للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.
منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.
" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.
هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.
" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.
وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.

"لا يبقى العالم كما كان بعد أن تُضاف إليه قصيدة جيدة"
 ديلان توماس
من عليائه الشعرُ تنزَّل، فارداً جناحيه على امتداد الفضاء ووُسْع المدى، يعلوه الجمال والكمال والجلال والبهاء، يغسل وجه الوجود، ويُحيي موات الموجودات، يحضن الحائرين والعاشقين والمعذّبين والسائرين نحو الجمال. كُتِب بماء الذهب، وعُلّق على جدار الكعبة تكريماً واحتفاءً وتقديساً، فكانَ بدايةً للكلام والحكمة، وكان ديوان الإنسان والقبيلة، وحامل أخبارهم وأسرارهم وقصصهم ورحلاتهم وحروبهم. دوّن الأخلاق العربية، الكرم والوفاء، الشجاعة والإقدام، الانتماء للأرض وللديار، الحب والحسب، البيداء وصفاء الفضاء مع رحابته..

تغيَّر الظرف، وجاء الإسلام بنوره ليضيف قيماً ويلغي أخرى، ويفتح للشعر آفاقا جديدة حيث ارتبط بالدعوة الإسلامية، فانخرط شاهراً كلمته، منافحاً عنها بالكلمة، ومسجّلاً فتوحاته وغزواته وآثاره قصائد. وتتعاقب العصور تَتْرى، يلاحق بعضها بعضاً، والشعر يسير جنبها خاضعاً للتغييرات التي يأتي بها كل عصر، ففي العصر الأموي ظهرت الخلافات السياسية والقبلية والمذهبية، وتحيَّز الشعر إلى الجماعات ينشُر أفكارها ويدافع عنها، ولبس لكل موقف وجماعة لباسها، وتنقَّل بين الفخر والوصف، وبين المدح والهجاء أو خاض في الغزل والخمريات والنقائض..

ثم أضحى عبّاسياً حين انفتح على الثقافات الأجنبية التي وسَّعت مجالاته وآفاقه، فجدَّد ألفاظه، ومال إلى المُحسّنات البديعية والألفاظ الجديدة تبعاً لتطور الحياة، فجاء الشعر رقيقاً في النَّسْج، ودقيقاً في التصوير، ومُزخْرفاً في اللفظ، ومتيناً في الصّنْعة..

وحين هبَّت رياحُ الأندلس، أصبح للشعر طعمٌ جديد وميزانٌ، وأحاطتْ به أَلْسُنٌ تنوّعتْ بين اللاتيني والقوطي والبربري والعبري، نما وتجمَّل حِسُّه وهو يصغي للآذان يصدح من المآذن، وللأجراس تدقّ في تناغم جميل. ازدان حَرْفه حين وصف المنتزهات والعمارة وانساب موشّحاتٍ وموسيقى وغناء..

ثم امتد إلى العهد العثماني حيث تدهورت الأوضاع ولم يتدهور الشعر، لأنه لسان الزمان والوقت، فنشأ البديع والتصوف والمديح والمراثي والملاحم.. ليصل إلينا مُزهِراً، جمع حول محرابه منَ العاشقين والحالمين والغاضبين والسّائرين نحو الحق والحب والجمال، يؤوبون إليه حِصنا حين تشتدُّ الأزمات، وتنقبِضُ دوائر التّوحُّش والقُبح على الإنسان، أو حين يرتاح القلبُ على أعتاب الجمال، فتتَّسعُ رؤاه، فيفرد جناحيه طائرا مُحلّقا مُنْشداً ركنا قويا ينسُج سر الكلام والبوح، أو يَسْرحُ حرّاً في فضاءات لا نهائية لوجودٍ يتّسعُ كلما اتّسع للحرف الكلام، شعراً حرّاً أو نثراً ينقل معاناة وغضب الإنسان، والسير به ومعه على صهوة السِّحر والجمال والدهشة مرة، والغضب والصراخ والمواجهة مرات أخرى..

"كل شيء يسيرُ وفق التداعيات، فكل ذكرى تستدعي الأخرى؛ وصورةُ شيءٍ تجذب إليها صورةً أخرى، عندما تقوم بين الطرفين علاقةُ تَشابُهٍ وتَعارُضٍ أو تَجاوُر."
(أرسطو)

أولا: من الذاكرة إلى الكتابة:

تُمَثل الذاكرة في كتابات عددٍ من الأدباء مادة خصبة للكتابة، حين يستنطقونها، ويسترجعون ما تسعفهم به من أحداث ووقائع، وما تمدهم به من مشاعر وأفكار. "فالذاكرة، عندما نحاول استعادتها، تصبح عنصرا أساسيا في الإبداع، تولّد الأفكار والإيحاءات، وتعمّق المشاعر."(1) إنها بهذا المفهوم لا تستطيع مبارحة وضعها الثابت والمحجوب، نحو صيغة مكشوفة ومقروءة، إلا بوساطة الكتابة التي تجعلها متاحة للقراء، ومشاعة على الورق لمن شاء الاطلاع عليها. وتقتصر الكتابة هنا على مفهوم التدوين الحرفي وحده، بعيدا عن أنواع أخرى من الكتابة التي عدَّدها جاك دريدا، كالكتابة التصويرية، والموسيقية، والنحتية... والعسكرية، والسياسية، بل وكتابة ألعاب قوى...(2) إن الكتابة بالمفهوم الذي أشرنا إليه تغدو وسيلة ناجعة لإخراج الذاكرة من جمودها، فتنفُث فيها روح الحياة، وتجعلها مِلكية مشتركة بين الجميع، تنقل إليهم ما كان مستترا، ومتخفّيا في باطنٍ مُغلَق لا يستطيع الفكاك من إساره.

ومنذ القديم كانت الكتابة أداةً لنقل المعرفة، ونشرها بين مختلف الأقوام والشعوب، ووسيلةً لحفظ التراث الإنساني من الضياع والتلَف. بل إن أفلاطون اعتبرها علاجا للذاكرة، إذ باكتشافها تم اكتشاف "سر الحكمة والذاكرة."(3) ولعل السائد بين الجميع، الآن، أن إحدى وسائل صيانة الذاكرة، إن لم تكن أوْكَدَها، هي توثيقها حرفيا، فلن يكون للذاكرة من ترياق إلا الكتابة.(4) فكم من تراث غير مادي اندثر وتلاشى بموت أصحابه، لأن الحظ لم يُسعفهم بتدوين ما اشتملت عليه ذاكراتهم من ثروة معرفية، وتاريخية، وإنسانية أُقبِرت معهم بموتهم!

ولا غرو أن تكون الكتابة كذلك بمثابة نوع من التطهير (الكاثارسيس)، يسمح بالتخلص من مجموعة من الشحنات التي ظلت حبيسة الذاكرة، فلا يَتِمُّ نفثها بشكل سليم وإيجابي إلا بفضل الكتابة. وهذه الأخيرة تصبح ذات معنى، وتحمل نصيبا من الدقة والصدقية أكثر مما يُتيحه مجرد الكلام؛ لأن "المرء يؤدي مشاعره عندما يتكلم، وأفكاره عندما يكتب، فهو عند الكتابة ملزَم بأن يَحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلم يُنوِّع من الدلالات بواسطة النبرات ويُعيِّنُها مثلما يحلو له..."(5) وهذا التمييز بين الكلام في مستواه الأدائي، واللغة في مستواها الخَطي يمنح للكتابة صفة مُعقَّدة، تُلزِم الكاتب باختيار ألفاظه بكثير من الدقة والتركيز،  وتمحيص الأفكار التي ينتقيها بعناية، والغوص على المعاني في مظانها البعيدة؛ لأن الكتابة، على العكس من الكلام، مجرّدة من التنغيم والنبر اللذين يُمكِّنان المتكلم من توصيل كلامه، مستعينا بالإضافة إليهما، بالحركة، والانفعال، والإشارات، والتعبيرات الجسدية الموازية التي لا تتأتّى للكتابة.

"وأمّا منْ أراد التّمهر في أقسام الشّعر ومختاره وأفانين التّصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة ابن جعفر في نقد الشّعر وفي كتب أبي علي الحاتمي ففيهما كفايةُ الكفاية والتّوسع والإيعاب لهذا المعنى"[1]ابن حزم.

"وبهذا الّذي ذكرناه في هذا الكتاب يُعْرَفُ التّفاضُلُ في البلاغة والفصاحة، وهو قَدْرٌ كافٍ في فهم ذلك في كتاب الله وسُنَّةِ نَبيِّه وفي الْمُخاطَباتِ كُلِّها، لم يَشذَّ منه إلاّ ما هو من موضوع صناعة الْعَروضِ وصناعة القوافي وبَعض ما يختصّ بالشّعر من حيث هو شِعْر. وأمّا ما هو مِنْ موضوع صناعة البديع والبلاغة ولم يختص به الشّعر من حيث هو شعر فلا"[2]ابن البناء

فاتحة

   هذا هو المقال الثّالث المخصّص لمناقشة كلام محمد العمري حول كتاب "المفتاح"؛ وقد تتبّعنا في الأوّل ما اعتبره "كشفاً واستخراجاً!" لـبنية هذا الكتاب ونسقه في "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"[3] فظهر أنّ آراءه وأحكامُه تقع بعيدا عن عمل السّكاكي، وَتَرِدُ في كلامٍ عام متفاوتٍ ومتحلِّل من مستلزمات العلميّة على مستوى النّظر والمنهج والتّعبير؛ وتتبّعنا في الثّاني ما قاله عنه في كتاب "المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة"، فكان أن اطّلعنا على إمعان العمري في التّحلُّل من تلك المستلزمات إمعاناً انجرف به إلى الإتيان بأكثر ممّا أتي به في الكتاب الأوّل من آراء وأحكام لم يجد سبيلا إلى تبريرها غير التّحايل والتعسّف! وقد أوضحنا بعض ذلك بوقوفنا عند "بيانـ"ـه لتحويل السّكاكي لمسار البلاغة وأخذِه لروحها. وإذا كنّا في ما سبق من مقالات عن كتاب "المحاضرة والمناظرة" قد التزمنا بالسّير مع العمري "خطوة خطوة"، فإنّنا سنُخالف ذلك في المقال الحالي، لأنّ كلام العمري عن السّكاكي في الصّفحات 18 و19 و20 سائبٌ يجمع إلى تكرار ادّعاء إقصاء السّكاكي للسّؤال الشّعري وما يرتبط به من تعجيب وتغريب وتوهيم ومخادعة وغرابة! ثرثرة حول كون صاحب المفتاح ليس ملوما، وأنّ كتابه ينبغي أن يفهم بالرّجوع إلى ابن المقفع وابن وهب وأنّ المسؤول عن المشكلة هم من "استخصوا من مفتاحه ما يهمهم".. لهذا سنكتفي بفرز ما يُمكن أنْ يعتبر نقدا لكتاب المفتاح ممّا نرتّبه في الفقرات التّالية:

1.    عدد صفحات «علم المعاني» في المفتاح دليلٌ على هيمنة النّحو واختزال الشّعر:

   يورد محمد العمري الجدول التّالي الّذي يبيّن أنّ "علم المعاني يحتلّ في خريطة مفتاح العلوم مساحة تضاعف مساحة كل فصل من الكتاب على حدة":

ع. الصرف

ع. النّحو

ع. المعاني

ع. البيان

ع. البديع

ع. الاستدلال

ع. الشّعر

63

10-72

88

73-160

168

161-327

86

329-414

10

423-432

72

433-514

62

515-577

 

" إذا كان من الضروري الاعتراف بإمكانية ومشروعية إحساس دون تأويل، وإذا آمكن لبعض التأويلات عرقلة ومنع المحسوس، فلن يقال بأن كلّ تأويل هو ما قبليا عائق أمام الإحساس. إنّ تأويلية لسطح الحواس، والتأويلية الفينومينولوجية للتشكيلات، تأويلية وصفية للمعنى الحرفي، وتأويلية تاريخية للمعنى المجازي، هي كثرة في مناهج التأويل، تساهم في مفصلة الحواس والمعنى، والمحسوس والعقلي، الباتوس واللوغوس للصورة.

و لا يعني التجديل هنا أن المحسوس لن يُحتفظ به إلا من أجل تجاوزه بشكل أفضل إلى الذهني، بل إنّ الانعطاف التأويلي يسمح في المقابل بزيادة الطاقة الانفعالية للصورة. إن المحسوس في توسّطه يكون بالتأكيد، قد فقد مباشريته الأولى، لكنه يكون قد اغتنى في كثافته". ج.ميشيل.

*****

التأويلية وإستيتيقا الرائع

 [...] تفترض الإجابة عن هذين السؤالين* وضع التأويلية في مختبر استيتيقا الرائع.ألا يشهد الرائع، بوصفه ما هو، ببساطة وبصورة خالصة، عظيما، باستحالة كل فهم، وكل تعقّل وكل استعادة للمحسوس  (الإحساس ) في العقلي  (المعنى) ؟ وسواء تعلّق باللانهائي الرياضي، أو وبالقوى الديناميكية للطبيعة، وبالقدرة الجمالية لنصّ أو لصورة، فبإمكان الرائعle sublime أن يوقّع على فشل كلّ تأويلية. هذا حقيقي، على الأقلّ من أول وهلة، إذا ما التفتنا نحو إستيتيقا بوالو Boileau (18)، في ترجمته وتعليقه على "مقالة في الرائع" المنسوبة (خطأ ) إلى المؤلف الإغريقي لونجان Longin. يترك بوالو، في معركته مع الاستيتيقا العقلانية المابعد ديكارتية التي تَرُدَّ الجميل إلى التوافق مع القواعد، وللأثر جانبا من الإلغازية التي لا يستوعبها منهج، ويحمل جانبا من اللاعقلانية والمتعذّر إدراكه. هذا رائع يُحَسُّ أكثر مّما يبرهن عليه، يكثّفه بوالو في صياغة لـعبارة " لست أدري ما يسحرنا". ذلك أنّ" لست أدري ماذا" تعبّر فعلا عن سمة اللاتحديد للرائع الذي يمنح حضورا لمنطق الانفعالات أكثر من منطق العقل. ليس هذا الخارق للمعتاد الذي "يسرّنا ويحملنا" نتاجا، وفق بوالو، لأسلوب خطابي يغذّيه التأكيد والمبالغة. بل على العكس يمكن أن يصدمنا " مثل صاعقة" في البساطة الكبيرة لجملة أو لصورة عادية في الظاهر  (على نحو "كن فيكون" في سفر التكوين).

هل ينفلت الرائع مع ذلك من نظام المعنى ؟ ليس الأمر كذلك لو نظرنا إلى النصّ عن قرب. إن المفارقة هي كون الحساسية المفرطة تشهد بتجربة مافوق - حسّي، بشبه صوفي، بقدر ما " يرفعنا الرائع أعلى تقريبا من الإله:" أن نقرّ، كما يقول بوالو، بأنّ الرائع هو اندساس في الخطاب للـ"مافوق طبيعي"، للإلهي، وللعجيب، و يعني انفتاح النص على متعالي يفيض على الكلمات، ومطابقة التجربة الجمالية بالتجربة الروحية للرّحمة". (19) وإذا ما تعالى الرائع على اللغة، فهل هو مع ذلك خارج كلّ فهم؟ أليست التأويلية الضمنية فاعلة من حيث قدرتها على التفكيك، في الرائع، لرموز أصل المقدّس، وفي كونها تؤوّل " السرّ الإلهي" الذي تبلور في بساطة "رائع القدماء" والذي بإمكانه تغذية فنّ وأدب المحدثين؟

" إذا لم يكن من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تدل على معنى ( منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا ( منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص( أفلا يجعل هذا )، قيام تأويلية للصورة في الفن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها؟"

" إن سطح المرئيّ مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ"( م.بونتي)

"إنّ اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي( المؤوّل) مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة - أحجية يكبت صمُتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر الفنّي بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت ( الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا "صامتين من فرط إعجابنا". ( ج. ميشيل)

 ***********

  " يفترض تأويل صورة في الفنّ على الأقلّ ثلاثة أشياء. الأوّل هو أنّ الصورة حاملة لمعنى أو عدّة معاني، وأنه يوجد فيها معنى بدل لا شيء، وأنه يوجد فيما وراء أو عبر المادية أو التشكيل الفني للعمل، أفق لمعقولية . والثاني، أنه، إذا ما وجد معنى، فإنّه يتعذّر الوصول إليه مباشرة، وأنه في جانب منه أو في كليته مخفيّ، غير شفّاف، معتّم وغامض وأنه يحتاج بالتالي عملا تأمليا وبحثا عن المعنى تسمّيه نتالي هاينيش Nathalie Heinich " عملية ألغزة" mise en énigme، " كما لو كان من المنطقي أن يطرح العمل الفني سؤالا، ويشكّل لغزا، ويخفي معنى خارجا و حتّى قبل أن نبحث عنه " (1). والشيء الثالث هو أنه يمكن التعبير عن معنى الصورة في خطاب، وأنه يمكن أن نجعل الصّور تتكلّم.

".. وإنما يستبدع ذلك ممّن زجّى عمره راتعاً في مائدتهم تلك ثمّ لم يقْوَ أنْ يتنبّه."[1]

فاتحة

   قُلنا في بداية هذه السّلسلة من المقالات أنّها مُخصّصة لاستعمال محمد العمري للبلاغيّين العرب القدامى في كتاب "المحاضرة والمناظرة"، الّذي ألّفه للدّفاع عن البلاغة ومناقشة كتاب "التبالغ والتبالغية" لرشيد يحياوي، وقد دفعنا اختلاط ما قاله فيه عن السّكاكي إلى مراجعة كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" علّنا نعثر فيه على بعض ما يساعد على فكّ ذلك الاختلاط وإظهار مبرّرات الأحكام المرسلة. لكنّنا وجدنا فيه، عكس ما توخّيناه، إسقاطا وتعسّفا وتزويرا لا يمكن أنْ يبرّر بالاختيار القرائي غير التّوثيقي[2]: صنّف السّكاكي "مختصراً"[3] لقّبه بـ"مفتاح العلوم"، وحدّد في مقدّمته مقاصده وفسّرها، وعيّن أنواع العلم الواجب الاعتماد عليها والاستمداد منها، وبيّن الْكَيْفيّة الّتي ينبغي أن تتراتب بها تلك الأنواع وتترابط بما يجعلها نسقا نافعا لعموم المهتمّين بالأدب في زمانه، وبرّر كلّ ذلك تبريرا علميّا كافيّا لا يخفى على المنصف، واحتاط بأنْ خاطب قارئه قائلا له إنّ "الاستعمال بيدك"[4]؛ بيد أنّ العمري يَكْفُر كلَّ ذلك، ويتورّط  في الإتيان بآراء غريبة وأحكام متعسّفة وتَقوّلات غاية في الفحاشة، بدا معها صاحب المفتاح متهافتا، ومختزلا، ومحكّماً للنّحو والمنطق في البلاغة!. وقد ناقشنا بعض ذلك، وظهر لنا أنّ العمري ساقه بدون تحقيق، وحشر في كلامه آراء متفاوتة ينفي بعضها بعضا ويقع جلّها بعيداً عن بنية المفتاح ومقاصده.. لهذا نعود إلى كتاب "المحاضرة والمناظرة " الّذي نخصّص له هذه السّلسة من المقالات لمناقشة "محاضرته" الّتي يجعل من طوائف مخاطَبيه فيها الطلبة والتّلاميذ[5]!  

  • الجرجاني والسّكاكي مؤسّسان ومختزلان:

   يقول العمري: «بدأت عملية اختزال البلاغة العربية مع الجرجاني نفسه، ثم خَطتْ خطوةً واسعةً مع السكاكي، وبلغت نهايتها مع القزويني وباقي الشراح والملخصين. ولا لوم على أحد منهم، فقد استجابوا جميعا لحاجيات عصرهم وأسئلته، واستثمروا إمكانياته. بل يمكن شكر المتأخرين منهم على إيواء البلاغة في لحظات احتضارها كما آوتها الكنيسة في أوروبا بعد ذهاب شبابها اليوناني واللاتيني. سنبدأ من البداية ونسير مع عملية الاختزال خطوة خطوة إلى العصر الحاضر[6] «.

   قلتُ: يكفي أن تعرف أنّ العمري يرى، مثل آخرين كثيرين، أنّ عبد القاهر الجرجاني " هو المؤسّس الحقيقي للبلاغة العربية"[7]، وتعرف أنّه يرى، وحدَه هذه المرّة، وكما هو واضحٌ في هذا المقتطف، أنّ عبد القاهر الجرجاني  نفسه هو أوّل من اختزل تلك البلاغة لتتأكّد من تنكّبه عن سبل الضّبط والتّحقيق في "المحاضرة والمناظرة". ففي الرّأي الّذي لا يقيم للمعرفة – بلهَ العلم- وزنا يمكنك دائما أن تقول إنّ الجرجاني أسّس البلاغة واختزلها، وتبرّر التّنافي بالقول إنّ ذلك الاختزال إنّما هو اختزالٌ منهاجي يمكن أن يؤيّد أو يعارض، دون أن تكلِّف نفسك بأن تسأل: إذا كان هو المؤسّس، فبالقياس إلى ماذا يمكن اعتبار عمله مختزلا؟ ومادام اختزاله اختزالا منهاجيّا، فكيف يمكن أنْ يُؤيّد أو يُعارض؟ لا يجب أن نكلّف أنفسنا السّؤال لأنّ كلّ ذلك سائغ في المحادثات التي يتحكّم فيها الهوى والرّأي بعيدا عن واجب التّفكير في تحقيق القول والتّدليل عليه: يتحدّث بعض المهتمين بالبلاغة من المعاصرين عن "البلاغة العامّة"، وفي مرحلة ما قبل الجرجاني كان هناك الكثير ممّن تناولوا،  من زوايا مختلفة، جوانب ومسائل أدخلها الباحثون في مرحلة ما بعد السّكاكي في التّخصص الّذي لقّبه بعضُ المتأخّرين بالبلاغة، لذا، فإنّ الجرجاني حتّى وإنْ كان هو "المؤسّس الحقيقي للبلاغة" بالنّسبة للعمري، فإنّه مع ذلك هو الّذي اختزلها- ولا تستغرب!- لأنّه لم يجعلها عامّة بجمع كل ما كان منتشرا قبله!. نعم تجمّعت عنده كلّ الرّوافد، ولكنّه قلّل من قيمة الموازنات!! طيّب، ماذا لو جعلتَ "بلاغة" الجرجاني تتوسّع لتشمل "فصاحة" ابن سنان وغير ابن سنان أكانت البلاغة ستصير عامّة تماثل ريطوريقا أرسطو التي كانت نصب عين جيرار جنيت وغيره ممّن اقتفوا أثره وتحدّثوا عن البلاغة العامة والبلاغة المختزلة من الغربيّين؟ وعلى فرض أنّها ماثلتها أو فاقتها من حيث "المساحة" أكانت تسدّ مسدّ هذا النّموذج الكلّي الّذي يطمح إليه المختصّون زمننا هذا دون أن يقدر أحد على ادّعاء أنّه بناه على الوجه الّذي ينشد؟ وهل هناك إمكانية أصلا لإنشاء ذلك النّموذج الكلّي؟ وماذا لو كان ما يتحدّث عنه العمري بهذه الطّريقة الّتي تجمع الإسقاط والتّخبّط والوثوقيّة لا يوجد إلا في وهمه؟ كلّ ذلك لا يعني شيئا لصاحب "المحاضرة والمناظرة"؛ والمنطلق عنده متهافت: البلاغة العربية كانت عامّة قبل أن تتأسّس، وقد اختزلها المؤسِّس.  ما هو علم البلاغة الّذي اختزله الجرجاني؟ الجرجاني اختزل علم البلاغة الّذي لم يكن! أو كانت ظواهره ومباحثه تتبلور تدريجيّا في النّحو والتّفسير وعلم أصول الدّين وأصول الفقه والنّقد الأدبي والإعجاز!

تعرف تايسون الأيديولوجية الاستعمارية، أو الخطاب الاستعماري، على أنه اصطدام بين ثقافتين، ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر.  وترى أن ثقافة المستعمر تتميز بالفوقية، الهيمنة، التنوير والسيطرة؛ وتنظر إلى ثقافة الآخر كثقافة خاضعة ومنبوذة ومكروهة، فتصفها بالدونية، الخضوع والاستسلام، الجهل والضعف.

 فالثقافة المهيمنة هي المعقدة وغالبا ما تمتلك الإرث الثقافي العالمي، من وجهة نظر المستعمِر. أما عن المستعمرات، فهم يعرفون كوحوش مسلوبين من إنسانيتهم، بحاجة إلى مساعدة المستعمِر ليخلصهم من عاداتهم السيئة والمشينة. فالمعايير الأنجلو-أوروبية فقط هي الصحيحة، وكل ما تبقى من الحضارات، هو إما اتباع النهج العالمي الذي فرضه المستعمر، أو البقاء على هامش الحياة. بهذا، غالبا ما تمحى ثقافة الدول المستعمرة سابقا حتى بعد زوال الاستعمار، مما يؤدي إلى تزعزع القرار وفقدان الاتصال بالماضي والإرث الثقافي لهذه الحضارات المقهورة (419). وهنا تنشأ النزعة بين "الذات المتحضرة" و"الآخر المتخلف والمتوحش". هنا يجب أن نتطرق إلى مصطلح مهم وهو ال "E.U.R.O.C.E.N.T.R.I.S.M" الذي يقتضي تفوق المقاييس الأوروبية على سائر الثقافات. واحدة من مفرزات ال "eurocentrism"، والتي طبقت في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، هو ال"O.R.I.E.N.T.A.L.I.S.M" أو ما يسمى الاستشراق، مصطلح وطده إدوارد سعيد، حيث ينسب الغرب الصفات الحسنة إلى نفسه ويرمي بالسيئات على الآخر(420). إذا أنا "متحضر" فأنت حتما "متخلف".

 وكما ذكرت تايسون، رعايا الاستعمار تعلموا منذ الطفولة أن الأخلاقيات الصحيحة تتمثل بالمستعمر؛ بهذا، فهو ينال السلطة العليا، ويجعل المستعمر يفقد الثقة بنفسه ويؤمن بدونيته (421). يعاني المستعمر من ضياع وتشتت الذات، فهو يشعر بالغربة حتى في وطنه، لأنه، ببساطة، ضائع بين حضارة تشعره بالدونية وأخرى أيضا تشعره بالقهر والدونية.

يورد الناقد أوكافورفي قراءته في رواية ((أشياء تتداعى)) للكاتب الإفريقي تشنوا أتشيبي: ((تدور أحداث ((أشياء تتداعى)) في إغبولاند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا في طور الاستعمار. وليس فقط مدينة إيغبولاند وكذلك الأراضي الإفريقية الأخرى المخصصة لها في مؤتمر برلين 1884-1885)) (67 – 68).  ولفهم تصرفات "أوكونكوو"(الشخصية الرئيسية)، علينا أولا فهم كوزمولوجيا مدينة إيغبولاند وعاداتها وتقاليدها، حتى نعرف كيفية تفاعل "أوكونكوو" مع البيئة المحيطة وكيف تؤثر بدورها فيه. على عكس ما ينص عليه الخطاب الاستعماري، فإن مجتمع الإيغبو قائم على ((المساواة)) وضد أي شيء يقترب من ((القوى الاستبدادية))، ويوجد مثل شعبي يدل على هذا: ((الإيغبو ليس لديهم ملوك)) (أوكافور، 68). فهم ليسوا مجتمعات بربرية، قائمة على القتل والسلب، بل لديهم ديمقراطية. مثل أي مجتمع آخر، لديهم آلهة وكهنة، والأهم من هذا كله، هو أنه يجب على البشر السير وفق القواعد والقوانين، ويجب على الفرد، إذا قام باختراق الأطر والمحرمات الاجتماعية، أن يكفر عن ذنوبه  )أوكافور، 69).

مفضلات الشهر من القصص القصيرة