كارناب وهيدجر
كارناب فيلسوف الوضعية المنطقية حلقة فيّنا النمسا بزعامة شليك. وبعد انحلال حلقة فينا انتقل كارناب الى الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد تحت زعامة بيرتراند رسل وجورج مور وعالم الرياضيات نورث وايتهيد وفينجشتين الشاب المتأخر. لقد حاولت المنطقية التحليلية الانكليزية تحليل فلسفة اللغة في اعتمادها محاولة دمج الرياضيات والمنطق فيها وفشلت المحاولة فشلا كبيرا وتراجعت حلقة اكسفورد عن افكارها باستثناء اصدار بيرتراند رسل ووايتهيد كتابا مشتركا لهما باسم (مباديء الرياضيات العامة 1906). هذا الربط الافتعالي في خلق توليفة تجمع الرياضيات والمنطق وفلسفة اللغة كان جاتلوب فريجة فيلسوف اللغة السويسري اوصى بها قائلا اصبح يخجلنا اننا لحد الان لم ننجح في جعل الفلسفة علما يشبه الرياضيات.
انشق كارناب ومعه جورج مور عن حلقة اكسفورد وتبعهم لاحقا فينجشتين متراجعا عن غالبية افكاره في اطروحته (40) صفحة التي نال بها شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج تحت اشراف بيرتراند رسل عنوانها (تحقيقات فلسفية) عام 1953. وقد حظى هذا الكتيّب الصغير باهتمام فلسفي واثار ضجة كبيرة جدا في عالم الفلسفة. اما المهم بالموضوع هو اتفاق كارناب وفينجشتين وجورج مور فلاسفة المنطقية التحليلية الانكليزية على مقولة مفادها كل ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح فالصمت اجدى نفعا منه. وعدم الوضوح اللغوي بالفلسفة لغو فارغ لا يستحق الاهتمام به ولا الوقوف عنده. وذهب كل من كارناب ومعه جورج مور الى المناداة تحت وطأة يأس فلسفي غاضب تاكيدهما مسالتين:
الاولى أن اللغة بريئة من تهمة أنها تضليل العقل وخيانة المعنى. كما ساد بطغيان هيمنة فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. في اعتبار فلاسفة البنيوية بزعامة دي سوسير الذي اصدر بيانا فلسفيا قال فيه أن فلسفة اللغة باتت الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث الابستمولوجيا من مركز الفلسفة الاولى الذي شغلته عصورا طويلة من تاريخ الفلسفة.
الثانية وتزعمها جورج مور في إعتماده حسب تحليلي الشخصي كي نخّلص تاريخ الفلسفة من الطريق المسدود الذي ادخلتنا به فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة في هورمنطيقا بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا. لذا توّجب علينا والكلام لجورج مور كتابة افكارنا الفلسفية بلغة الناس العاديين وأيده بذلك كارناب.
من المهم الاجابة عن التساؤل لماذا ادخلتنا فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى طريقا مسدودا فلسفيا؟ طبعا يوجد استثناء انه بعد استلام الامريكان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين حصرا والفلاسفة الاوربيين عامة ابدعوا في اختراعهم مباحث فلسفية جديدة مستقاة من فلسفة اللغة خارج المسار المسدود المنغلق التي ادخلت القارة الاوربية فلسفة اللغة في متاهة التفتيش عن موضع قدم يعيد لها الاعتبار وعجزت. ادخل الفلاسفة الاوربيون فلسفة اللغة بطريق مسدود تخبطوا به حتى غادروه عن عجز لكن من حقنا نتساءل كيف ولماذا؟ اود تثبيت رأيي الشخصي الاجتهادي في الاجابة:
- اولا كان اختراع مبحث فلسفة اللغة الغاية منه تصحيح مسار التخريب الذي لعبته اللغة في تضليل العقل وتعطيل تاريخ الفلسفة بعيدا عن الاجترار والتكرار بلا معنى ولا تجديد وكذلك اتهام اللغة خيانة المعنى بما عطّل الفلسفة من تصحيح مسار تاريخها من الاخطاء المليء باللغو الفارغ الذي اكتشفت الفلسفة الحديثة أن غالبية مباحث الفلسفة على مدى عصور طويلة كانت تجريدا لغويا لا معنى له. لكن من غير المنصف تحميل نتيجة هذا الادعاء المنحرف على عاتق اللغة.
- الثاني أن تطرف كل من بول ريكور في فلسفته (الهورمنطيقا) وتطرف جاك دريدا في التفكيكية كان ابتذالا فلسفيا قاتلا. فقد زرع الاثنان بذور ما اطلق عليه النسق اللغوي الفلسفي المستقل عن مركزية الانسان والحياة. عالم لغوي نسقي قائم بذاته وله اهدافه الخاصة باللغة بما هي لغة حصرا. عالم لغة نسقي داخليا لاعلاقة تفاعلية متخارجة تربطه مع الواقع وحياة الانسان. وأن النسق اللغوي نسقا له خصائصه التي توازي الواقع ولا تقاطعه. وكل شيء نجده باللغة وليس خارجها.
- السبب الثالث انه اسقط بيد الفلاسفة القارييين (الاوربيين) أن اللغة على مر عصور تاريخها لم تضلل العقل ولا خانت المعنى. وهذه الاكذوبة اخترعوها فلاسفة البنيوية ولم يعرفوا كيفية الخلاص منها. وكان الفلاسفة الاميركان هم الذين انقذوا فلسفة اللغة من تضييعها وضياعها الفلسفي. باستلامهم راية تجديد مباحث فلسفة اللغة التي أخفق تحقيقه فلاسفة فرنسا والمانيا. من قبل فلاسفة اميركا امثال ريتشارد رورتي وجون سيرل وسانتيانا وسيلارز ونعوم جومسكي.
المهم كارناب هاجم افكار هيدجر الوجودية باقسى عبارات السخرية منه في كتاب هيدجر المعروف (الوجود والزمان). وانا بدوري اقول باعتزاز اني هاجمت افكار هيدجر بما يضعه بحجمه الحقيقي باكثر من مقال كما فعل كارناب ذلك قائلا ( ان كل ما كتبه الفيلسوف الالماني هيدجر لا يخرج عن كونه مجموعة هائلة من الاخطاء والمفارقات اللغوية الغامضة والالفاظ المعقدة التي لا معنى لها ). 1
الباحث الفلسفي دكتور زكريا ابراهيم اعتبر كتاب هيدجر الذي اعطاه بعض الفلاسفة اكثر من استحقاقه (الوجود والزمان) انجيلا ثانيا يحمل القداسة التي لايمكن لفيلسوف غير هيدجر كتابة افضل مما كتبه ومدح افكار هيدجر الفلسفية بما لم يكن يحلم به هيدجر لا في المانيا ولا في اوربا قاطبة. نفس المفارقة الفلسفية حصلت مع كتاب شوبنهاور (العالم ارادة وتمثّل). فقد تم التغافل عنه واهماله تماما بداية صدوره مدة طويلة وبعد سنوات تم رد الاعتبار له لاسباب هي غير مضمون الكتاب بل عوامل تسويقية لافكار شوبنهاور فرضتها تحولات الظروف الفلسفية بعد وفاة هيجل.
نموذج من هذاءات هيدجر الفلسفية
نقلا عن كتاب زكريا ابراهيم (دراسات في الفلسفة المعاصرة ص 422) اورد التالي مما قاله هيدجر : ( ولقد قدم هيدجر في الفصل الخامس من كتابه الوجود والزمان وهو عن الزمانية التاريخية عرضا انطولوجيا وجوديا لمشكلة التاريخ وفيما يلي الفقرة الاولى التي استهل بها هيدجر حديثه : ان كل جهود التحليل الوجودي انما تهدف تحقيق غرض واحد وهو البحث عن امكانية الاجابة عن معنى الوجود من حيث هو وجود؟ وما يتطلبه تمحيص هذا السؤال - طبعا الكلام لصاحبنا فيلسوف الوجودية هيدجر- انما هو تحديد تلك الظاهرة التي تكون هي الكفيلة باقتيادنا الى شيء يشبه الوجود الا هي ظاهرة فهم الوجود. وقد راينا ان هذه الظاهرة انما تخص الموجود البشري من حيث هي داخلة في مقومات وجوده. وعلى ذلك فانه لا بد لنا باديء ذي بدء من ان تقوم بتاويل كينونة هذا الموجود تاويلا يسمح لنا بالكشف عن طابعه الاصلي. لاننا عندئذ وعندئذ فقط. نستطيع نتصور ظاهر فهم الوجود الذي الذي ينطوي عليها هذا الموجود في صميم تكوينه الوجودي. وهذه هي الدعامة الوحيدة التي يمكن ان يرتكز عليها السؤال الخاص بالوجود على نحو ماهو مفهوم او متضمن في صميم كينونة ذلك الموجود. بل هذه هي الدعامة الوحيدة التي تسمح لنا بان نقيم تساؤلنا على اساس من الافتراضات التي تتضمنها عملية التفهم ) 2 انتهى الاقتباس من فلسفة رائد الوجودية هيدجر. والتمس من كل مختص وباحث فلسفي أن ينورنا بما اراد هيدجر قوله بمنطق الفلسفة لاغيرها. الذي أجده هراءا تحت خانة التفلسف بلا معنى ولا منطق تفكيري. تعقيب نقدي
أقطاب فلسفة الوجودية مطلع الستينيات من القرن العشرين أمثال مارتن هيدجر وكارل ياسبرز وجبريل مارسيل والبرت كامو باستثناء جان بول سارتر يخلطون بين مسالتين. فهم لا يفرقون بين الوجود المطلق اللانهائي وبين الموجود المحدد النهائي الانسان وموجودات الطبيعة الحيّة التي يطالها العدم. كما ولا يفرقون – اقصد فلاسفة الوجودية - بين العدم والموت على انهما جوهر واحد في التعبير عن ميتافيزيقا الفناء البيولوجي للانسان وكل الكائنات الحيّة. خطأ الوجودية المرافق لها ويلازمها أنها اعتبرت الوجود هو الانسان وليس الانسان موجودا يحتويه الوجود.
أختصر التعقيب النقدي حول عبارات هيدجر السابقة التي لا رابط فلسفي له معنى يجمعها. وقبل البدء اود الاشارة اني التقيت صديقا اهديته ثلاثة مؤلفات بالفلسفة من تأليفي. فقال لي اردت الكتابة عن احد كتبك فوجدتك عندما تكتب عن قضايا فلسفية معاصرة تكتب آراءك ويقصد اني لا استنسخ ما يقوله فلاسفة الغرب كما يفعل غالبية المشتغلين بالفلسفة بقداسة من الاكاديمين. أجبته أن مشروعي بالكتابة الفلسفية أعتمد فيه مرتكزين أولهما اني لا استعرض مايقوله الفيلسوف في منهج من القداسة والتعظيم المنزّه عن الخطأ التي غالبا ما نجده لدى اساتذة الفلسفة بالجامعات العربية من الاكاديميين ومعظم الباحثين العرب بالفلسفة الغربية فهم يكيلون التمجيد للفلسفة الغربية بلا ميزان في حين أن العصر الحالي يوجب علينا الالتزام بزرع بذور النقد الفلسفي ورعايتها والاهتمام الاستثنائي بها في محاولة ايجاد فلسفة عربية معاصرة.
المرتكز الثاني الذي أعتمده بكتاباتي الفلسفية هو مشروع (نقد) الفلسفة الغربية المعاصرة بعيدا عن التجريح وغمط الحقيقة بل أحاول تبسيط لغة التلقي للفلسفة قدر الامكان والبحث عن المعنى. فالفلسفة نمط من التعبير الاجناسي المتفرد الذي لا يمكن تغافل حقيقة أن لغة الفلسفة لغة خاصة تتسم شئنا أم أبينا بالغموض والابهام والتعقيد. ومثال على ذلك التوضيح النقدي الذي سادرجه عن آراء بعض فلاسفة الوجودية مثل هيدجر وياسبرز وسارتر :
اولا : الوجود مفهوم مطلق لانهائي والموجود هو الانسان الكائن الحي جزء من الطبيعة متمايز مستقل عنها. وكل الموجودات التي يحتويها الوجود باستقلالية تامة يدركها الحس والعقل كموضوعات له. اذن الوجود كما ذكرنا هو مفهوم فلسفي مطلق من مباحث الميتافيزيقا الفلسفية تحكمه اللانهائية. حاله حال كل المفهومات المطلقة مثل الزمن, الارادة, الحرية, الموت, العدم, الاخلاق وكذلك جميع موضوعات اكسيولوجيا القيم المرتبطة بالسلوك والنفس. موجودات الوجود هي موضوعات الادراك التي يحتويها الوجود بالتسمية المجازية وليس بالمعنى الحقيقي الواقعي. فالموجودات من ضمنها الانسان هي موضوعات مستقلة يدركها الحس والعقل ويتعامل معها على هذا الاساس. وموجودات الوجود جميعها تدور في فلك الموجود المركزي الذي هو الانسان في تعامله مع الطبيعة وموجودات العالم الخارجي.
لا يشترط ابدا ان نفهم موجودات الوجود هي في علاقة ارتباط عضوي مع الوجود. فالوجود مفهوم ميتافيزيقي مطلق بينما موجوداته من الاشياء والكائنات والموضوعات نسبية متعيّنة واقعيا وحتى خياليا يمكن تعامل الوعي بها باستقلالية تامة. يمكنننا القول أن الوجود هو الشكل الذي يحتوي مضمونه من الموجودات المستقلة عنه ادراكيا. في توضيح اكثر نحن نستطيع تناول موجودات الوجود كموضوعات في وعينا الادراكي الحسي والعقلي لكن من المحال ان نتناول الوجود في وحدة كينونية واحدة كموضوع ممكن إدراكه. اكبر التباس وخطأ اقترفته الوجودية بحقها انها تعاملت مع الوجود انه الانسان ولم تتعامل مع الانسان كموجود وكائن حي مستقل عضويا عن الوجود المطلق. خلاصة القول ان الوجود ليس هو الموجود بذاته. والوجود مطلق وليس موضوعا للعقل.
وإن كنا نقر بأن موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي موضوعات متعينة موجوديا إلا أنه بدون ادراك ووعي العقل الانساني لها تضل في حال الموجودات الساكنة المستقلة انطولوجيا التي لا تثير حاجة الوعي بها ولا أهمية الوقوف عندها ودراستها. وموجودات الوجود الحيّة منها وغير الحيّة باستثناء الانسان غالبيتها لاتعي ذاتها ولا تمتلك جوهرا وراء الصفات الخارجية لها ولا تعي علاقة الانسان بها. نستثني من هذا التعميم الانسان في امتلاكه وعيه الخاص به كذات وفي وعيه موضوعات العالم الخارجي بتخارج معرفي باستقلالية تفريق بين الاثنين.. ذات الانسان او الانا الهوياتية تدرك ذاتيتها وتدرك موضوعها ايضا. ومقولة الذات هي موضوعها فهم فلسفي خاطيء ولا انفصال بينهما خطأ يشبه علاقة الفكر باللغة.
فلاسفة من أمثال ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي وتبعهم هوسرل ومن معه أنكروا وجود العالم الخارجي بجميع موجوداته المتنوعة في عبارة أشهارهم العلني الصريح بها أن ما لا يدركه العقل غير موجود وكل شيء يدرك وجوده بالذهن قبل ادراك وجوده المادي من ضمن موجودات العالم الخارجي. وكل شيء موجود في تصورات الذهن قبل وجوده موضوعا ماديا ..
ما تجب الاشارة له ان نيتشة من مجموع فلاسفة عديدين انكروا جميعا ان يكون مفهوم الوجود المطلق غير الطبيعة والانسان كما تطلق عليه الوجودية خطأ هو الموجود الانسان. لايعني شيئا عدا ان الوجود هو ليس الانسان كما خلطت فلسفة الوجودية بذلك. الوجود مفهوم ميتافيزيقي البحث فيه وليس بموجوداته لا معنى له. اما حينما نتحدث عن الانسان باعتباره كينونة موجودية من ضمن موجودات الوجود فهو بهذا المعنى يكون موضوعا لذاته ووعيا لموجودات العالم الخارجي. نيتشة إعتبر الكلام الفلسفي عن الوجود المطلق الميتافيزيقي ضربا من الهراء فلا يوجد شيء حقيقي يسمى الوجود ولا يعني نيتشة الوجود هو الانسان كما فعلت الفلسفة الوجودية.
ثانيا : هيدجر فيلسوف الوجودية بكتابه (الوجود والزمان) لم يتعامل فلسفيا مع الموت والعدم على أنهما مفهومان لجوهر ميتافيزيقي واحد. فانت عندما تقول موت تقصد بالمفردة فناء كائن حي. واذا قلت عدما تعني بها اللاشيء الذي يمتاز بخاصية حتمية إفناء الكائنات الحية ايضا. ومن اقوال هيدجر الفلسفية السطحية قوله الديزاين ويقصد به الانسان او الحياة هو ركض الموت الى العدم. في حين الموت والعدم جوهران ميتافيزيقيان في التعبير عن شيء واحد هو فناء الكائن الحي بحتمية الموت. من المهم التفريق أن الوجود لا يموت لانه مفهوم لا يطاله التعين الموجودي لوعي العقل به كموضوع مادي ولا هو كائن حي مثل كائنات حيّة غيره محكومة بحتمية النهاية الموت. الوجود مصطلح ميتافيزيقي مجازي في التعبير عن مطلق تجريدي بالفكر. أما الفناء والاندثار فهو حتمية تطال كل ماهو حي من موجودات عالمنا الخارجي والوجود. ومقولة هيدجر بكتابه المشار له سابقا (العدم لا يعدم نفسه ) وكررها وسقط في ترديدها مع الاسف سارتر اثارت الكثير من السخرية اذ لا يصح ان نقول الموت لا يميت نفسه ونحن لا نعرف ماهو الموت لا بماهيته ولا بصفاته فهو ليس موضوعا يدركه العقل بغير دلالة علاقته بافناء الكائنات الحيّة. الموت حتمية فناء الاحياء. العدم او الموت لا فرق بين اللفظتين لا يمكننا تحديد ماهيتهما ولا معرفة احداهما لاننا ندرك ان لفظتي الموت والعدم تعني اللاشيء بحتمية الفناء البيولوجي والاندثار للكائن الحي.
هيدجر والعدم
تناولت سابقا باكثر من مقال متناقضات هيدجر المستترة خلف تعابير غامضة غير مفهومة لا قيمة فلسفية لها بخلاف الذين يرون الغراب صقرا.
عثرت مؤخرا على عبارة لهيدجر فاتني التعقيب عليها بمقالاتي الثمانية السابقة المنشورة لي عنه في مناقشة بعض مما ورد بكتابه الشهير(الكينونة والزمان) حيث يقول متفلسفا (الموجود هناك الديزاين الانسان هو ركض الموت الى العدم) .
الموت في الفلسفة او بالعلم هو مرادف لفظي للعدم ولا فرق ان تقول موت او ان تقول عدما فانك بكلا المفردتين انما تقصد فناء الكائنات الحيّة بيولوجيا بما لا تدركه عقولنا من سبب ولا من كيفية. في مقدمة هذه الكائنات التي يطالها الفناء الارضي هو الانسان.
والموت والعدم هما دلالة متطابقة بالجوهر والصفات غير المدركة عقليا. فالشخص يعرف دلالة الموت انها دلالة العدم لكنه يعجز عن تفسير ماهية كل من المفردتين ماهو الموت وما هو العدم؟. اذن كيف يركض الموت نحو العدم وكلاهما دلالة فناء الكائنات الحية واحدة.؟ الموت والعدم تعبرّان عن مدلول واحد هو الفناء.
لو نحن اعتبرنا الموت او العدم لافرق في التسمية ولا في الدلالة انه (ذات) وهو ليس بذات لسببين الاول الذات تدرك ذاتيتها وتعيها لانها تمتلك الحياة , وتعرف خاصية ذاتيتها بالتامل العقلي لوجودها بحسب تعليل ديكارت الذات او العقل خاصية تفكيره هو اثبات لوجوده. وهذا لا ينطبق على الموت او العدم فالموت لا يدرك ذاتيته كما ولا تدرك عقولنا ان الموت يمتلك ذاتا يدركها تهرول نحو الفناء العدمي.
والسبب الثاني ان الموت لا يمتلك ذاتا هو ان الذات تدرك ذاتيتها ليس بالتفكير المجرد وانما بالمغايرة الموجودية مع غيرها من موجودات الوجود الطبيعة والعالم من حولنا..
لذا الموت او العدم هو اللاشيء الذي لا يدركه العقل بغير دلالة ناتج افنائه الكائنات الحية. اللاشيئية العدمية للعدم او الموت هو اللفظ الدلالي الذي يعجز العقل معرفته الماهوية بغير نتائجه الافنائية للاحياء. العدم او الموت لا يطال ما ليس له روح تعيش الحياة اي الموت لا يميت حجرا مثلا.
اذكر مقولة هيدجر الثانية الخاطئة قوله العدم لا يعدم نفسه اذ من البديهي اننا نعجز ان نقول الموت لا يميت نفسه كي لا نصبح اضحوكة كما فعل هيدجر. فاللاشيء (الموت – العدم) الذي لا يدركه العقل غير موجود إدراكا ليموت ونحن ندرك نتائجه في اعراض مفارقة الروح للجسم او بقائها فيه ميتا نعرفه بدلالة اعراض الموت الاخرى المعروفة في توقف جميع اجهزة بقاء الحياة بالجسم تعمل من توقف القلب فقدان الاحاسيس كافة توقف التنفس عدم الحركة فقدان الوعي الدماغي والحسي الجسمي الخ. وذلك لان العلم لم يتوصل لحد الان كيف يموت الكائن الحي وكيف تفارق الروح المزعومة الجسد اكثر من معرفة نتائجه التي يدركها العقل على انها لم تعد طبيعية تعيش الحياة كما نعيشها نحن؟
ثالثا: الانسان كائن ميتافيزيقي
استذكر قبل دخولي في تفاصيل عنونة هذه الفقرة تثبيت مقولة هيدجر الفلسفية الساذجة (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا) إذ من البديهيات عدم وجود لغة بعدية بغياب عقل قبلي سابق عليها. الانسان كائن عقلي بواسطته توصّل اختراع اللغة. أجد الانسان كائنا ميتافيزيقيا بالفطرة الضرورية لانسنة وجوده الذاتي المتفرد عن باقي كائنات الطبيعة. ميتافيزيقا الانسان ليس محركها البحث عن معرفة وادراك (الاله) او الخالق او حاجة الوجود الانساني الى ميتافيزيقا التديّن وكلاهما هدفان لا تنكر الميتافيزيقا الخوض فيهما فلسفيا.. بل كل تفكير انساني عبر العصور في مختلف القضايا التي تعترضه ويعيشها أما أن يختار التكيّف المغلوب على أمره معها اذا ما اتسمت تلك القضايا بميتافيزيقا التفكير. أو الاحتدام التصارعي مع الافكار القابلة للتطبيق في فرض ارادته الذاتية عليها ولا يتكيّف معها ويجاريها..
أنسنة الانسان بميتافيزيقا الروحانيات والتصوفيات الدينية أي في محاولته التسامي فوق الوجود المادي في تعطيل احساسات البدن او الجسم وفي تعطيل فاعلية العقل المحدودة بالمدركات التي تشكل لديه موضوعات موجوديته الارضية كفرد ضمن مجتمع.
بعض جوانب المباحث الميتافيزيقية الخاصة بالاديان واللاهوت تكون خاصيتها تغليب النزعة الدينية الايمانية القلبية الغيبية على العقل ولا ارى ضررا بذلك. سواء اكان الانسان هو مخترع دينه والهه بعلاقته بالطبيعة حسب فلسفة فيورباخ في محاولة الانسان معرفة وجوده الارضي بدلالة ميتافيزيقا السماء.
او سواء أن يكون الانسان معطى ديني روحاني تكون فيه ميتافيزيقا التفكير اللاهوتي عموده الفقري. اي كما في تعبير الوجودية الانسان وجود طاريء. وأجد بناءا عليه يكون التدّين في حياته ملازما طارئا ايضا محكوما به الانسان.
ميتافيزيقا التفكير عند الانسان سواء اكان خرافيا اسطوريا وثنيا او تدينا روحانيا عاصر الانسان طويلا فهي أي ميتافيزيقا التفكير الديني عموما بالنتيجة كانت ضرورة حياتية قديمة جدا وضرورة نفسية يحتاجها الانسان حاضرا.أنا هنا اتجاوز نظرية علماء الفيزياء والفلك أن لا مستقبل للفلسفة أمام تقدم فتوحات العلم. كما تنبأ العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكنج والسبب كونه عالما في فيزياء الكون وليس فيلسوفا على الارض..أنشتاين رفض تصنيفه فيلسوفا على حساب انه عالم فيزياء.
حين تقودنا الميتافيزيقا الوصول الى الايمان الديني التوحيدي المعاصر فهي عندها لم تعد ميتافيزيقا إعدام علمية تفكير العقل من جهة ولا إعدام أهمية حياة الانسان الارضية من أجل أهداف غيبية يؤمل حصوله عليها في عالم ما بعد الفناء الارضي من جهة اخرى.
رابعا :استشكالات فلسفية عن الوجود:
يقول دينوسيوس الوجود الاعلى لا ينتمي الى مقولة الموجود الذي لا يدرك ولا الى مقولة اللاوجود.وبدورنا نقول الوجود في ذاته هو نومين كما اقرّه كانط, أي هو وجود الاشياء التي لا تمتلك وعيا بذاتها ولا وعيا مغايرا لها. لذا الوجود بذاته بالنسبة لادراك ألانسان له هي إستحالة وجودية إدراكية تناقض المفهوم الطبيعي للانسان. والوعي هو إدراك الآخر, والآخر موجود مغاير للوعي به.
ينكر سارتر أن يكون الوجود في ذاته وجودا حقيقيا, كما لا يمكنه أن يكون "لا وجودا". والعدم لا يعدم نفسه وهو خطأ اشرنا له ونجد صداه الاستنساخي عند هيدجر. لكن يبقى العدم هو الموت الحتمي الملازم للانسان ولكل كائن حي. ملازم كل موجود حي وصولا مرحلة إفنائه. العدم لا يعدم نفسه لانه يفني غيره من الكائنات الحية فقط اوضحنا باسطر سابقة ان الموت والعدم دلالة إفنائية لوصف حالة الفناء. حسب عبارة سارتر وهيدجر هل هناك حاجة معرفية او فلسفية ان نقول الموت لا يميت نفسه. طبعا عبارة سارتر سبق لهيدجر ان قالها.
الوجودية تدعي فهمها الوجود الذاتي بشكل خلاق, فالانسان يخلق نفسه بنفسه من حيث سعيه تكوين ماهيته في كينونة متكاملة. كما تعتبر الوجودية لا فرق بين الذات والموضوع وليس العقل هو الطريق الوحيد في إكتساب المعرفة. برايي يوجد فرق بين الذات والموضوع وادماجهما معا عضويا مفارقة خاطئة يصعب تمريرها. أما أن لا يكون العقل الطريق الوحيد في اكتساب المعرفة فهي صحيحة تفتقد البرهنة عليها والتوضيح.
عمد هيدجر في كتابه الوجود والزمان إستعماله تعبيرات غامضة لا تحمل أكثر من قشرتها التعبيرية اللغوية ومثل قوله " الوجود – في – عالم هو ليس علاقة بين ذات وموضوع". و"الموجود هناك الانسان الديزاين ليس له عمق, بل يأتي من جوف هاوية بلانهاية من العدم" " ونهاية الموجود هناك هو الموت الذي هو نهاية بلا عدم, هو ركض الموت الى العدم, هو المحمول بذاته في داخله نحو العدم"." الوجود الاصيل يكون في الانعزال عن "الهم" الاخرين, وهذا لا يتحقق بقلب العالم "
نستطيع القول بامانة ان هذه المقتطفات والقفزات الكنغرية في العبارات لا تخدع المتلقي الحصيف انها بلا معنى وبعضها يدحض نفسه تلقائيا. اعتقد ماسبق وذكرته عن هذاءات وهراء فلسفة هيدجر توضحها العبارات السالفة له.
عارض سورين كيركارد الفيلسوف الشاب الدنماركي الذي توفي في عز شبابه والذي يعتبر الاب الروحي للوجودية المؤمنة غير الالحادية فقد انكر العقل كي يتسق نفسيا مع ايمانه الديني, فهو يرى أنه لا يمكن ان نصل لوجود الخالق الاله بوسيلة طرائق الفكر العقلي لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات في معاداتها العقل. وبذلك أراد بناء فلسفة وجودية مؤمنة ليس باللاهوت كنص ديني, وإنما أراد وجودية تمزج بين المادي والروحاني في تعطيلهما فاعلية العقل الايماني غير المتحقق.
علي محمد اليوسف/باحث فلسفي
الهامش : 1. دكتور زكريا ابراهيم /دراسات في الفلسفة المعاصرة ص 394
2. نفس المصدر ص 422