغلر ـ اسماعيل فائز
تقديم الكتاب :
"كي لا نستسلم " عبارة عن سلسلة حوارات إذاعية جمعت مفكرين عملاقين هما: السويسري جان زيغلر والفرنسي ريجيس دوبريه. وقد أجرتها إذاعة "France Culture" بثت طوال أسبوع، وجمعت في كتاب صدر عن منشورات Arléa باريس 1994. وترجم الكتاب من طرف رينيه الحايك وبسام حجار، منشورات المركز الثقافي العربي 1995. تضمن الكتاب تقديم المترجمين، وخمسة فصول، ويقع في 117 صفحة من الحجم المتوسط.
على الرغم من مرور ما يزيد عن عقدين من نشر الكتاب إلا أنه لا يزال محافظا على راهنيته، وذلك بالنظر للموضوعات الشائكة التي تطرق لها ، وكذا لعمق الحوار الذي دار بين دوبريه وزيغلر.
خلاصة الكتاب:
الكتاب في الأصل- كما سبقت الإشارة – هو سلسلة حوارات إذاعية. وهو الأمر الذي يطرح مشكلة في محاولة تحديد أهم مضامينه، وذلك راجع لتشعب القضايا التي تطرق لها الحوار، وكثرة المعلومات والمعطيات الواردة فيه. لذلك ارتأيت الوقوف عند أهم التيمات التي عالجها الموضوع، ومحاولة عرض – بإيجاز – الأطروحة الأساسية التي دافع عنها كلا المتحاورين. و يمكن تحديد تلك الموضوعات في : العولمة والهوية - راهنية الماركسية – مدى ضرورة الدولة – دورالمثقف – العالمثالثية.
الإبستمولوجيا الهيومية : وجهها النقدي وأساسها المنطقي ـ عبد السلام بن ميس
من الملاحظ أن المقالات والكتب التي نشرت حول فلسفة هيوم (1711-1776) كثيرة جدا. لكن هذه الكتب والمقالات في أغلبها ذات طابع عام[i].
ولم ينل الجانبان النقدي والمنطقي من فلسفة هيوم إلا اهتماما ضئيلا بالمقارنة مع الجوانب الأخرى. وغالبا ما يكتفي المهتمون بهيوم بالقول إن هذا الفيلسوف قاد التجربانية الكلاسيكية إلى الإفلاس وانتهى بتبني الشكانية. لقد كان بإمكان هذه التجربانية، حسب الوضعانيين الجدد، أن تنتهي إلى نتيجة أكثر ملاءمة مع بعض مبادئ هيوم نفسها، بدل أن تجد نفسها في طريق مسدود أو أن تنتهي إلى الشكانية. لكن الوضعانيين المناطقة قبلوا التوجه النقدي لفلسفة هيوم وقبلوا نتائجه والوضعانية، ووظفوها في هجوماتهم على الميتافيزيقا[2]. وهذان الجانبان هما العنصران الأساسيان اللذان يشكلان ما يمكن نعته بـ :"الإبستيمولوجيا الهيومية".
في هذا المقال، سوف نحاول الكشف عن الوجه النقدي والوجه المنطقي الوضعاني لإبستيمولوجيا هيوم، وذلك قصد المساهمة في التعريف بفيلسوف أيقظ كانط من سباته العميق ودفع بالفكر العلمي الفلسطيني الحديث إلى أقصى حدوده. وخلق كثيرا من المشاكل الإبستيمولوجية لا تزال قائمة حتى اليوم.
هل يمكن الحديث عن إبستيمولوجيا هيومية؟
للإجابة عن هذا السؤال يكفي الرجوع إلى كتابين أساسيين لهيوم: الأول تحت عنوان: بحث حول الطبيعة البشرية (1739) والثاني تحت عنوان: بحث حول الفهم البشري (1748)[3].
يتناول هذان الكتابان قضايا إبستمولوجية محض. ويمكن اعتبارهما المصدرين الوحيدين لإبستمولوجيا هيوم[4]. لكن، لا ينبغي أن ننتظر وجود فرق جوهري بين الكتابين المذكورين. وهيوم نفسه يشير إلى هذا في التمهيد الذي افتتح به كتابه بحث حول الفهم البشري، يقول هيوم: "أغلب مبادئ التعقل الواردة في هذا الكتاب، سبق نشرها في كتاب آخر من ثلاثة أجزاء تحت عنوان: بحث حول الطبيعة البشرية". لكن هيوم يتمنى أن يكون كتابه بحث حول الفهم البشري هو المعبر الحقيقي عن آرائه الفلسفية[5]. وفي نفس المكان يتحفظ هيوم بعض الشيء عن الاعتراف بالعمل الذي قام به وهو شاب والمتمثل في كتاب بحث حول الطبيعة البشرية. لكن، إذا فحصنا الكتابين معا فسوف نجد أن هيوم لم يقدم أية حلول في البحث حول الفهم البشري للمشاكل التي طرحها وهو شاب في البحث حول الطبيعة البشرية.
في هذا الكتاب الأخير يناقش هيوم مشكلتين أساسيتين: من جهة مشكلة طبيعة المعرفة البشرية، ومن جهة ثانية طبيعة بعض الكينونات المعرفية مثل "السببية" و"الجوهر" و"الهوية" و"الاعتقاد" وغيرها. وإذا استثنينا طبيعة المعرفة البشرية يبدو أن هيوم يتناول باقي مشاكله من وجهة نظر أنطولوجية وليس إبستيمولوجية[6]. أضف إلى ذلك أن التصميم الذي تبناه هيوم في كتابه بحث حول الفهم البشري لا يختلف عن الذي تبناه في بحث حول الطبيعة البشرية، رغم أن الجانب الأنطولوجي في الكتاب الأول أقل طغيانا عما هو عليه في الكتاب الثاني باستثناء الجانب المتعلق بمشكلة السببية.
النصوص المقدسة والنصوص المدنسةـ هادي معزوز
بين المقدس والمدنس أحكام قلما انتبهنا إليها، ونحن نعتقد أنهما يتضادان تضاد النار والماء، مثلما ينتصر أغلبنا للمقدس على حساب المدنس، ويعتقد البعض الآخر أن الحياة تقوم على المدنس، بينما في الأمر لغز آخر وسيرة أخرى للعلاقة بين الإثنين، عالم المدنس ظل وظلام واستجابة لطبيعة الإنسان وحاجاته الحقيقية والدفينة، والحال أن كل إقبار له هو بمثابة تحدٍ جديد للإنسان كإرادة، وقتل غير منطقي لجوهر ثابت أبدا، أما المقدس فإنه يعدو تفوق للأيقونة فينا، للهوية المنغلقة ولإجبار التغيير على الركون وحيدا دون تغيير.
ثمة في المقدس والمدنس أيضا نصوص وأقوال وعلامات نحتت وجهها على تقاسيم الزمن والتاريخ، إذ المقدس نص والمدنس هو الآخر نص وإن اختلفت الطبيعة بينهما، لهذا فالمواجهة بينهما هي مواجهة نص بنص، وقول بقول، وحقيقة بأخرى، على أنه من الواجب التذكير بأنه في البدء كان المدنس، والتاريخ ليست ترسم معالمه وتحولاته إلا به، فأكل آدم للتفاحة ليس يختلف بتاتا عن قتل قابيل لهابيل، بينما لا تختلف الفتوحات الدينية عن الحملات الإمبريالية وإن اختلفت الظروف والسياقات، كلها مدنسة حسب الحكم الأخلاقي وفي مقابل ذلك كلها ضرورية تفاديا لغياب الحياة فينا.
الحقيقة و الجسد ـ حميد مجدي
أول شيء قريب مني، ملتصق بي، محدد لوجودي و يفوق طاقتي على الفهم و تعجز اللغة عن الإحاطة به، في علاقاته و أصله و بنائه و حمولته و حركته و تحولاته و وعيه و حسه و فكره و قوته و أناه و موته..هو الجسد. جسدي الخاص. جسد الإنسان الفرد.. أتعاطى معه و أتحاور أنا السائل، أنظر إليه و كأنه موضوع خارج ذاتي، أو هو بالأحرى ينظر إلى نفسه. يحملني و يواجهني و يحتويني و يصنعني. هو الذي يتكلم و يرى و يسمع و يفهم و يتحاور.. يشكل تعددية و فردانية غريبة بينه و بين ذاته. و الغريب في الأمر أنه هو من يناقض نفسه و يطرح السؤال و ليس آخر. هو السائل الذي يسأل عن نفسه. و هذا معناه أنه لا يعرف ذاته و لا يحتويها رغم أنه هو ذاته. و أصل و منطق الأشياء في ما أعتقد هو أن تعرف الذات ذاتها، ألا تسأل الذات عن ذاتها أصلا.. ! أن يسأل عنها آخر يمكن قبول ذلك و لكن أن ينبع السؤال من الذات عن ذاتها فهذه قمة العبث.. ! لأنه كيف تستطيع العيش و التماهي و الاندماج المطلق مع ذاتك و وحدتك و إزالة التفكير في الحدود و الفواصل الكونية و أنت جاهل بذاتك. تسأل عنها كأنها موضوع تنظر إليه خارجا– في مقاربة فنية شبه مستحيلة - و كأنها ليست ذاتك.
الجسد، كعظم و دم و لحم حي.. كواقع و كإحساس و كحقيقة.. الجسد و عملية التحاور معه و التفاعل معه و الإحساس به، تشكيل لوحدة غير منفصمة. لا نتحدث عن أطراف. لا يفصم بين أجزاء الجسد إلا ضرورات التقسيم و التوزيع و الفرز التي تقتضيها اللغة و التواصل و التفاهم وتضيع معها الحقيقة. عملية تقسيم الجسد و تجزيئه على مستوى اللغة و الإدراك والفهم تقضي على الجسد و تقضي على الحقيقة.
المدينة والمعرفة أو الفضاء المشترك لتدبير التفكير وفن العيش ـ عبد العزيز بومسهولي
إن التفكير في واقعة المدينة هو تفكير في المعرفة باعتبارها تجليا لعلاقات بنية تتأسس داخل فضاء مشترك خاصيته الأساسية تتمثل في الغيرية.
إن الغيرية هي الإمكانية المفتوحة التي تجعل من الفضاء المشترك للمدينة ممكنا، إنها إذن قابلية لتقاسم العيش، وتبادل الخبرة والمعرفة، المسؤولية تجاه الآخر المجاور. ومن حيث هي قابلية لتقاسم العيش فإنها تغدو تعبيرا عن التلازم الضروري للحق والواجب، بوصفه ضمانة للفضاء الحر للوجود، بما ووجود بالمعية. ومن حيث هي قابلية لتبادل الخبرة والمعرفة، فإنها تغدو تعبيرا عن الإفادة والاستفادة التي تتأسس على الحاجة والرغبة، الحاجة إلى إشباع النقص، والرغبة في إنماء القدرات، وهو ما يعني تدبير تناهي الإنسان، لا بوصفه محدودية للآفاق، ولكن باعتباره إمكانية لا متناهية للرغبة في أن تصير أكثر التحاما بالحياة، إنها إمكانية لدرء العجز الأنطولوجي للكائن الذي يبحث من خلال الرغبة في المعرفة، أي المرغوبية، إلى إبداع الوسائل والطرق لبناء أفضل العوالم الممكنة، داخل وحشة الوجود. ومن حيث هي قابلية لبذل المسؤولية، فإنها تغدو تعبيرا عن القرابة، أي عن العلاقة بالآخر التي يستحيل اختزالها داخل التطابق بجميع تلاوينه، سواء كان تطابقا داخل الهوية الإثنية واللغوية والدينية وغيرها من أنماط اختزال الهوية الإنسانية. بل إن الأساس الإيطيقي (الأخلاقي) لهذه العلاقة هو اليقظة، يقظة الإنسان بواسطة آخره, إن هذه القرابة لا تستطيع التخلص بتاتا من الآخر، وبالتالي فسيظل الآخر يطرق باب كل ذاتيته، موقظا فيها كل مسؤولية يستحيل تعويضها، إن هذه كما يرى لفناس هي عقدة الإيطيقا، أو قرابة الإنسان الآخر.*1
إذن، الغيرية بما هي الإمكانية المفتوحة التي تجعل من الفضاء المشترك للمدينة ممكنا، هي ذاتها ما يمكن تسميته بالمدينية، وهي التسمية التي يمكن أن تثير التباسا، ولكنه التباس يدخل في تشكيل الدلالة، ويسهم في بناء المفهوم. ذلك لأن مفهوم المدينية يمكن إرجاعه حسب لسان العرب إلى ثلاث جذور لغوية، الجذر الأول: دنا يدنو دنوا بمعنى القرب أو القرابة. أما الجدر الثاني: دان دينا فلان. جازاه، بمعنى الدين، ودان دينا فلانا. أحسن إليه بمعنى الإحسان.