يمكن تمديد الفلسفة الهيغلية في اتجاهين متباينين: فلسفة تاريخ تفضي إلى إنسيان (Humanisme) بالمعنى الذي ستحمله عند فيورباخ أو عند ماركس؛ وفلسفة المعرفة المطلقة؛ ولكن أي معنى يبقى لتاريخ البشرية في الحالة الأخيرة هذه؟ إن الهيجلية تنطوي على هذين التطورين الممكنين؛ فهي ملتبسة لأن هيجل وفضلا عن أنه مؤلف علم المنطق – إن اللوغوس اللازماني هو المعرفة المطلقة، وباعتباره توسطا هو أساس الطبيعة والفكر المتناهي بوصفه تاريخا- هو أيضا مؤلف دروس في فلسفة الحق. ولا يبدو أن هيغل نفسه قد اختار على نحو صريح أحد هذين الاتجاهين. غير أنه يفضل المعرفة المطلقة، والحال أن المعرفة المطلقة تتجلى في التاريخ.
تحتوي فينومينولوجيا الروح لسنة 1807، في نفس الوقت على كل من فلسفة الإنسانية هذه –أو هذه الأنتربولوجيا إن جازت العبارة- وفلسفة المعرفة المطلقة التي يلعب فيها الإنسان فقط دور تجلي المطلق، فهو لا يوجد إلا لكي ينقضي في هذا الكلام المعقول الذي هو لوغوس الوجود.
وإذن، لم يكن هيغل صاحب الاختيار، بل إن أتباعه هم من كرسوا الاتجاهين المتضاربين من فكره. انطلاقا من فلسفته للتاريخ، أقام البعض المطلق غاية للتاريخ، إنسانية وقد صارت إلها (الماركسيون خاصة)؛ أما الآخرون، ومن غير أن ينكروا محايثة المطلق للتاريخ، فقد رفضوا أن يجعلوا المطلق تاريخيا.
فولتير ورسالته في التسامح ½ ـ تقديم و ترجمة : فولتير ورسالته في التسامح ½ ـ تقديم و ترجمة : هادي معزوز
تقديم : ما أحوجنا اليوم إلى نقاش طويل عريض حول مسألة التسامح، وقبول الاختلاف الديني باسم حق حرية العقيدة، وأيضا ضد محاكمة الأفكار التي لا تحاكم في الأصل، في هاته الرسالة التي نشرت إبان عام 1763 يضع فولتير الأصبع على التعصب الديني الذي كانت تعيشه أوربا، وذلك بمناسبة وفاة جون كالاس، وهو الامر الذي كنا ولا زلنا نعانيه منذ مئات السنوات، حيث يرفض بعضنا البعض بمجرد أنه يختلف معه في الانتماء الديني محلا قتله أو سحله باسم الدين، بل إنه في الدين الواحد عشنا دوما على إيقاع الإبادات التي تعرض لها المتكلمون وباقي الفرق الأخرى من سنة وشيعة وخوارج... بسب الاختلاف في بعض الاشياء الصغيرة، على العموم لا بد من التسليم أولا أن أرجلنا لازالت عالقة في وحل التعصب الديني، وأن الأجيال الحالية لم تعمل إلا على الحفاظ على هذا الإرث المشين، على النقيض من ذلك لا بد من العمل والعمل ضد كل تعصب، مؤمنين بأن الحقائق نسبية مهما كان تشبثنا بها كبيرا، وأن كل تعصب لن يولد إلا التخلف والإرهاب بشتى تلاوينه والفقر وتفشي كل أشكال ومظاهر الخرافة.
الإسلام و الغرب: طرق استعادة الانفتاح على الآخرـ مقابلة مع محمد عابد الجابري ـ أجرتها : نينا زو فرستنبرج ـ ترجمة و تعريب: د. ضياء الدين عثمان حاج أحمد
مقدمة:
"أترانا مدانين لبقائنا أسرى لمنطق الحرب؛ ذلك المنطق الذي يعجزنا عن تصور العلاقات مع غيرنا دون أن نستدعي في أذهاننا العدائيات أمثال: الخطر، و الموقف المعادي، والصراع، و التهديد؛ الخ؟
تعالت الاصوات في الدول الغربية - تقريبا في كل مكان - ضد هذه الطريقة في رؤية مستقبل العلاقات بين الغرب و بقية العالم.
الناس بدأوا يشككون في المعنى الحقيقي لهذا التوصيفات الثنائية المؤسفة، و اشتعالها على إخفاء الحقائق.
ماذا تعني - حقاً - ثنائية الشرق / الغرب خلال تاريخ التوسع الأوروبي؛ أي منذ روما إلى امبراطوريات الاستعمار الحديث؟
ماذا تعني بديلتها المنتشرة الحالية: ثنائية شمال / جنوب؟ "
نشر جزء من هذه المقابلة مع محمد عابد الجابري في خريف عام 2006 في مجلة ريست الإيطالية.،
و بمناسبة مرور الذكرى الخامسة لوفاة الفيلسوف الكبير (توفي في 2010)، فنحن سعداء بنشر المقابلة كاملة للمرة الأولى. [**]
ـ في كتابك عن "العقل العربي"، أشرت في إحدى النقاط إلى أن المستقبل سيكون رُشدياً (نسبة إلى الفيليلسوف العربي ابن رشد). أكنت تتهكم أم كنت تشير إلى معنى محدد لهذا الوصف؟
لقد كنت أخاطب العرب و المسلمين، فابن رشد هو [فيلسوف] عقلاني كان قد تفهم الفكر الغربي تفهماً عميقاً؛ أي الأرسطية في زمنه، مثلما كان متبحراً في الفكر الإسلامي.
فكرة ابن رشد كانت تنبني على أن العقلانية النقدية التي نشأت في الأندلس، أي في أحضان الثقافة العربية الإسلامية، لكن ما جرى تاريخيا هو أن هذه المدرسة الفكرية هاجرت نحو الغرب.
الفـكـر الأخلاقي و السيـاسي لدى كل من توماس هوبز و جـون لــوك ـ يـاسين إيزي
ستتجـلى مهمة هذا المقــال في التطـرق للفكـر الأخلاقي والسياسي لتوماس هوبز وجـون لوك، منظورا إليه من زاوية فلسفية، فالتطـرق للسيـاق الذي تبلور فيه فكر الرجلين يتطلب مقرابا فلسفيا/علميا على اعتبار أن نسقهم ينتمي لحقلي الفلسفة و العلم. و هو الشيء الذي يتم تجـاهله لدى بعض مؤرخي الفلسفة مستعرضين بذلك تاريخ الفلسفة كأنه تاريخ أحداث من إنتاج شخصيات عظيمة أو مجرد كرونولوجيا سطحية، إن السـؤال الذي يجب طرحه بهذا الصدد و الأخذ به في مقاربتنا هو الذي سبق و أن طرحه هيغل في محــاضراته المعنونة بدروس في تاريخ الفلسفة والقائل "إذا كانت هذه التواريخ تعرض سلسلة المنظومات كأنها سلسلة آراء عادية من الأخطاء و ألاعيب الفكر، المبتكرة فعلا بمهارة كبيرة و جهد كبير، مع كل الإطراءات التي أمكن تخيلها بخصوص عنصرها الشكلي، و نظرا لانعدام الروح الفلسفية لدى هؤلاء المؤرخين، فكيف يمكن اكتناه وعرض ماهية التفكير العقلاني؟"[1]، إن هذا العرض لن يكون باستطاعته التطرق لفكر الرجلين على نحو دقيق، إلا أن الوصول لمستوى الدقة هو المهمة الذي يجب أن يتم التأسيس لها في التناولات المستقبلية .
وعليه، فإن هاته المقاربة ستأتي على مجموعة من المحطات النظرية و كأنها نقط مفتاح في فهم نسق الرجـلين.
1- نظــريـة المعرفة لدى كل من تومـاس هوبز و جون لوك:
إن التطـرق إلى التصور الذي نظر به هوبز ولوك إلى الوجـود ككل هو المدخل لأي محاولة فهم لنسق الرجليـن، قس على ذلك أن العـودة إلى نظرية المعرفة لديهما تفرض علينا العـودة إلى الإشكالات الفلسفية و العلمية التي حكمت حقبتهم التاريخية و نقصد هنا بالخصوص القرن XVII م، فمن غير الممكن تصور فلسفة من خارج تاريخها، بالرغم من أن معظم الفلسفات تصبو ذلك إلا أن الصراع بين النسبي و المطلق، الواقعي و المتجاوز يؤول دائما لصالح الطرف الأول.
إن هـوبز ذاته في مقدمة كتـابه الليفيــاثان أو التنين، يشير إلى أن أول ما سيعرض له هو الإنسـان و طبيعته وكيفية حصول الفهم لديه بما أن الدولة بحسبه إنسـان عملاق. وعين الشيء ينطبق على جون لـوك بحيث أن مؤلفه الأول كان في قانون الطبيعة Law Of Nature و بحثه المعنون بـ محـاولة في الفهم البشـري - AN ESSAY CONCERNING HUMAN UNDERSTANDING كـان سابقا على رسالة في الحكومة المدنية، بالتالي يجب أخد التأسيس المعرفي النظري لتصور الرجلين بعين الاعتبار، وهو مـا ينقلنا بالضرورة إلى هذه الموضوعة التي قـال بها هوبز و طورها لوك إذ يقول: " إن كل فكرة تمـثل مظهرا لصفة ما أو عرضا لجسم آخر يقع خارجنا، وهذا ما يسمى عادة موضوعـا.
في مدح اللون الأسود ـ هادي معزوز
يعتقد السواد الأعظم من الناس وهو الأمر الشائع، أن لكل لون دلالته وأثره النفسي على المتلقي،فالألوان عوالم روحية تقتحم اختيارات الفرد عبر العين، وقوى خفيفة جدا تسمو بكيانه ووجدانه، لكن بين هاته الألوان تباينات جمة واختلافات متعددة، من الصعب فك شيفراتها إلا بالنسبة إلى أهل الاختصاص، والذي لن يكون إلا الرسام، هذا ويتفق أيضا السواد الأعظم أن اللون الأسود من بين الألوان حضورا منذ القديم ،غير أنه أخذ للأسف دلاله سلبية ربما يبدو من الجهل بمكان ربط ما نعتقده حول الأسود بماهية الأسود نفسه، فأية علاقة يا ترى يلبس فيها اللون الأسود هاته الدلالة السلبية التي أعطيناها إياه؟
الألوان تترك فينا انطباعا لا محالة، لكن سيبدو من الغريب أن نقول في هذا الصدد أن كل فرد منا يتمثل اللون الذي يراه، إذ العين هي التي تدرك وليس الدماغ، في مقابل ذلك لا بد من التسليم أن الألوان تعرف تغيرا كبيرا جدا خارج الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وداخل أحلامنا وكوابيسنا أيضا، من المسؤول عن هذا التغيير، الواقع أن اللونين الأبيض والأسود هما اللاعبان الأساسيان في هذا الأمر.
قد لا يهمنا الأبيض في هذا المقام لسبب بسيط هو أننا نعتقد فيه البياض والسلام والنور والجمال أيضا، لكن وفي مقابل ذلك سنحاول إعادة قراءة الأسود على ضوء زاوية المنسي فينا... اللون الأسود لون فرح ولحظة السعي إلى خلق عالم منشود ضمن الواقع، إذ عندما نتلقى دعوة الحضور إلى حفل بهيج، أو لقاء مع الأصدقاء... يرتدي أغلبنا نساء ورجالا هذا اللون الغامض، من ثمة فإن حضوره حضور فرح ولقاء، وليس حضورا للغياب، إنه يعمل على تحقيق الغائب في الحاضر، وعلى إضفاء التذكر في النسيان.
العقل الإسلامي والتطرف ـ نجاة رحمان
لعل ما يُساهم اليوم في تكريس دوغمائية العقل الإسلامي، وتدعيم السياج المُطبق عليه هو الاستمرار في اجترارِ قِراءةٍ حَرفيةٍ لِلنصِ الديني، ويكفي المرء هنا للوقوف على هذه المسألة العودة إلى المعيش اليومي لِيرى الكم الهائل من السورٍ و الآيات التي يستشهد بها المسلمون في حياتهم اليومية، وهي آيات غالباً ما تأتي مبتورةً من سياقها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ولدها، وبالتالي مُستعملةً دون أدنى وعي تاريخي؛ فالذي يستشهد بها يُسقط شرطها التاريخي، ويذهل عنه أن هذه الأخيرة جد مُتصلةٍ باللحظة التاريخية التي أنتجتها. هذا في ما خَصَّ الوعي التاريخي، أما الوعي اللغوي فهو الأهم والأخطر؛ فنعلم جيدا أن اللغة القرآنية شديدة الارتباطِ بالبيئة الجاهلية التي سبقتها، من هنا فالمعنى الذي نعطيه لبعض المصطلحات القرآنية اليوم قد يكون هو النقيض الموضوعي لما كانت تحمله سابقا، والذي لا مِرية فيه أن هذا التَخَارج على مستوى المعنى سَينعكس لا محالة على فهمنا لِمضامين النص الديني. وليس غريبا أن نجد نفر من المسلمين المعاصرين ما يزالون يرغبون في الدفاعِ عن الإسلامِ بالسيفِ والعنف، نظرا لِما قد يُحدثه التأويل اللاتاريخي أو اللالغوي للنص الديني من شحنٍ للأنفس وتعبِئةٍ للعقول على ضرورة الجهاد، وإرجاع غير المُسلم عُنوةً إلى دينِ الحقِ. كل هذه الإشكالات تدفعنا إلى التساؤل أولا وقبل كل شيء عن بنية هذا العقل المسلم المتطرف؟ ما العلاقة التي تجمع الإسلام بالتطرف؟ للإجابة عن هذه التساؤلات آثرنا الوقوف عند مقاربة محمد أركون التفكيكية لِبنية العقل العربي الإسلامي.
في نظرية القيمة عند الدكتور هشام شرابي(1) ـ د.عبد الله موسى*
يقدم الدكتور هـ.شرابي أطروحته الموسومة : "مشكلة القيم في فلسفة هارتمان* ولويس كلرنس*" لينال بها شهادة الماجستير سنة 1948 بجامعة شيكاغو. وهي الرسالة الأولى فيما اعتقد ...نظرا للاهتمام القليل بنظرية القيمة في فكرنا العربي المعاصر ، اللهم إلا ما يعد اليوم على الأصابع ...فهي تعد إضافة علمية للمكتبة العربية في هذا المجال.
ولاعتبار ثان ، كون الفلسفة التقليدية لم تهتم بالقيم إلا من خلال نظرية المعرفة التي تعالج مشكل الحقيقة وعلم الجمال الذي يعالج مشكل الجمال والأخلاق التي تعالج مشكل الخير . كما كانت تهتم بها لا لمعرفة بنيتها ، بل لمعرفة الكيفية والشروط التي تُوصلنا إليها .ـ لكن الفلسفة المعاصرة ( فلسفة القيم المعاصرة) أضحت تبحث عن القيمة في الموضوع الذي يجسمها أكثر مما تبحث عنها في الشخص الذي يقدرها وعن الكيفية التي تصير القيمة بها حاضرة في الموضوع، أو عن الكيفية التي يكتسبها الموضوع بها .
وعليه، لقد كان اختيار المؤلف لهذه المشكلة، ناتج عن تأثره بالفيلسوف " هارتمان " الذي يقول عنه، أنه كان في أسلوبه مثاليا بالرغم من كونه من أتباع " هوسرل " كما كان له تأثير كبير في الفلسفة الوجودية المعاصرة. إذ يعتبر القيم الأخلاقية كالعدالة والشجاعة والمحبة والصداقة ( مثلا موضوعية ) لا تتغير بتغير المكان والزمان ، وتتمتع بوجود أبدي كالمثل الأفلاطونية . بالإضافة إلى ما يتميز به في الكتابة التي كانت غاية في الدقة والأناقة والجمال... مما جذبه أكثر نحو " هارتمان .
المنظورية والتمثل : مقاربة فلسفية لمفاهيم المكان والرؤية في فن الرسم ـ أردلان جمال
"إن فن الرسم يقحم صعوبة: فهناك فكر يرى ويمكن أن يوصف بشكل مرئـي. هكذا فإن لوحة "الوصيفات" هي صورة مرئية لتفكير بيلاسكيث اللامرئي. فهل معنى هذا إذن أن اللامرئي يمكن أن يكون أحيانا مرئيا؟ نعم، شريطة أن يكون الفكر مكونا فقط من أشكال مرئية" روني ماجريت (René Magritte)(1)
مقدمة:
بإمكان الباحث في ميدان الفلسفة أن يجد دائما في تاريخ فن الرسم أمثلة معبرة على التحولات التي عرفتها بعض المفاهيم الفلسفية. وبإمكانه في المقابل أن ينطلق من الإمكانات الفكرية التي تتيحها الفلسفة لكي يبحث في القواعد والأطر التي قننت النظم الإستطيقية لفن الرسم. هذا الطريق الثاني هو الذي قررنا نهجه عندما عزمنا البحث في المكانة الخاصة التي احتلها مفهوما المنظورية Perspectiva والتمثل Repraesentation في تاريخ فن الرسم La Peinture وانعكاسات هذا على تغيير صور المكان والرؤية.
لن ندعي في هذا المقال المتواضع القدرة على الإحاطة بكل المشاكل والحيثيات الإستطيقية التي يستدعيها مفهوما المكان والرؤية في فن الرسم، فما نرمي إليه بالأساس هو الوقوف على الأسس الفلسفية الكبرى التي قادت رسامي عصر النهضة إلى اكتشاف تقنية المنظورية وإلى بناء صورة جديدة للمكان وللتمثل ستجسد بحق انقلابا هاما في تاريخ فن الرسم والتشكيل، وكذا الأسباب التي قضت بتحطيم هذا التصور منذ مطلع القرن العشرين.
ولن نقوم من جهة أخرى بتاريخ دقيق ومتكامل لمفاهيم المكان والرؤية لأن ما يعنينا في العمق ليست هي الاعتبارات التقنية وإنما القواعد والنتائج الفلسفية التي كانت ضمنيا خلف بناء مفهوم جديد للمكان التشكيلي ابتداء مما يتعارف على تسميته "بالقرن الخامس عشر الإيتالي" Le Quattrocento؛ وهو القرن الذي يمثل في نظر مؤرخي فن الرسم، التدشين الفعلي لميلاد مفهوم المنظورية والتمثل دون غيرهما من المفاهيم الأخرى، فلأن هذين المفهومين سيلعبان دورا بالغ الأهمية في تحديد قواعد فن الرسم الكلاسيكي. ولن نحتاج إلى جهد كبير لتبين مظاهر التأثير التي مارسها هذان المفهومان لا على فن الرسم لوحده بل على الثقافة الغربية بصفة عامة، إلى حد أن إرقين بانوفسكي Erwin Panofsky يعتبر الجهاز المنظوري تشكيلة رمزية لاتستنفذ قيمتها في البعد الهندسي لمفرده وإنما تتعداه لتشمل البعد الثقافي أيضا. كما أننا لن نفتقد الأمثلة العديدة للتأكيد على أن فن الرسم ظل إلى عهد قريب جدا يصبو إلى تحقيق "الوظيفة التمثيلية"، الأمر الذي سيعطي لمفهوم "التمثل" مكانة سامية. ولسنا في المقابل بحاجة إلى التوضيح بأن هذا المفهوم سيكون له وقع كبير على ميلاد الحداثة في الفلسفة.
جينيالوجيا الحقيقة عند ميشال فوكو ـ إدريس هواري
لقد أخذ تأريخ فوكو للحقيقة اسم جينيالوجيا(1) فهذه الأخيرة تعد الأداة التي تسمح للفلسفة بأن تلتقي بالتاريخ؛ بجعل الفلسفة تتخلى عن منطلقاتها الميتافيزيقية، والدفع بالتاريخ إلى أن يكون اهتماما بما يحدث فعلا في جميع مستوياته المختلفة. من هنا تظهر الجنيالوجيا وسيلة لتقويض الميتافيزيقا باعتبارها إنتاجا للحقيقة، من خلال نقد لمنطلقاتها، وإعادة النظر في الأساس المفاهيمي الذي تستند إلى الأزواج. ولعل أهمية البحث الجنيالوجي، كتقويض للميتافيزيقا، تظهر في وصفه للواقع الإنساني، كواقع يتشكل من الصراعات والمصالح، ومن ثمة الهيمنة، والرغبة في التملك(2)، إذ لا مجال للقفز على هذا الواقع من خلال إنشاء مفاهيم مجردة تنشئ عالما ينوب عن العالم الواقعي، عالما تنتفي فيه الصراعات والمصالح. إضافة إلى أن الجينيالوجيا على خلاف الميتافيزيقا، لا تهتم بالبحث في الأصل الأول الذي صدرت عنه الموجودات، باعتباره ما يحددها، ما يعطيها نمطا من الوجود تتشكل منه هويتها الثابتة(3). إن ما تظهره الجنيالوجيا هو أن الأصول -إذ ليس هناك أصل بالمفرد- حصيلة الصراع، وبالتالي فهي تتلون بطبيعته، وما يرتبط به من مصالح ومنافع, من هنا فالجنيالوجيا هي تاريخ للحقيقة؛ وهذا يعني أن التأريخ الذي يريد الجنيالوجي القيام به، يهدف إلى بيان أن الأحداث التاريخية تجد تفسيرها الحقيقي في تحديد طبيعة الحقيقة(4) التي تشكل "مادة" التاريخ، ذلك أن الإنسان وهو يشتغل، ويتكلم، ويحيا ويرغب(5)، وهو بهذا يشكل تاريخه الخاص، يجد نفسه محاطا بنوع من الحقيقة التي توافق ما يحدث. وهذا التوافق يتجسد في الممارسة التي تخص تاريخه، والتي تعطيه قواما متميزا.
التفكير في زمن الكوليرا ـ هادي معزوز
لماذا نفكر؟ بل لماذا يجب أن نفكر؟ التفكير سمة إنسانية محضة جادت بها الطبيعة على هذا الكائن، بيد أننا سنقف حائرين أمام هذا الكرم وهذا السخاء الطبيعي علينا، حيث للتفكير حدان لا يمكن أن يلتقيا، مثلما للإنسان وجهان ليس بإمكانهما العيش معا في نفس الحين، من ثمة وبقدر ما يساعدنا التفكير على حل معضلاتنا، بقدر ما يعيدنا إلى تخلف كبير، فنغدو معلقين بين السماء والأرض مصابين بلعنة التيه والفراغ.
إننا نفكر ظاهريا من أجل الانفلات من تلك التي نعتبرها مشكلات وعوائق تحد من إرادة الإنسان سعيا للتقدم الإيجابي، في نفس الوقت يأخذ هذا التفكير إرادته السلبية الساعية إلى الهيمنة واستعباد الآخرين، وعليه فمن الواجب الأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان ينحدر من الطبيعة، والحال أن هذا الانحدار يجعلنا نقف أمام جوهر الإنسان المؤمن بالبقاء للأقوى، وهذه هي باختصار قصة العلاقة بين الإنسان والعالم، لكن ما موقع التفكير من كل هذا؟
عندما نفكر نربط علاقة ثنائية، الأولى مع العالم والثانية مع الآخرين، إننا نفكر إذن سعيا في تكريس الحضور على الغياب، كما أننا نفكر طمعا في ترميم قراءاتنا السابقة حول العالم نحو الإنسان، التفكير شرط أساسي لكل تقدم سديد، ومحرك إبستيمولوجي لكل إرادات الحياة، لكن هذا الحلم ينقلب بدوره إلى كابوس عندما ترافق كل أشكال التفكير أمراضا خبيثة تحوله من محرك إلى عائق وهو الأمر الحاصل اليوم في ثقافتنا كما في إسهاماتنا.
فينومينولوجيا الأنا المتعالي ـ يوسف أبو علفه
تعُدُ فينومينولوجيا إدموند هوسرل " 1859- 1938 " إحدى أهم التيارات الفلسفية التي كان لها بالغ الأثر على الفكر الأوربي بمختلف مشاربه واتجاهاته الفلسفية , ذلك لما وجهته من سهام نقد جذري للموروث الفلسفي والعلمي للقارة الأوربية . ابتداء من تأسيس الوعي على الأنا أفكر " الكوجيتو " الديكارتي . وصولاً للعلوم الطبيعية التي أخذت تنسي عالم العيش و أفق الحياة , وليس انتهاءاً بالعلوم الإنسانية التي جعلت من الإنسان ووعيه موضوعا متماثلا و موضوعات التجربة العلمية رغم البون الشاسع ما بين الظواهر الطبيعية والإنسانية , تمايز آليات ومناهج البحث بينهما . ما حمل " هوسرل " على رفع معاول نقده عالياً في وجه هذه المعرفة " الطبيعية والنفسية " التي كانت قد بلغت أزمة حادة , جعلتها عاجزة عن أن تقدم نفسها كعلم يتسم بالبداهة واليقين , الثبات والثقة , خاصة بعد أن تناقضت العلوم المنتشرة في عصره مع بعضها البعض , وتعددت أفكار وأراء الفلاسفة دون أن ترتكز على منطلقات معرفية واحدة تجعلها تبلغ الحقيقة الكلية والوعي الماهوي للذات .