Anfasse20030بنفس السنة التي تعرّف فيها الفيلسوف الألماني نيتشه على الشابة الروسية لو سالومي (ربيع 1882)، كتب نيتشه لهذه الروسية التي فتنته، بعض التوضيحات الأساسية حول الذكورة والأنوثة وذلك فيما يتعلق بمفهوم الحب. علاقة نيتشه بسالومي علاقة مضطربة نوعا ما وكان لها تأثير على كلي الطرفين ـ خاصة نيتشه. فسالومي العشرينية الحالمة والمؤمنة بالعلاقات المتحررة والصداقات المثيرة انبهرت بمجاز نيتشه وطريقة إلقائه، الأمر الذي جعله في نظرها رمزا ثقافيا : فارس أسطوري أقرب للخيال منه للواقع بنعومته المفرطة وسعيه المتكرر لإضفاء طابع فلسفي على حضورها وشكلها. من جهة نيتشه فسالومي بالنسبة له هي النقص الذي يكمله، الغياب الذي يلزمه لتعزيز وتقوية حضوره، سالومي في نظره هي الجمال والرفعة والشباب والحيوية وكل ما كان يراهن عليه نيتشه الأربعيني لتجاوز ذاته المحبطة والمحرومة حسيا. سالومي المندفعة بحماس الشباب والمتعطشة للعظمة التي تتكشف في تعلّقها بأي قامة فكرية ظاهرة بالوسط، رفضت الخضوع لارتباط تقليدي مع الفيلسوف الذي استيقظت فيه روحانية حميمية نتيجة الحضور الإلهي لسالومي ـ كما أحسّه. أثر هذا المنعطف بمسيرة الفيلسوف حيث انقلبت مفاهيمه ومازجت بين التناقض والإختلال والحدس أحيانا، قسوة الطرح لديه ووضوح الرؤى خالف تدهوره السلوكي وانتكاسه العاطفي الطفولي. فيلسوف الأفق ارتدّ كطائر جريح.

Anfasse20029يمثّل كتاب "الاختلاف و التكرار" موقفا صارما ضدّ نظام منطقي بأسره.لم ينخرط دولوز في هذا الكتاب في تلك المفاهيم التي هيمنت على تاريخ الفلسفة كالممكن و الكلّي و المجرّد بل إنّه راهن على تقديم رؤية جديدة و مغايرة لتلك المفاهيم.إنّ ما يرومه جيل دولوز هو تحطيم ذلك التمثّل الكلاسيكي للعلاقات بين المفاهيم,ذلك التمثّل النابع عن صورة محددة للفكر تلك الصورة التي ينقدها في الفصل الثالث الحامل لعنوان "صورة الفكر".إنّ صورة الفكر هذه هي من ظلّت تحرّك تاريخ الفلسفة جاعلة من الاختلاف ذلك المفهوم الذي لا يظهر إلاّ من جهة منطق الهوية.يبيّن دولوز في مقدمة الترجمة الإنقليزية للاختلاف و التكرار علاقة صورة الفكر هذه بغياب مفهوم الاختلاف المحض (أو المستقّل) عن تاريخ الفلسفة فبالنسبة لدولوز نحن لا نفكرّ إنطلاقا من منهجية محددة فحسب بل إنّ صورة ضمنية و قبلية للفكر توّجه عملية تفكيرنا. إنّ صورة الفكر هذه تشّكلت عبر تاريخ الفلسفة كبحث عن استنتاجات بغاية الوصول إلى أجوبة و حلول. فصورة الفكر القديمة كانت منحصرة في البحث عن الحقيقة من جهة كونها صوابا يقدّم حلاّ لمشكل ما محاربا بذلك الخطأ حتى أنّ اختلاف السفسطائي في مواجهة هوية الفيلسوف لم تظهر إلاّ في شكل خطأ لا في شكل اختلاف محض.

Anfasse20026عاش الدين على مر التاريخ علاقة غير متكافئة والمجتمع، والشاهد على ذلك هو أنه بقدر ما توجب أن تنبث بينهما شيمة وحيدة من شيم التكامل، كان الدين يُنظر إليه كمحرك إبستيمولوجي، بينما اعتبر المجتمع مفعولا به وتابعا له، هذا وإن تمكن العقل من مراجعة كيفية تمثله العالم مفرزا لنا إصلاحا دينيا، ومفهوما جديدا للدولة المدنية بدل الدولة الدينية في أوربا، فإنه لا زال وللأسف لم يكتسب جرأة السؤال وضرورة الانعتاق من دائرة الدين الضيقة التي لازالت تبسط يدها على كل شيء عندنا.
    قد نغامر معتبرين أن سؤال الاصلاح الديني في ثقافتنا العربية، ظهر وبشكل جد محتشم خلال القرن الثاني من الهجرة مع الفكر الاعتزالي، الذي حاول تأسيس تصوره للدين على بنية عقلية صرفة، تضع كل الأشياء تحت القراءة النقدية بما فيها النص المقدس، منفلتة من التأويل الفقهي الوحيد إلى التفسير العقلي القارئ للأشياء وفق منطقها وليس وفق حمولتها الدينية، بيد أن الأمر عرف ما عرف من دسائس ومؤامرات أقبرت العقل لصالح الخرافة، فتحوا معها الدين من أسلوب تمثل للعالم إلى غاية الغايات، وبما أن مسار التاريخ أخذ هذا الشكل غير السليم، فقد تلبسنا على غرار منطق العصور الوسطى لبوس الدين كقانون نحتكم إليه في كل شيء، ومنه فقد بات ديدنا وليس وسيلة، كما أصبح نموذجا وأيقونة بدل أن يكون سيمولاكر ونسخة متغيرة في كل آن وحين.

Anfasse20025" نفهم من خلال هذه الشروط لماذا لا يختص نشاط التأويل فقط بملازمة المنهج كما وصفه هيدغر. فما يقتضيه ليس شيئا آخر سوى تجذير الفهم كما يمارسه كل من يفهم."جورج هانز غادامير – مقدمة حول مبادئ الهرمينوطيقا
لقد جاء في تعريفات الجرجاني أن التفسير في الأصل يعني الكشف والإظهار وهو أن يكون في الكلام لبس وخفاء ، فيؤتى بما يزيله أو يفسره. وإذا كان الإيضاح يتم بإتيان كلام يبين المراد ويزيل الإبهام فإن التفسير أعم من ذلك ويكون بذكر المرادف المشهور. ويستعمل التفسير في الألفاظ ومفرداتها بينما يستعمل التأويل في المعاني بغية التوفيق بين ظاهر النص وباطنه أو صرف النظر عن المعنى الظاهر إلى محتمل.
إذا كان الهدف من التفسير هو التوضيح والشرح والإبانة والتعيين والتعليل والتحديد والتخصيص وذلك بأن يصير الشيء معقولا والمجهول معلوما ويصبح السر الخفي مكشوفا وذلك بتعيين المدلول بما يدل عليه بماهو أظهر منه فإن الغرض من التأويل هو فهم الدلالة والمطلب والمقتضى والتفاهم مع المقصود.
تُرسَمُ الهرمينيطيقا بأنها متعة الحقيقة من خلال لذة المعنى. ولقد عُرِفَت منذ نشأتها بفن التفسير أو علم التأويل، ولقد أجمع المؤرخون على أصولها الدينية ولكنها قامت بثورتها الداخلية واستقلت عن منابتها.

Anfasse20024" ضمن أية شروط يجد الفيلسوف ، في هذا الوضع، الاشارات لمشكلة جديدة ، لفكر جديد؟....أي وضع هو ذاك الذي يكون ، فعليا، وضعا فلسفيا ، وضعا للفكر الفلسفي؟"1[1]
الفلسفة هي الرواق الفكري الذي يحتضن التنوع والاختلاف والتعدد ويسهر على العيش المشترك بين الذوات المتجسدة في العالم ويحقق التفاهم بين العقول الباحثة ويبني جسور التواصل بين الكائنات البشرية.
بيد أن الفلسفة تواجه هذه الأيام تحديات كبيرة وتقترب من مصيرها المحتوم وتعد نفسها في حضارة إقرأ لمعركة حاسمة مع الآلة الجهنمية التي تصنع ظاهرة الإرهاب وتجعلها نمطا مترحلا عبر العالم بأسره. اذ يتعرض النوع البشري إلى خطر إرهابي دائم وتنامي نزعات اليأس والتشاؤم وتفاقمت الأزمة الروحية بعد فقدان الأمل وتكاثر موجات الانطواء على الذات من طرف الهويات والاثنيات وغطى العدم الحياة.
على هذا الأساس تبدو محاولات الفلاسفة والمفكرين والعلماء والباحثين والمثقفين ضرورية قصد إضاءة المناطق المظلمة من الحياة اليومية والتشهير بالفضيحة والعار والتدخل بغية معالجة الجروح والأسقام. من المعلوم أن مدنية الإسلام تجلت بصورة باكرة لما توجه مبلغ الرسالة من أم القرى إلى يثرب وأطلق عليها اسم المدينة وآخى بين سكانها من الأنصار والوافدين عليها من المهاجرين وكتب دستور للأمة يرسم علاقتها بغيرها وجعل من طلب العلم فريضة وكان يدعو بالحسنى والتراحم ويأمر بالعفو في كل فتح وينصح بالرفق والتعمير ويرفض العدوان والتخريب والثأر وانتصر إلى روح الحضارة على العادات.

anfasse11029سنفكر في هذا العنوان مع دريدا Derrida وبنصوصه، معتبرين ذلك محاولة للاقتراب من الأفق الفكري الذي عقد حوارات مع الميتافيزيقا(*) من أجل مجاوزتها.
I – الكتابة والميتافيزيقا:
أما السؤال الذي سنجعل منه منفذا للتفكير مع دريدا وهو يحاول تفكيك الميتافيزيقا هو الآتي: بأي معنى يعتبر الفكر الغربي في مختلف أعراضه بتصور واحد للكتابة، التصور الذي يقيم هذه الأخيرة (= الكتابة) على الصوت واللوجوس؟
تجدر الإشارة بداية، إلى أن دريدا، لا يخرج، في مفهمومه لهذا الذي نسميه فكرا غربيا، عن تصور هيدجر للميتافيزيقا. وذلك لأنه يربط مفهومه للكتابة بتاريخ الفكر الغربي منذ بدئه مع سقراط الذي يعتبر لحظة انقلبت معها مجموع القيم حين اعتبر الفكر هو القيمة الحقيقية "للطبيعة الإنسانية"، وأنه على النظام التربوي أن يهذب النفس من أجل صيانة هذه الطبيعة وذلك لأنها مهددة دوما بحمق الجسد وبمقوماته الحسية، وينبغي لهذا النظام أن يكون لا نهائيا لأن ثمة عالم الأهواء الذي يهدد رصانة العقل. وإذا كان الإنسان جسدا ونفسا تفكر، وبما أن هذه الأخيرة تتميز بالخلود والتعالي، فإنه يتعين علينا صيانتها بشكل دائم عن طريق التربية حتى يتسنى لعين النفس أن تتخلص ما أمكن من ظلال الكهف وضلالاتها وتتمكن من رؤية تقوم على العقل الذي ينبغي له أن يوجه الإنسان نحو الأعالي، نحو الآيديا الذي يتميز بوجود أنطلوجي متعال؛ على العقل، بوصفه المستوى الجوهري داخل النفس، أن يعمل جاهدا من أجل أن تحاكي ماهيته ماهية هذا العالم، عالم الآيديا. من هنا حصل انشطار الوجود إلى عالمين متنافرين، عالم يمثل الحقيقة وعالم يمثل الضلال.
فمنذ هذا العمل السقراطي ستصبح مسألة المعنى والكتابة هي مسألة الماهية. وستتخذ صيغة السؤال، الذي ظل يحكم الميتافيزيقا، الشكل الصوري التالي: "الشيء-ما هو؟" أي أن لكل شيء ماهية تتميز بالحضور والجوهرية: فالفكر جوهر الإنسان وطبيعته الحقة. وهو بهذا قابل للنقل في حضوره وصفائه، من رأس إلى رأس عن طريق الحوار وفن الجدل والمايوتيقا، أو يتم نقله عن طريق اللغة بوصفها موجودا يسمي الأشياء ويقوم بإيصال الأفكار بين العقول، خاصة وأن الأفكار ماهيات، ونحن نعرف مع أفلاطون أن الماهية لها سبق أنطلوجي في الوجود قبل اللغة أو الكلام.

anfasse11028لم تكن الدولة موجودة دوما على هذه الصورة التي نعرفها اليوم. ونحن مطالبون بدون شك بابتكار أشكال جديدة للتنظيم السياسي مستقبلا. وحين سنلبي الطلب سيتعين علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز بدعوى مسايرة النزعة العلموية. إن هذه الحواجز ما كان لها أن تختفي، ولن يستقيم أي تحول في شكل الدولة إن لم يعتمدها وفق قواعد جديدة.
هل نستطيع تصور مجتمع بدون دولة؟ هذا السؤال كان عبارة عن حلم راود الأذهان طيلة هذا القرن الذي يوشك على الانتهاء. غير أن الدولة –رغم هذا الحلم- تبقى السد المنيع والأكثر فعالية في مواجهة العنف المدمر والمتنامي الذي يهز أرجاء العالم.
[ في فرنسا ] لم تتوقف المجادلات فيما بين الباحثين السياسيين حول التعارض الوجداني الذي يكتنف مشاعر المواطنين إزاء دولتهم. إن الاضطراب الأخير الناجم عن إضراب سائقي الشاحنات، من ضمن اضطرابات أخرى سابقة، يبين كيف أن لا مفر للمهتمين بالشؤون السياسية من الأخذ بعين الاعتبار هذا التعارض الوجداني. ففي هذا الصدد اتفق كل من أرباب العمل والمأجورين في القطاع الخاص على الترحيب ومباركة تدخل حكومي كفيل ليس بإيجاد حل لنزاعهم فحسب، بل ومن أجل رعاية وضمان اتفاق عاجل ودائم بين الطرفين.
وفي دراسة مطولة حول المركزية في الإدارة [ الفرنسية ] لأحد الباحثين (بيار لوجوندر Pièrre Legendre)، قدم هذا الأخير تلخيصا جيدا لهذه المشاعر المتناقضة فيما أسماه بالمفارقة في نظرة الفرنسيين إلى الدولة. ويتمثل هذا التلخيص في قوله "إنها (الدولة) حليفة وعدوة الكل في نفس الوقت".

anfasse11025لقد صرخ بعض المتعصبين المنتمين للدهماء، كون ان جون كالاس هو الذي قام بشنق ابنه مارك أنطوان، والحال أن ما تفوه به ذلك الشخص ما فتئ أن تم ترديده بعد ذلك، بل إن البعض أضافوا أن المتوفى كان قد قرر إعلان جحوده خلال يوم غذ، مما أيقظ حقد أسرته والشاب لافيس ضد الديانة الكاثوليكية، بعدها وفي غضون لحظة صغيرة لم نعد نشك أبدا كون أن المدينة برمتها اقتنعت أن هناك نقطة دينية عند البروتستانت أدت بأب وأم إلى قتل ابنهما فور قرار إعلان رغبته في تغيير انتماءه الديني.
والواقع أنه بتلقي هذا الخبر لم تتوقف العامة مطلقا، فقد ادعوا أن بروتستانتيو لانغدوك قد تجمعوا في نفس الليلة، حيث اختاروا بأغلبية الأصوات جلاد الطائفة، إذ وقع الاختيار عل الشاب لافيس، البالغ من العمر أربعة وعشرين سنة، حيث توصل بجديد نتيجة الانتخابات، ثم وصل بعدها إلى بوردو بغية مساعدة جون كالاس وزوجته وابنهما بيير، على خنق صديق وابن وأخ.
والحق أن محافظ (1) مدينة تولوز السيد دافيد، أُثارته هاته الإشاعات، مما جعله يرى أنه من الأفيد التدخل سريعا، وذلك عن طريق وضع إجراءات ضد المساطر والقرارات الثابتة، وهو ما أدى بوضع كل من عائلة كالاس وخادمتها الكاثوليكية وابنهما بيير، ولافيس على مرمى حجر.

anfasse05026بول ريكور المعروف بصمته وشحه بالاعترافات والنصوص البيوغرافية قبل في النهاية اقتراح كل من فرانسوا أزوفي ومارك دولوني مساعديه في الإشراف على تسيير مجلة الميتافيزيقا والأخلاق، بسرد مساره الشخصي والفكري على شكل حوار مطول يستعرض فيه مختلف محطات حياته. حصيلة هذا الحوار الذي استغرق عدة شهور شكلت مادة كتاب النقد والقناعة الذي يحسن أن لا ينظر إليه كمدخل وأعمال بول ريكور فحسب، باعتبار أنه يقدم فيه مسحا عاما لكل الحقول ذات الأهمية الفلسفية، من الميتافيزيقا إلى التحليل النفسي ومن الهيرمينوطيقا إلى تاريخ الفلسفة والثيولوجيا، بل أيضا كتفكير عميق حول أسئلة لم يسبق له أن عالجها في تآليفه المنشورة وكدرس في قدرته الفائقة على الربط بمهارة قل نظيرها بين المعارف والثقافات المتباعدة. الجزء الذي نقدمه معربا فيما يلي يمثل الفصل الثالث من الكتاب الذي يشتمل على ثمانية فصول أنجزت مادتها الحوارية بين أكتوبر ونونبر 1994، ثم ماي وشتنبر 1995 في بلدة شاتيني-مالابري Châtenay-Malabry بمكتب بول ريكور.
 

KIRكيركگورد خارج الأنساق الفلسفية:
  في عام  2013 مرَّ قرنان على ولادة الفيلسوف الدانماركي سورن كيركگورد، الذي ولد في 11/11/1813، وتقديراً لمكانته وأهمية منجزه اعتبر بلدُه الدانمارك هذه السنة خاصة بالاحتفاء به وإحياء آثاره، كما أُقيمت ندوات ومؤتمرات حوله في بلده وبلدان أخرى، ولم تهتم أو لم تتنبّه الجامعات العربية، ومراكز البحوث والدراسات، والدوريات الفكرية والدينية لهذه الذكرى. ما خلا مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي خصصت العدد المزدوج 55-56 "صيف وخريف 2013"، جريا على تقاليدها؛ بتجاوز تكرار المكررات وشرح الشروح، للاحتفاء بهذا الفيلسوف المختلف، الخارج عن الأنساق الفلسفية، واللاهوتي الخارج على دوغمائية الإيمان الكنسي، والأديب الرؤيوي الخارج على صنعة الشعر والفن، والمفكر المتعدد المتنوع الخارج على الموضوعات الجاهزة إلى ما هو مهمل ومنسي، حين تخطى السياق المتوارث للتفكير الفلسفي، الذي اهتم بدراسة الإنسان من الخارج، فتمحورت كتاباته على دراسة الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، مثل: الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية. واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بجوابها، يكتب: "إن مهمته في هذه الدنيا أن يثير الإشكالات في كل مكان، لا أن يجد لها حلا"[1].

anfasse29020لقد عرفت الكتابة عند الفلاسفة القدماء ظاهرة الازدواجية أو التناقض، سواء في الكتاب الواحد أو المؤلفات المختلفة لنفس الكاتب. والحق أن هذا التناقض ليس حكرا على الفلسفة فحسب، بل يطال التصوف والكلام، وإن بدرجات أقل. وهذا يعني أن التناقض عند القدماء يشمل قارات التراث المختلفة، بغض النظر عن الأسرة الفكرية التي ينتمي إليها هذا الكاتب، أو ينتسب لها ذاك. وقد شئنا لحديثنا في هذا العرض أن يقتصر على الفلسفة التي سنمثل لظاهرة التناقض فيها بالفارابي وابن رشد دون غيرهما من الفلاسفة المسلمين، حتى لا نثقل على القارئ الكريم، ونطول أنفاسه. فهل هذا التناقض الذي تحبل به الكتابات القديمة، مقصود أن غير مرام؟ كيف يمكن رأب الصدع ومد الجسور وإصلاح ذات البين، بين هذا الكتاب وذاك لنفس المؤلف؟ كيف يمكن فك "طلاسم" هذه الازدواجية، وتقريب الأفكار في ما بينها، وتأويل التناقض عند أصحابها؟ كيف يمكن سد الثلم والخروم، وملء الفجوات والنتوءات التي تقدم لنا هذا الفيلسوف أو ذاك، في صورة رجل "ولاج خراج"؟
لقد جرت العادة عند الباحثين المعاصرين، أن يعبروا عن ظاهرة التناقض عند القدماء باسم "الكتابة المزدوجة"، ولا نشتط إذا قلنا بأن هذه الظاهرة قديمة قدم الكتابة ذاتها، حيث ترتد بنا إلى اليونان. إذ يمكن تقسيم الكتابة الأرسطية –تمثيلا لا حصرا- إلى كتب أفلاطونية يدافع فيها المعلم الأول عن مذهب أفلاطوني، وكتب أخرى ينتقد فيها هذا المذهب نقدا مرا، ويتخلى فيها عن أسلوب المحاورات، ليكتب بأسلوب برهاني. ولا نبالغ إذا قلنا بأن ظاهرة التناقض عند الفلاسفة المسلمين لم تنشأ من فراغ أو عدم، بل لها ظروفها الموضوعية التي أوجدتها، وتربتها الملائمة التي أنجبتها، استنادا إلى المبدأ اليوناني الذي يعلمنا أنه "لا شيء من لا شيء". فلنومئ إلى مكامن هذا التناقض عند الفيلسوف المشرقي، قبل أن نشير بالبنان إلى مواطن الازدواجية عند الفيلسوف المغربي.
ازدواجية الكتابة الفارابية: