سبق للمخرج المصري صلاح أبو سيف أن أثار مسألة الأصالة بالنسبة للسينما، وهل يتعلق الأمر بفن يخاطب الميل الإنساني لرؤية آمال البشر وآلامهم، وبالتالي يمكن "تذوقه"، أم لا يعدو الأمر كونها صناعة، تلبي مطالب التسلية، وإغراق الجمهور في عوالم هروبية تُنسيه واقعه المثقل بالملل؟
ربما كانت البداية المحرجة للسينما كوسيلة تسلية رخيصة، سببا في إثارة الاشمئزاز. إلا أن الاختراع الجديد سرعان ما تغلغل في جوانب الحياة الإنسانية، ونافس رواد قاعاته عشاق المكتبات والمسارح. لا يمكن بالتالي إنكار التأثير العميق للسينما في العصر الحديث، فقد ينسى المرء أول كتاب قرأه، لكنه لا ينسى أبدا أول فيلم شاهده. (1)
يولد الفيلم ثمرة تكامل عناصر متعددة: الممثل، والحوار، والمنظر، والموسيقى؛ بالإضافة إلى ما استحدثته الكاميرا من حركة، وزوايا تصوير، ومؤثرات بصرية. كل هذه العناصر يديرها المخرج بأسلوب تناسب وتوازن وإيقاع، يجعل من الفرجة مصدر متعة، وتوليفة حاسمة لتحقق الفهم وتلقي الرسالة. بهذا المعنى يكون للسينما دور في مخاطبة المُشاهد برؤية فنية ورسالة جمالية، يتخطى بفضلها حدود ذاتيته الشخصية إلى قضايا العالم، وهموم الإنسانية من حوله.
هل يُعزى إذن نجاح أغلب الأعمال السينمائية إلى تحقق الرؤية الفنية والرسالة الجمالية اللتين استشعرهما جمهور متذوق؟
ترتبط الإجابة عن السؤال بكيفية تذوق الجمهور للعمل السينمائي، واستكشاف أبعاده الجمالية. والمسألة هنا لا علاقة لها بنوعية الأفلام، يقول صلاح أبو سيف، إذ يمكن للأفلام الهروبية أو أفلام التسلية المجردة أن تكون مثقفة جدا إذا روعي في صناعتها الذوق الرفيع. إن الأمر يتعلق بإشاعة معايير جمالية، تغذي المزاج الثقافي العام، وتتيح تبسيط مفردات العمل الفني بشكل يسمح للجمهور بتحديد نقاط القوة أو الضعف، ومدى جمالية أو تدني مستوى الجمالية فيما يتلقاه داخل قاعات السينما.
عموما يمكن تصنيف المشتغلين داخل الحقل السينمائي إلى فريقين:
فريق يراعي الذوق العام، ويتحرك بكاميرته داخل المعايير والأنماط السائدة في مجتمعه. وحتى إن تمتع برؤيا ابتكارية متجددة فهو يعمل على إرضاء جمهوره. وتكون سمة هذه الأعمال في الغالب هي التكرار والمشابهة، مما يدفع الناس للعزوف عنها لما في النفس من ميل إلى التجديد والمغايرة.
أما الفريق الثاني فغير مهتم بإرضاء الجمهور، بل هدفه هم تطعيم الذوق العام بإنتاجات مبتكرة وجريئة، تحرك الوهم السائد، وتنفض عن الحياة الفنية مظاهر الجمود والنمطية. لذا عبّر بعض المخرجين صراحة عن رفضهم لقيود السينما التقليدية التي تنحاز بشكل سافر للمتفرج "الكسول". يقول المخرج المصري محمد خان: عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟
إلى جانب الآلة الدعائية، التي يمكن أن تكون مضللة في بعض الأحيان، يعتمد تذوق العمل السينمائي على المعايير الجمالية التي يُرسيها النقد المبسط؛ أعني النقد الذي يتلقاه عموم الناس في الصحف والمجلات الأسبوعية. تساعد الآراء التي تطرحها أقلام نقدية وصحفية متخصصة في تدريب الجمهور على التقاط عناصر محددة داخل العمل الفني، لكشف غموضه، وإضاءته من الداخل. وفي حالة التدريب المتكرر يحقق المتفرج ما يسميه يوري لوتمان (الانفعال المزدوج)، بمعنى أن ينسى المرء أن ما يراه هو محض خيال، وفي نفس الوقت ألا ينسى ذلك. ففي عالم الفن وحده، يقول لوتمان، يستطيع الإنسان أن يحس بالذعر أمام جريمة ما، متذوقا في نفس الوقت مهارة أداء الممثلين. (2)
يشكل الانطباع جوهر التذوق في بدايته، حيث يُعبّر المتلقي عن رفضه للعمل أو قبوله من خلال تفاعل ذاتي تحكمه المزاجية، والبيئة الاجتماعية، ورواسب الذوق القديم التي شكلت مخزونه الثقافي. إن تلقيه للعمل السينمائي قائم على الإعجاب، والاندماج اللاشعوري في بيئة العمل الزمانية والمكانية، وتقدير المعاناة الإبداعية للإخراج المبذول في هذا العمل وفق رؤيا شمولية لا تراعي الأجزاء والمفردات.
حين يحقق العمل الفني إحساسا بالرضا المشترك بين الفنان والجمهور المتذوق، تحدث حالة من الرغبة في تكرار المشاهدة، أو التجربة الجمالية إن صح التعبير. يعيد المتلقي مشاهدة العمل مرة أخرى، فيجرب أحاسيس، ويكتشف أطرا وعلاقات فنية لم يقف عندها في المرة الأولى. يبلغ المتلقي في هذه الحالة مرحلة الاستمتاع بالعمل الفني، وهي حالة راقية تشحذ إدراكه الجمالي، وتحرره من الأذواق القديمة والمتعارف عليها، وبالتالي تسهم في تغيير مزاجه الثقافي.
وتؤدي معاودة التفاعل مع نفس العمل الفني مرات عديدة إلى امتلاك رأي خاص، والوقوف على عتبة النقد الذي يصدر الأحكام الجمالية، لكن ليس وفق معايير وأدوات منهجية ونقدية، وإنما بالعودة مرة أخرى إلى قناعات ومعتقدات جرى تشكليها سلفا. يقول آلان كاسبيار:" وجود السمات الجمالية في أي فيلم مرتبط إلى حد ما بمعتقداتنا. فحيوية بعض الأفلام مرتبطة بالمعتقدات السائدة التي تشمل أفكارا من قبيل: الخير ينتصر في النهاية، والجيل الأصغر يستطيع أن يعيش عيشة أفضل لو نبذ أخلاق الجيل الكبير، ومفتاح النجاح هو التعليم الجامعي، والزواج لا بد منه لإقامة حياة متكاملة."(3)
يستلزم تذوق السينما برأي آلان كاسبيار، فهما خاصا للمادة الأساسية للفيلم، أي العناصر السمعية والبصرية التي تؤثر في قدرات المتفرج الإدراكية والانفعالية. ذلك أن الأثر الجمالي لا يتحقق إلا بتقييم تلك العناصر، كالمنظر وحركة الكاميرا والمؤثرات البصرية، في تفاعلها مع بعضها، باعتبارها المسؤولة عن إخراج الفيلم إلى حيز الوجود.
من بين المؤثرات التي يُنبه كاسبيار إلى جماليتها العالية: إضفاء شخصية مميزة على الكاميرا نفسها في أفلام الرعب. لقد استُخدِم المكان خلف الكاميرا لجذب انتباهنا للمنطقة التي وراءها عبر إكسابها حضورا شخصيا. تبدو الكاميرا كأنها شخص حقيقي، يتابع الأحداث الجارية في الفيلم وهو في خفية عن الأنظار. لذا فجو الغموض والرهبة في أفلام الرعب ينتج عن شخصية الكاميرا.
جمالية أخرى يكشفها الحوار الذي ينقل الممثلون من خلاله نوايا شخصياتهم ومشاعرها ورغباتها وأفكارها بطرق متنوعة. هذا الحوار يلعب دورا أساسيا في كشف الموقف أو دفع الحبكة إلى الأمام أو تطوير الفكرة. غير أن له وجها آخر من الناحية الجمالية، وهو الحوار كخاصية صوتية منعزلة عن المعنى. فالممثل يمكنه توصيل الكثير عن شخصيته وموقفه في الفيلم بخصائص للصوت من قبيل: الشدة، والطبقة، والنسيج، والإيقاع. كما أن لغة الجسد وسيلة أخرى للتوصيل، حيث المشية، والإيماءات، والمسافة التي يحددها الممثل بينه وبين سائر الشخصيات، تعبر عن المشاعر والعلاقات والمواقف السلوكية.
وتمنح زاوية التصوير أبعادا جمالية، و"رسائل" تتنوع وفق الهدف الفني للمخرج. حيث أن زاوية التصوير القياسية التي تقترب من رؤيتنا اليومية للأشياء لها وظيفة أخرى هي تقديم وجهات النظر المختلفة، إذ تقدم كثير من الأفلام وجهة نظر المتفرج الخارجي فقط بوضع الكاميرا، وبالتالي المتفرج، موضع المتصنت خفية على الحدث، كي نرى كيف يبدو العالم في عين امرئ ما وفق مزاجه أو حالة وعيه.
بالإضافة إلى المؤثرات البصرية، يسهم المكان الفيلمي، والزمان الفيلمي بأصنافه الثلاثة (درامي وطبيعي وتأثيري) في تنسيق الأحداث للتأثير على إحساس المتفرج، وانتزاع التجاوب مع الرؤية الفنية التي يتعمدها المؤلف منذ البداية. ومجموع هذه القدرات هو ما يتيح للمتلقي تحديد السمات الجمالية للفيلم، وقراءته بشكل أكثر نضجا وواقعية.
يحيلنا تذوق العمل السينمائي على سؤال أكثر أهمية، خاصة في واقعنا الثقافي العربي المعولم بشكل غير مسبوق، ألا وهو المتعلق بمدى توفر ثقافة سينمائية، تشرح أصول الفن وقواعده، وآثاره على المستويين الفردي والجماعي. فقد أثبتت التجارب ما تمتاز به المؤثرات البصرية من قدرة على الاستهواء، وصعوبة تعديل التأثيرات الناتجة عن المشاهدة السينمائية، وما يترتب عن نقلها إلى الواقع من أحداث ومآس اجتماعية. نستحضر هنا على سبيل المثال حادثة إطلاق النار في مدرسة ثانوية بولاية كولورادو الأمريكية سنة 1999، والتي أدت إلى مصرع ثلاثة عشر شخصا وإصابة عشرين آخرين بجروح. كان القاتلان يعيدان مشهد إطلاق النار الهستيري في فيلم "ماتريكس" الذي قدمته الرؤية الإخراجية ضمن مشاهد أخاذة تشبه رقصات الباليه!
تحفز المآسي المماثلة التي تتكرر بين الفينة والأخرى، وعينا بضرورة التحكم في مسارات التذوق السينمائي، والفني بشكل عام، لدى الصغار والشباب، وضبط التأثير الذي تمارسه الأفلام، خارج نطاق وعينا وبأساليب ماكرة، على عالم الواقع.
إن الارتقاء بالذوق السينمائي يحقق ما يمكن أن نعتبره استخداما واعيا للأفلام في الحياة المهنية واليومية، من خلال إعطاء الأولوية للتجربة الإنسانية، وتشكيل هوية متوازنة بين الواقع وعالم السرديات المرئية. ولعل ذلك ما رمى إليه المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني بقوله: إن الحياة قصيرة، وأملي هو أن يكون بين تلك الأفلام صور. رؤيا خالدة للعالم بما أنني لن أكون كذلك. وهذا شعور يشقُّ عليّ وصفه. وهو إمكان أن تشارك العالم في رؤياك للعالم.
المصادر:
1- صلاح أبوسيف: السينما فن.
2- يوري لوتمان: مدخل إلى سيمائية الفيلم. ص28
3- آلان كاسبيار: التذوق السينمائي. ص88