التاريخ مرآة للعصر وصورة للذات عند واسيني الأعرج:
يشكل النظر إلى (الذات) باعتبارها صورة تطابق (الأنا) محورا رئيسيا في رواية واسيني الأعرج "كتاب الأمير"، التي تتمحور حول شخصية "الأمير عبد القادر الجزائري" التاريخية في لحظة مواجهة الآخر (المستعمر).
وتتساءل الناقدة "ماجدة حمود" بصدد مناقشتها هذا العمل الروائي: "كيف تكون الشخصية التاريخية ابنة زمانها وأفكارها من دون أن نعزلها عن عصرنا، فتبدو مستقلة من دون أن تعاني غربة عن همومنا ؟[1]...
من هذا المنطلق يجد المتلقي نفسه متسائلا: هل يحق للروائي تجاهل كل ما يشكل خصوصية الشخصية ؟ وهل يحق له انتزاعها من سياقها التاريخي والثقافي كي يرسمها وفق صورة تسعى إلى إرضاء رغباته فيخضعها لأفكاره وزمنه ؟
ترى هل يحق له إعادة تشكيل شخصية عبد القادر الجزائري باعتبارها نظيرا (لِلْأَنا / الذات) في صورة تبدو للمتلقي غريبة عن فضائها الخاص؛ أي عن كل ما يمنحها تميزا وهوية ؟
وهل إلغاء الصراع الفكري القائم بين الأنا و الآخر المستعمر في الرواية التاريخية يمنحها مصداقية ؟
لماذا اختفى الحوار مع الآخر المخالف للأمير؟ ولماذا سلط الروائي الضوء على أصدقاء عبد القادر الجزائري من الفرنسيين ؟
لابد أن يتساءل المتلقي مجددا بعد اطلاعه على هذا العمل الروائي مستغربا : "لماذا سيطر صوت واحد للآخر [ مسالم ومتسامح وخير...] وأُغفل الصوت المعتدي الذي أصر على البقاء في الجزائر مائة وثلاثين سنة ولم يخرج منها إلاّ بالثورة والدم ؟"[2].
عتبة العنوان :
يتكون عنوان الرواية من كلمتين تشكلان معنى منسجما [ الكتاب - الأمير]؛ فالأولى منه تحيل إلى المرجعية التراثية التي تجعل منها مؤشرا دلاليا؛ مثل : " كتاب البخلاء" للجاحظ.
وربما استخدام الكاتب هذه الكلمة في العنوان يوحي إلى مرجعية موضوعية، ذات صلة بالوثيقة التاريخية التي تحاول الرواية اعتمادها من دون أن تهمل جماليات الرواية، إذ أفسحت المجال لصوت الأنا والآخر للتعبير بحرية عما يجول في الأعماق، لكن سرعان ما يستبعد المتلقي هذا التأويل بعد أن يلاحظ أنه تم اختزال (الأنا) والاكتفاء بكلمة (أمير)، وهي الكلمة الثانية في العنوان.
يعول الكاتب على شهرة الشخصية التاريخية لعبد القادر الجزائري، لكن المتلقي سواء أكان عربيا أم غربيا بات يجهلها، خصوصا بعدما أصبح الابتعاد الزمني حتميا عن الفترة التاريخية التي عاش فيها عبد القادر الجزائري، لذلك نَلْمَحُ في حذف الاسم رغبة لا شعورية من قبل الكاتب في عدم تحديد طبيعة (الأنا)، والاكتفاء بتجسيدها عبر خصوصية الاسم الذي يوحي بهويتها المستقلة وبإنجازاتها في مواجهة الآخر المستعمر، إذ يصح لقب "الأمير" على الأنا والآخر، وبذلك لا يختزل العنوان المقولة الأساسية للرواية، كما أنه قد يحيل ذاكرتنا إلى كتاب "الأمير" لميكيافيلي، من دون أن تكون هناك صلة دلالية بين الرواية وهذا الكتاب.
تأثير الوضع السياسي على كتابة الرواية:
لقد أثربشكل كبير سياق كتابة هذه الرواية (بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001) من خلال المساهمة في تشكيل ملامح شخصية الأمير، والتركيز على الجانب المنفتح والمسالم منها، ويحضرهذا الملمح خلال قوله :
"لم أعد ممن يلتجؤون إلى الأسلحة، سأدعو في صلواتي لسموكم ولبلادكم العظيمة خيرا وهداية، أما ما يحدث هناك في تلك الأرض الطيبة فالله وحده يعرف سِرّ عواقب الأشياء، أتمنى خيرا فقط للكل..."[3]
هنا يتساءل المتلقي: أيمكن لمن قاتل الاستعمار خمسة عشر عاما أن يتحدث بمثل هذه اللغة المستسلمة؟
"من المؤسف أن هذا الحديث عند واسيني الأعرج قد ألغي، فأصاب الشخصية التاريخية بنوع من الفتوروالهشاشة، حيث نلاحظ رغبة المؤلف في تجسيد الدور الوحيد الذي ينال إعجاب الآخر، لذلك حاول أن يحصر صوت الأمير (المجاهد) ويبهت ملامح صراعه الجوهري مع المستعمر دفاعا عن الأرض، وينأى ببطله عن اللغة الصدامية وبخاصة الدينية التي تشكل دافعا يحمسه للمواجهة ويكسب صوته خصوصية، وكي ينسجم المؤلف مع هذه الرؤية المهادنة للشخصية كان بإمكانه ألا يسلط الضوء السردي على فترة جهاد الأمير في الجزائر، بل على فترة تصوفه في الشام، حيث نفاه المستعمر"[4].
وكما سبق أن أشرنا في البداية إلى العلاقة بين شخصية الأمير وأحداث سبتمبر، يمكن القول أن المؤلف قد عاش وعايش أصداء هذه الأحداث أثناء الكتابة، فقد شوه الآخر صورة العرب والمسلمين وألصق بهم تهمة الإرهاب، فكان لزاما على المثقف العربي أن يعلن وجها آخر غير العدوان، فهم كغيرهم من الأمم ينقسمون إلى طائفتين: الأولى منفتحة على الانسان تقدس الحياة أيا كانت، وهي بذلك تتبع الآية الكريمة { من قتل نفسا بغير حق أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}[5].
أما الطائفة الثانية فظلامية منغلقة على فكرة العداء للآخر والرغبة في التخلص منه. لهذا؛ ليس من الغريب أن يسقط واسيني الأعرج على الشخصية التاريخية/ الروائية أفكارا راودته في تلك الفترة، حتى وجداناه يعاتب نائبه على قتله الأسرى بلغة تنبض بهمِّ الحاضر، تكاد تكون للمؤلف :"ها قد عدنا لإسلام لا يعرف إلا الحرق والتدمير والقتل والإبادة والضغينة، كما ألصقت هذه الصورة بنا، لقد أمضيت كل سنوات الحرب أثبت للآخرين أنّنا نحارب ولكن لنا مروءة ورجولة، لقد دفعنا أعداءنا لتقليدنا"[6].....
وبذلك طغت لغة المؤلف على الشخصية، فأهملت اللغة الخاصة بالأمير، أي تلك اللغة التي تتناسب مع السياق التاريخي والثقافي الذي نشات فيه، فهي شخصية متدينة تتبع تعاليم دينها في الجهاد وفي التعامل مع الأسرى، في حين وجدنا المؤلف يعنى بلغة الراهب حتى ليبدو لنا مطلعا على الدين الإسلامي، فيحاور الأمير على أساسه:
"في أي شيء ... يفيدك في حربك على الذين احتلوا أرضك قتل هؤلاء الأبرياء؟ وأعرف أن دينك يمنعك من قتل النفس إلا بالحق[7]..."
وبالتالي فإن لغة المرجعية الدينية تبقى أحد أهم العوامل التي تمنح خصوصية لشخصية الأمير، فكيف لا وهو الفقيه والزاهد والمتصوف، لكن المؤلف حاول تجنبها قدر الإمكان فحرم بذاك الشخصية مما يشكل هويتها.
الحوار بين الأنا والآخر في "كتاب الأمير"
إن الحوار وسيلة لا محيد عنها لتقليص الهوة بين المختلفين، كما عرضه أغلب المهتمين، وينزل الدكتور طه عبد الرحمان " الحوار" بين الأنا و الآخر منزلة الحقيقة، وأوضح أن للحقيقة الحوارية ثلاثة أوجه؛
أولها؛ أن طريق الوصول إلى الحق ليس واحدا، بل متعدد وثمة حاجة لمتوسلي هذه الطرق إلى الحوار لبلوغ هذا الحق؛
ثانيا؛ إن تواصل الحوار بين المختلفين يفضي إلى تقليص هوة الخلاف بينهمثالثا؛ يسهم الحوار في توسيع العقل وتعميق مداركه، لأن العقل يتقلب بتقليب النظر في الأشياء من جانب المتحاورين وعلى قدر تقلبه يكون توسعه وتعمقه.
وباستنباط أبعاد هذه الرواية نلاحظ أن المؤلف ظل حريصا على نبش الجانب المتعلق بمسألة الحوار بين الأنا والآخر الفرنسي، وقد ساعدته شخصية الأمير بأبعادها الإنسانية والثقافية على بناء جسور التفاهم.
الآخر العسكري في رواية كتاب الأمير:
لعل المؤلف في روايته يرغب في أن يبتعد بمتلقيه عن "ساحة المعركة لأنها لم تعايش الآخر العسكري في فضاءات الرواية إلا نادرا، فالابتعاد عن فضاء متوتر فيه كراهية محضة للجزائريين، مما يعزز هذا الشعور أيضا في أعماق الأنا. وبذلك بدت لنا رغبة واضحة في تجميل هذا الآخر سواء أكان راهبا أم ظابطا، لهذا عايشنا في فضاء الرواية الجانب السلبي للمستعمر، فبعد حرق القرى وسلب المواشي، نجد مشهدا يظهر فيه ضابط فرنسي وهو يعطي طفلا جزائريا قطعة خبز فيرفض على الرغم من جوعه، وحين يسأله لماذا؟
يجيبه :
"ديننا يمنعنا من الأكل من أيديكم... لأنكم لا تتوضأون[8]"
فيسأله الضابط عن كيفية الوضوء ويتوضأ كي يأخذ قطعة الخبز منه، لم يقل الطفل ديننا يمنعنا من أكل طعامكم لأنكم تقتلوننا. لماذا إذا اختار المؤلف الوضوء؟ هل يريد أن يوحي بأن الدين الإسلامي يمنع التعامل مع الآخر؟
يتبين من خلال هذه التأملات أن المؤلف له رغبات لا واعية في تبرئة الآخر، "فيلجأ إلى جلد الذات واتهامها برفض المستعمر لأسباب كامنة في أعماق التربية والعقيدة، من دون أن يكون هناك أي علاقة لممارسة الآخر الوحشية في إشاعة جو من الكراهية والرفض"[9]
ومما يثبت صحة هذا الزعم، أن المجازر التي ارتكبها الاستعمار لم تحظ بمشاهد تصويرية، " إذا كان نصيبها السرد السريع، أو تقديمها من خلال خبر في الجريدة."[10]
لعل السبب في ذلك تخفيف تعاطف المتلقي مع معاناة الجزائريين، وما قد تثيره هذه المشاهد من كراهية لوحشية المستعمر، فالمؤلف لا يريد أن يشعل التوتر بيننا وبين تسليط الضوء على ممارسات أصبحت جزءا من الماضي، لكن حين يتعلق الأمر بتبرئة ساحة هذا المستعمر، نجده يتأنى في رسم المشهد ليعزز صورته الإيجابية في مخيلة المتلقي على الرغم من تاريخه العدواني، لذلك حين نتأمل الحوار بين الأمير والآخر في مرحلة الأسر، نجده يكاد يبتعد عن الأمور العسكرية غير أن خطيئة ارتكبها نائب الأمير بقتل أسرى فرنسيين نجدها تتكرر عدة مرات في الرواية، وبما أن المأخذ الوحيد للفرنسيين على تاريخ الأمير في جهاده، هو تلك الحادثة، فقد أرقت المؤلف مثلما أرقت الآخر المستعمر، فبذل جهده في تبرئة هؤلاء الأسرى ليعيد لصورته صفاءها.
ختاما؛ يتضح أن المثقف العربي لا يمكن أن يعتبر الهوية انغلاقا على الذات، كما أنه لا يمكن أن يرفض الانفتاح على الآخر من أجل الحفاظ على مكوناتها، لأن ذلك يعني الجمود والضعف والانحطاط، مما يناقض مفهوم الثقافة الذي يقوم على التطور والاعتراف بكل معرفة جديدة؛
لذلك بدأ المثقف سواء أكان مفكرا أم روائيا يرفض قمع إرادة التعبير وعرقلة أي محاولة لاختراق الحواجز العقائدية والعرقية التي تقيمها الأنا، لأن الذات الخائفة من الامحاء تزداد تقوقعا على نفسها، وترفض الآخر.
والمثقف الحقيقي هو الذي يتجاوز هذه الرؤية المغلقة ويبتعد عن التعامل مع مكونات هويته القومية بصفتها جوهرا ما مقدسا، وبذلك يخرجها من إطارها الجامد، وينظر إليها بصفتها شرطا يمكن تغييره، أو معطى ينبغي صنعه وتحويله، لهذا يعد أكثر الناس وعيا بالهوية وقدرته على تجاوز المألوف والابتكار، فالمهم ألا يجاوز تعلقه بما يشكل رموزه وهويته من دون ازدهاره وتألقه، ومن دون تفرده وإبداعه، فالخصوصية فرادة تسمح للإنسان بأن يكون عالما"[11]
من هنا نجد الروائي يصور هويته في إطار من التعددية، كما قال "أمين معلوف" حين سئل عن هويته:
هل هي فرنسية؟ فأجاب:
"هذا وذاك ليس بمعنى أن نصفه لبناني ونصفه فرنسي لأن الهوية لا تتجزأ أبدا إلى أنصاف أو أثلاث، بل هي هوية واحدة تتشكل لدي كل شخص من مجموعة من العناصر لا تقتصر بالطبع على تلك المرون في السجلات الرسمية، وهناك بالتأكيد لدى الأغلبية العظمى من الناس، الانتماء إلى تقليد ديني وإلى جنسيتين وإلى مجموعة إثنية أو لغوية، أو إلى مهنة ومؤسسة ووسط اجتماعي..."[12]
وعليه فإن تجلي الآخر في الرواية والنقد العربي أضحى عنصرا لافتا عمل الروائي على تصويره، كما عمل الناقد على استنطاقه من خلال المسيرة الإبداعية والنقدية، فوجدنا العديد من النماذج النقدية في مختلف الأقطار العربية تعنى بالإجابة عن الإشكالات الشائكة التي رصدت الأنا في مواجهة الآخر وحددت طبيعة العلاقة بينهما.
[1] ماجدة حمود إشكاليات الانا والآخر، ( نماذج رواية عربية)ن عالم المعرفة مارس 2013ن الكويت ص.215.
[2] نفسه، ص، 216.
[3] واسيني الأعرج، كتاب الأمير، منشورات الفضاء الحر ، الجزائر، ط1، 2004ً .ص.532.
[4] ماجدة محمود، إشكاليات الأنا والأخر، ص، 218-219.
[5] القرآن الكريم، سورة المائدة الآية 32.
[6] كتاب الأمير، ص، 358.
[7] المصدر السابق، ص، 363.
[8] واسيني الأعرج، كتاب الأمير، ص: 71
[9] ماجدة حمود، إشكالية الانا والآخر ص، 241.
[10] كتاب الأمير، ص، 245.
[11] على جوب، الممنوع والممتنع، نقد الذات المفكرة، المركز الثقافي العربي، طحن 1998، ص 219 (بتصرف).
[12] أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة، د، نبيل محسين، دار مورد، دمشق، ط1 1999.ص14.