لا يمكن الغوص في مقاربة الواقعية والاغتراب في الرواية الفلسطينية دون الوقوف عند مفاهيم تعد مدخلا أساسيا للموضوع. فما المقصود بالواقعية؟ وما المراد بالاغتراب؟ وماذا نقصد بالرواية الفلسطينية؟ أهي ما كتبه الفلسطينيون حتى وإن كان موضوعها بعيدا عن القضية أم هي كل رواية موضوعها القضية وإن كتبها غير الفلسطينيين؟ وَسْمُ الرواية بالفلسطينية أهو بحسب هوية الكاتب أم بحسب هوية المكتوب؟
1 - الواقعية كحركة فكرية واعية قامت على أنقاض الرومانسية كدعوة إلى فتح العيون على الواقع والتركيز على ما يجري هنا والآن عكس الرومانسية القائمة على الهروب من الواقع والحلم بقيم ومثل مطلقة يعسر تطبيقها على أرض الواقع، مع ذلك لم يحتدم الصراع بين الرومانسية والواقعية مثلما احتدم بين الرومانسية والكلاسيكية....
مع الواقعية بدأت تميل كفة السرد (قصة ورواية) على حساب كفة الشعر... كانت البداية في فرنسا مع فلوبير وبلزاك الذي جمع 150 قصة في الكوميديا البشرية.. وستتطور الواقعية بعد نجاح الثورة البلشفية كما تجلى في أعمال مكسيم غوركي وتولستوي ودوستويفسكي ...

يقود تحليل مضامين بعض القصص التي ألفت، داخل الوطن المحتل، عن الانتفاضة (القصد انتفاضة الحجارة) ، إلى امكانية الزعم بأن مؤلفيها، قد أدركوا عمق الصلة بين ممارسات السياسة الاضطهادية التي نهجها الاحتلال الاسرائيلي/ وما يزال، ضد العرب في الوطن المحتل، وبين حتمية انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وتحولها إلى ثورة شعبية شاملة، ضد نتائج تلك السياسة العدوانية، وضد الأساليب العنصرية الوحشية التي تنفذ بها... لقد أدركوا أن تلك الثورة العارمة كانت، بالدرجة الأولى، وليدة تراكم سلبيات تلك النتائج والأساليب، على مختلف صعد الحياة التي أكره الإنسان الفلسطيني على أن يحياها في ظل هيمنة استعمار استيطاني لا يرحم... "فالتراكم يولد الانفجار"، كما يقول القاص نبيل عودة، في قصته "الحاجز"‏
ففي هذه القصة القصيرة الرائعة التي تعدّ من بواكير النتاج الأدبي الذي استلهم أحداث الانتفاضة، حسبما يستدل من تاريخي كتابتها ونشرها(1) ، وأثناء جولان مؤلفها في العقل الباطن لبطلها -الطبيب الشاب أحمد، نلاحظ شروع الأديب الفلسطيني في تلك المحاولة التساؤلية الشاقة والمعقدة.. شروعه في رحلة البحث عن أسباب الثورة العارمة التي انتظر وشعبه ميلادها، منذ عشرين سنة.

بعد روايتها الأولى "ولي النعمة" الصادرة سنة 2018 أطلت الروائية سلمى مختار أمانة الله على عشاق الرواية العربية بعمل جديد اختارت له عنوان " عمر الغريب" وهي رواية صادرة عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2022 في 273 صفحة. قبل أن نقف على بعض تجليات الغربة والاغتراب في الرواية، سنحاول أن نختزل أهم أحداث المتن الحكائي حتى يستطيع القارئ الإحاطة بما سنناقشه:

تفتتح الرواية والبطل عمر يرى نفسه ميتا (جسدا غارقا في بركة دم خاتر ...)[1] وروحه تتنصل من الجسد لتتحرر تلك الروح من كل القيود التي كانت تكبلها وينطلق لسانها من عقالها في تدفق سردي يحكي تفاصيل شخصية عاشت حياة معذبة بلغة شعرية: وجد عمر نفسه في وسط اجتماعي فقير معدم تنعدم فيه أبسط ظروف العيش الكريم، لا يعرف له أبا يعيش مع  أمّ جردتها قسوة الحياة من كل مشاعر الأمومة، ودفعتها إلى  التخلي عن فلذة كبدها  بعد أن أجلسته بباب مسجد وأمرته أن (لا تتحرك من هنا. أمرتني ومضت دون أن تكلف نفسها عناء الالتفات خلفها...)[2]. ظل مجمدا في مكانه  ينهشه الجوع والهلع، حتى إذا كادت أن تنقطع الحركة في الشارع العام بعد صلاة العشاء وجد نفسه محاطا ببعض مُصلين لفظهم المسجد، يفتشونه ليجدوا بحوزته رسالة كتب فيها (هذا الولد بصحة جيدة وبلا أهل خذوه لن يسأل عنه أحد)[3] .

احتفاءً بالمشروع الفكري للباحث والناقد الأكاديمي المغربي المبدع الدكتور محمد الداهي، واحتفالاً بتتويج كتابه “السارد وتوأم الروح. من التمثيل إلى الاصطناع” الفائز بجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب في دورتها السادسة عشرة، فرع الفنون والدراسات النقدية لعام 2022؛ أجرى البرنامج الإذاعي المغربي “بصيغة أخرى”- الذي يديره الشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت بإذاعة – حواراً حول سياق الكتاب ومحتوياته وآفاقه بمشاركة الباحثين الأكاديميين الدكتور سعيد يقطين، والدكتور إدريس الخضراوي، والدكتور يحيى عمارة.

وما حفزني على تفريغ الحوار هو جودة محتوياته وجدتها وطراوتها وملاءمتها، ورغبتي في تقاسم مع ذوي الاختصاص وجمهور واسع ليس بهدف تسليط مزيد من الأضواء على الكتاب المتوج في حد ذاته ( وإن كان هذا هو المسعى الأساس)، بل وضع الأدب في سياق ثقافي جديد بث الروح فيه من جديد، وجعله يتبوأ مكانة هامة في النقاشات العمومية باعتباره مصدرا للمعرفة، وشأنا ثقافيا عاما، ووسيلة للتنفس وتبني بدائل للعيش الكريم بعيدا عن الصخب الإيديولوجي.

يتضمن ديوان « سوق راسي » الزجلي للشاعر والزجال المغربي إدريس الهكار خاصيات وميزات شعرية أساسية تتحدد فيما هو جمالي بلاغي كالإيقاع والجناس والطباق ، وما هو دلالي في موضوعات كالديني والاجتماعي والقومي.
فنصوص الديوان تحفل بزخم بلاغي يمنحها بعدا تعبيريا بملامح متنوعة تسهم في إغناء متنه الشعري الإبداعي ، حيث يتجاور الجناس في قوله : " وحق الحق ... ما نقول غير الحق" ص 3 ، أو في " حال حالو ماهناني وحال حالتو غمة " ص 5 ، بالطباق كما نقرأ في : " وسولت المكسي والعاري ...فزمان العامر هو اللي خاوي " ص 3. وإيقاعي في مثل قافية النون : " سمعون يا لخوان وقولو لي واش كلامي ميزان ... " ص 30 ، مركزا على الميزان كمعيار يضبط إيقاع القصائد من خلال جَرْس خارجي مجسدا في قافية الهاء في قوله : " راه راه الطير الحر فسماه لغوات نا يض موراه " ص 87 ، أو الداخلي كحرف السين : " وعنقت راسي وقلت يا راسي ... مالك ناسي" ص 86 . تناوب وتنويع هذا اللون من الإيقاع ( جَرْس خارجي وداخلي ) في العديد من نصوص الديوان ، مما يحذو بالزجال إلى التصريح باعتماده إيقاعا ينتظم قصائد المجموعة بما يخلعه عليها من خاصيات جمالية وإبداعية حين يصرح في خطابه للمتلقي : " سمعوه يا لخوان وقولو لي واش كلامي ميزان " ص 30 ، فالميزان ببنائه الإيقاعي يشكل خلفية تحكم زجل الشاعر وترسي لبنات وأسس صرحه الفني الذي يسعى لتعميق أبعاده ودلالاته : " بحور القوافي بحور عميقة " ص 33.

ظل النقاد العرب الذين تناولوا بالدرس والتحليل أو مجرد الشرح لمقامات الحريري يحتفون بالجانب اللغوي والبلاغي البحت فهي بحق مدونة لغوية تحتوي شوارد العربية وألفاظها الفصيحة التي شكلت المخزون اللغوي للشعر القديم ناهيك عن فرائدها الأدبية واستعاراتها البليغة وأمثالها وفرائد النحو والبيان إنها باختصار ديوان شامل للأدب والثقافة العربية الكلاسيكية في عنفوانها ولهذا احتفي بها وظلت تدرس في حلق الجوامع والمعاهد الأدبية، وإذا كان ابن خلدون يقول (إن أصول هذا الفن-أي الأدب- وأركانه أربعة دواوين وهي أدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب الكامل للمبرد، وكتب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتابع لها وفروع عنها) .
هذه الكتب أو الدواوين كما أسماها ابن خلدون وشيوخه غدت أركان الأدب وأصوله ينبغي على كل ناشئة متأدب أن يلم بها درسا واستظهارا لتستقيم له الملكة الأدبية، فإن مقامات الهمذاني أخذت نفس الاحتفاء وغدت أصلا للبيان وللإنشاء العربي ينبغي على كل متأدب سائر في طريق الكتابة أن يلم بها درسا وفهما وربما حفظا.

تقديم استهلالي
علاقاتي التأمليّة مع سبخة السيجومي، ليست وليدة الآن، بل كانت طقسا خاصا، يلازمي كلما تستقبلني مدينة تونس (مفترق المرناقية-تونس). كنت اراها كالبحر، ثم في مرحلة دراستي بكليّة الآداب والعلوم الانسانية 9 أفريل بتونس، حيث طوابقها العليا تشرف على سبخة السيجومي، مشهد فاتن يحيلني على شعرية الـتأمّلات في ظلّ صرامة السوسيولوجا. دأبتُ على أن اتأمّل السبخة في اوقات مختلفة، في الصباح في الظهيرة وعند المساء وفي الليل. وها هي، تلك التأملات، تنبعث من جديد بين ذهاب واياب حيث أمر غالبا من سبخة السيجومي وأشرف على امتداد مساحاتها من قريب. لا أعرف هل هذا الاحساس اشترك فيها مع أغلب من يمرون من هنا ام لا؟ اذن، هي مقاطع بعضها كان محبرا على هامش محاضرات عدّة اساتذة من كليّتي -في التسعينات- راحت الان مخيلتي تتكاثف وتتداعى من كان يتوقع في تلك اللحظات من الزمن أنّي سأستعيد الآن تلك الخربشات واللحظات الشاردة والشريدة؟ فأسترجع وأضيف لها كتابة أخرى. هي دوما هذه لحظات شاردة شاهدة ان الكون يسكنني. (سبخة السيجومي من شارع 9 أفريل 1938 تقع في دائرة مدينة تونس ، ويتراوح ارتفاعها بالنسبة لمستوى سطح البحر بين 8 و10 أمتار. الولي الصالح هو حسين بن عطية بن إبراهيم بن عبد الله السيجومي توفي في أوائل ربيع الأول سنة 624 أحد تلامذة أبي الحسن الشاذلي (انجزت عنه شهادة في الكفاءة في البحث في 9 أفريل 1993) ه )

هناك علاقة عضوية بين النقد والايديولوجيا، وأعني بالأيديولوجيا ليس فقط المنظومة الفكرية، انما القدرة على الربط بين الثقافة والمجتمع، بين الثقافة والانسان. وهذا هو الغائب الكبير عن الممارسات النقدية وعن فكرنا وثقافتنا عامة!!
ان الثقافة بمسارها التاريخي، ابداعا او نقدا، شكلت ظاهرة اجتماعية ودافعا لإثراء الوعي الثقافي والفكري للإنسان. والنقد هو أحد الأدوات الهامة في هذا الفعل. وهنا لا بد من التأكيد ان النقد هو مدرسة للتوعية وليس مجرد مديح او ذم.
للثقافة النقدية مدلولات ابعد كثيرا من مجرد الابداع الأدبي، الأدب هو الجانب الروحي للثقافة، والثقافة بمفهومها التاريخي تشمل الابداع المادي ايضا، أي انجازات الانسان العمرانية في الاقتصاد والعلوم والمجتمع والأدب والسياسة، وهذا يُحمل الناقد على الأخص، وكل المبدعين في مجال الثقافة الروحية، مسؤولية كبيرة ان لا يغرقوا في المبالغات المرعبة في بعدها عن الواقع، تماما كما في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أي الالتزام بفن الممكن ومعطيات الواقع، بدون مبالغات باسم الثقافة والنقد الأدبي واثارة الأوهام بالوصول الى القمة الابداعية من اول غزوة، خاصة لدى الأدباء الناشئين... واضيف لدي غير الناشئين أيضا كما نعاني في ثقافتنا ونقدنا!!