أسمال الصوت، تخلع صمتها، تلك اللوحة الشعرية البديعة، تنبض بالحياة والجمال، فتتأملها وترى الحقائب الخاوية والأجواء الثقيلة والجبال العجاف، وتشاهد الطيور تطير بأجنحتها المتكسرة، وتتدلى النجوم من السماء المنهكة، فتجد نفسك مبعثراً بين فصول القصيدة، تستمع إلى الأصوات المبحوحة التي تشعل الصحاري، وتشعر بالرياح التي تمزق أسمال السماء. في الصمت تتجلى الكلمات العميقة، وفي الألم تنبثق الأحلام الجديدة، وفي الرمز تتشكل الحقائق الخفية، وفي الشعر تتجلى الإنسانية الحقيقية، فأسمال الصوت تترجم لنا الواقع، وتخبرنا عن حقيقة الحياة الوجودية، ونسمع الأصوات ونستمر في التأمل وراء الظلال المبعثرة. فالشعر هو لغة الروح والفكر، والموسيقى هي الإيقاع الذي يجسد هذا الفكر، فنحن نرقص على أنغام هذا الإيقاع، ونردد كلمات هذه القصيدة الجميلة، التي تحكي قصة الإنسان وحياته الغامضة، وترسم لوحة جميلة عن الواقع والحلم والحياة. يا للفوضى والخراب الحاصل، صوت المغنية يهز المكان الفارغ، أصوات الحروب تسود المكان المهجور، كأن الدمار يتسلل إلى كل زاوية. جبال فشلت في حمل ثقلها وسقطت، أجنحة الطيور تكسرت، انهار جفت، شجرة الصبار لو استراحت ستثير الصحراء، بصوتها المدوي والهائج العاصف. في هذه الحالة من الفوضى والخراب، تتحمل الكائنات بعضها البعض، توزع الأشياء على بعضها كالقطرات التي تنثر على البحر والرمال الناعمة، كالندى الذي يروي الحدائق الزاهية، كالقصائد التي تعانق شغاف الأشعار. ويتوصل الشاعر إلى فكرة أن الحياة تحمل في طياتها الكثير من الإيقاع والتوازن. فكل شيء في الكون ينبض بالحياة وكل الكائنات تردد نغمة الوجود والتفاني. في مكانٍ مهجورٍ، صوت المغنية يُسمعُ وفي الأفق، آهاتُ الحروبِ تَدُوّي، ينهار كُلّ شيءٍ حولَنا ويتفكّكُ. جبالٌ لم تَحتمل، سقطتْ وانكسَرت، أجنحةُ الطيورِ، الأنهارُ الجافّةُ، شجرة الصبارِ، تُثير الصحراء بصوتها المدوّي. تتحملُ الأشياء بعضَها بعضًا، توزّع القطرات الماءَ على البحر والرمال على الشاطئ والندى على الحدائقِ والقصائدُ على الشعراءِ. في ختامِ القصيدةِ، يعبّرُ الشاعر عن حقيقةٍ يُحْكَى عنها، لكنّها تخْتفى. في هذا المجتمعِ، لا فرقَ بينَ الكراسي مليئة بالأشخاصِ، والفارغةِ يتماهون، عدم الأهميةِ للفرد في المجتمع، وتَتراوحُ الحضورُ والغيابُ في نظرِ الآخرين. تعبرُ هذه القصيدةُ الشعريةُ بجمالها، عن الفوضى والخرابِ، وتوزّعِ الأشياء وتتوجّ بفكرة، تقدّس الفرد في المجتمع.

 لقد كان الفقد ورحيل الأحبة مما حرض الشعراء والأدباء والفنانين على البوح واستدراج الذاكرة لاستعادة دفء مكامن الألفة الضائعة، وإعلان الوفاء لمن كان السند الواقي، والمحفز الساقي محبة ووئاما.

         فالغياب في كل مراحل التاريخ الانساني، وكذا تاريخ الإبداع الأدبي والفني، حضوره الذي كان وراء ظهور أفانين القول المفصح الصريح والقريض الفائح بالتلميح، ومن ثم احتل فن الرثاء مركز الصدارة بين الأغراض الشعرية على الإطلاق. وفي هذا الإطار، رأت أضمومة الشاعر محمد العلمي النور. وهي عبارة عن قصائد مكتوبة بدفقات قلب جريح، وبحبر الدم المتخثر في الشرايين المتغضنة توقا وحنينا ووفاء لمن عبرت إلى الضفة الأخرى، الراحلة عن دنياه، تاركة خليلها وحبيبها وشريك عمرها يعاني من تضخم الإحساس بالوحدة القاتلة.

  • القراءة الوصفية للديوان: يطالعنا الشاعر الرقيق محمد العلمي في ديوانه الشعري بقصيدة " زهرة الحجر" والتي اختارها عنوانا لأضمومته، يقول فيها:

" تتخلق من خالص

تهفو إلى النور

تمشي الطريق العنيد

وتحمل للأرض روح الحياة. "

يمكن اعتبار هذه القصيدة بمثابة عتبة للدخول فيما ستبوح به قصائد هذا الديوان، هي إضاءة مساعدة على تلمس ما يساور الشاعر من هواجس وهموم ولواعج، هو المصطلي بنار الغياب والرحيل المفاجئ لهاته التي يرسم لها " بورتريها "  يكاد يكون بألوان المفردات، إنها شريكة عمره  -التي تعجلت الرحيل-  إنها " الزهرة المتخلقة من الصخر الحاملة لروح الحياة ، الحالمة بتلمس النور الصافي، المبشرة بالعطر الفائح في قلوب الأحبة، والملتمسة للقيا الفراشات الزاهية الألوان ، شريعتها البذل والعطاء، مدمنة للصبر، ومقاومة للهموم " . 1

تلك بعض من صفات وملامح المعشوقة الراحلة التي تعجلت السفر العارج نحو لقاء ربها كما تتبدى في هذه القصيدة / العتبة. "زهرة الحجر" 2

وبعد هذه الإضاءة التي فجرت ينابيع ما سيسري متدفقا في بقية قصائد هذا الديوان، يستدرجنا الشاعر للتأمل في باقة مشكلة من عشر قصائد، وضع لها عنوانا جامعا معبرا: " تعجلت " مرقمة من صفر إلى عشرة وهي في مجملها قصائد ذاتية / وجدانية، تفوح منها ما سببه غياب الحبيبة للشاعر من معاناة ومكابدة.

ويدشن الشاعر هذه الباقة بقصيدة أولى وضع لها رقم: الصفر، دلالة على الصمت والفراغ الذي تركته الراحلة، تاركة الموله بالحب الصادق والوفاء الفائض نبلا حبيس ذكراها، حتى ليخيل إليه أنه ترك منسيا في فيافي الحياة دون هاد أو مؤنس لوحشته:

" نسيء فهم"مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار"(مارلو بونتي في درس عن مارسال بروست).
" تكشف أعمال مارسال بروست الروائية عن " عدوى روائية أصابت ممارسة الفلسفة" ... " لم يدمج بروست في كتاباته الروائية موضوعات فلسفية كلاسيكية فحسب، بل ابتكر موضوعات صارت فلسفية وذلك بقدرته على الكتابة فيها روائيا، ليفتح الطريق بذلك للتفكير فيها على نحو فلسفي غير مسبوق" ( آن سيمون " صخب عبور المسافات").
"يساعدنا بروست على فهم أسرار الزمن.." ( جان ماري ديران). " ليست الساعة ساعة لا غير، بل هي مزهرية مملوءة بالروائح والأصوات والمشاريع والمناخات ...إنّ دقيقة نمضيها من نظام الزمن تخلق فينا من أجل أن نحسّ بها، إنسانا تحرّر من نظام الزمن".( م. بروست " البحث عن الزمن المفقود").

****

هل علينا أن نقول أولا إنّ مارسال بروست (1871 - 1922 ) روائيّ بالأساس؟ ربّما. ولكنّنا إزاء روائي فذّ أثار جدلا وما يزال على أكثر من صعيد وخاصّة من ناحية علاقته بالفلسفة، أو بالأحرى، من جهة حضور الفلسفة على نحو ما في كتاباته الروائية. ذلك أن النظر مثلا في روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود" ( التي نشرت من1913 إلى 1927) يكشف ، فضلا عما فيها من " مقاطع نظرية" أشبه "بتحليلات الفلاسفة "، يوجد فيها اهتمام بمسائل فلسفية وأخلاقية واستيتيقية ...وإن على نحو خاص . ممّا يؤكّد أنّنا إزاء " رواية " مميزة ، وأنّ ما يميّزها ، من ضمن عناصر أخرى - هو بالخصوص"البعد الفلسفي " . وهو الذي سمح لبعض النقاد بالنظر إليها جنسا خاصا من الرواية هو" الرواية الفلسفية". أو لعلّها كما يقو آخرون من قبيل فلسفة خاصّة ، " فلسفة روائية" أي فلسفة أصيبت بعبارة " آن سيكون " بعدوى روائية". ولعلّ هذا ما يفسّر اهتمام كثير من الفلاسفة بأعمال بروست وبرواية" بحث عن الزمن المفقود " على وجه الخصوص. بل اهتمام كثير منهم أيضا بالبحث في الروافد الفلسفية ( من أفلاطون إلى شوبنهاور وبرجسون الخ ) لكتاباته الفنية ، لرواياته واختلافهم في ذلك في حدّ اليوم. ولعلّ هذا ما يحملنا على التساؤل عمّ يبرّر هذه العلاقة بين ضربين من الإبداع يحيلاننا إلى مجالين مختلفين هما الرواية والفلسفة، إلى الفنّ والفلسفة. ما وجه صلة مارسال بروست بالفلسفة : هل يعود الأمر إلى بروست ذاته، إلى خيار شخصي ام إلى قرابة بين الفلسفة والرواية لم يفعل بروست سوى كشف مقوماتها بل وتكريسها ربما في اعماله؟ وما شأن بروست والفلسفة ؟ هل هو بالأساس فيلسوف ضل الطريق إلى الرواية أم روائي أو فنان يجنح إلى الفلسفة ؟

يعد النقد الثقافي Cultural Criticism من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية (الإستيتيقية) التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية وبويطيقية (شعرية) من جهة أخرى. ومن ثم، فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معاً بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي؛ إما فهماً أو  تفسيراً. وقد تأثر المنهج الثقافي بمنهجية جاك دريدا* (1930-2004) التفكيكية القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً، وتأجيلاً، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك بالدراسات الثقافية المتنوعة، وتمثل الماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافياً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير([1]).

إن النقد الثقافي هو منهج سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا) له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي([2]). ويمكن القول إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها([3]). ويرى المفكر والفيلسوف المصري صلاح قنصوه* (1936-2019) أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى أو مذهباً أو نظرية كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت مادية أو فكرية، ويعني النص هنا كل ممارسة قولاً أو فعلاً تولد معنى أو دلالة([4]).

والنقد الثقافي هو صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي، والمتميز فيه أنه ليس مدرسة محددة المعالم، بل يمكن أن يتبدل بتبديل شخصية الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه وثيماته، كما أن النقد الثقافي مفتوح على التأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانية المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكرية وثورية كالحركة النسوية، وحركة " الزنوجة " وصراع الحضارات والثقافات، وغير ذلك مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له([5]).

في رواية "جميلات منتصف الليل"، تأسرنا حنان درقاوي، الكاتبة المغربية، بحسها الأدبي العميق وقدرتها على استكشاف صراعات المرأة في المجتمع المغربي. تُظهر لنا الكاتبة صراعات المرأة المتأرجحة بين الرغبة الجارفة والتزامات العفة، والتي تواجه فيها النساء العديد من العقبات والتحديات. وببراعة فائقة، ترصد درقاوي لنا تلك المزالق المختلفة التي ينزلق فيها الكثير من النساء، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي يعاني منه الجنس اللطيف في هذا البلد، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة. وتستخدم الكاتبة شخصياتها النسائية بقوة وصلابة لتسليط الضوء على أحلامهن المجهضة في مشهد يثير الانتباه ويجعل روايتها صرخة أنثوية مؤثرة، تناشد النفوس القاسية الميتة في جمودها، وتدعوها إلى الانفتاح على الآخر وعلى الحياة بكل تعدد أبعادها. وتعتبر هذه الرواية إسهامًا هامًا لتعزيز الوعي بحقوق المرأة وتعزيز المساواة بين الجنسين في المجتمع المغربي.

تنطوي رواية "جميلات منتصف الليل" للكاتبة المغربية حنان درقاوي على صرخة مؤثرة تجسد الصراع الذي يعانيه النساء في المجتمع المغربي، حيث تتخللها مواقف مؤلمة تكشف عن التمييز والقهر والعنف الأصولي الذي يتخذ جذوره من العادات والتقاليد. يرصد النص البعيد تمامًا عن الإدانات والتحليلات السطحية، مأزق الطالبة الجامعية صليحة التي تورطت في حياة الليل الجامحة، حملت جنينًا غير مرغوب فيه. تدفعها هذه الظروف لمواجهة تساؤلات شائكة حول مستقبل الجنين ومصيره، حيث تتقاطع الأخلاقية والدينية والاجتماعية في تحديد قرارها النهائي. فالإبقاء على الجنين يعني العيش في حالة من العزلة والفضيلة الاجتماعية، بينما الإسقاط يعني المخاطرة بحياتها وتعريضها للعقوبات القانونية والاجتماعية. يتناول النص أيضًا الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها النساء الفقيرات في المجتمع، والتي تزيد من تعقيد الوضع وتعكّر صفو الحياة. لكن، تشير الكاتبة في روايتها "جميلات منتصف الليل" إلى أن الصراع ليس فقط في اختيار بين الاحتفاظ بالجنين أو إسقاطه، بل في مواجهة مجتمع يميز بين الرجال والنساء ويمارس العنف والاضطهاد ضد النساء. فهي تستكشف العقبات التي تواجهها النساء في المجتمع المغربي، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي تعاني منه النساء، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة.

عنوان الكتاب: النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة.
المؤلف: عبد الرزاق المصباحي.
دار النشر والسنة: بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022.
عدد الصفحات: 160 صفحة.

حقيقٌ بنا الاعتراف، أنَّ الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو Theodor Adorno (1903-1969)، أول من عمد إلى صياغة مفهوم للنَّقد الثَّقافي في الغرب، حيث يعتبرٌ واحدا من أهم رواد الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت Frankfurt School. انْكَبَّ هو وزُمَلاؤه، على تحليل مفهوم "صناعة الثقافة"، معارضين لمفهوم "الثقافة الجماهيرية"، التي توالي "الثقافة الرسمية"، التي يؤيِّدُها النظام السياسي الحاكم، من منطلقٍ، مفاده: أنَّ "الثقافة الرسمية" ماهي إلَّا تعبيرٌ صارخٌ عن البرجوازية، وأحد مُخرجات المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، حيث يتم تحوير مفهوم "الثقافة" لتصبح مجرد سعلة، تخضع للتشيؤ، والأداتية، والتسليع.[1]  كما يندرجُ مفهوم "النقد الثقافي" ضمن مظلة فكرية واسعة، تتبلورُ جميعُها في سياق "الدراسات الثقافية" بصورة عامة، وهي حركية بينية، تتحرك بين أنساق معرفية متباينة، تضم "نظرية الأدب"، كما تتصل بصورة وثيقة بدراسات نقد ما بعد الكولونيالية.[2]

ويكمن الهدف المركزي، الذي يستند إليه "منهج النَّقد الثقافي"، في محاولته إجلاءَ المُتواري في النُّصوص الأدبية والفكرية، مُتناولًا إياه في أنواعٍ مختلفة من الخطاب، ونائيًا بنفسه عن الطبقية في الأدب، من منطلق، أنَّ هذه الرؤية في النصوص الأدبية، لها تأثيرٌ قويٌ سلبي على الأدب، حيث ينبغي التَّعامل مع النصوص الأدبية، على نحوِ جودته، نظمه الحَسَن، بٌغية الحفاظ على قيمة الأدب ورصانته. وعليه تكون المفاضلة التي يستعملها النقد الأدبي، أمر يخدم الأدب، ويقوم بالحفاظ على تكامل ملامحه.[3] ولا يزال إلى يومنا هذا، وما يزال النقد الثقافي إلى يومنا هذا، يثير الكثير من الجدال على مستويات عديدة، كما لا يزال يجابه نقدًا وتشكيكًا في القيمة المُرتجاة منه وكذلك قيمته الإجرائية، إذ يعمد خصومه إلى تشبيهه، بالنشاط الهجين في منهجه، ومقارباته، وفلسفته، واختلاطه بعلوم شتى، وهو وفق منظورهم من دون هوية، ويجمع في جوهره مناهج تحليل متضاربة إلى حد التناقض، دون أن يكون النُّقاد الثقافيون قادرين على التأليف المنتج بينهما. (ص 9).

زيارة عابرة، هلوسات من زمن الكوفيد، مجموعة من النصوص أو أضمومة، تتوزع على (...) نص يجمع بين الرصد والتخييل، تحاول من خلالها الكاتبة رصد واقع حال الأزمة الصحية الكارتية التي أصابت العالم و شلت حركته.
أول ما أثارني و أنا أطالع نصوص هذه المجموعة من النصوص عن الكوفيد وتجلياته، أننا إزاء كاتبة تميل في كتابتها إلى السرد على شكل الحكاية، نصوصها تتسلسل فيها الأحداث مُشوّقة بأسلوب بلاغي والفاظ معبرة ذات شحنة عاطفية و في نفس الوقت حاملة لرسالة.
كل نصّ من زيارة عابرة يسرد لنا حكاية من زمن الكورونا بطريقة مختزلة ومكثفة.
تبدأ الحكاية عن المنبع الأول لهذا الوباء في" الصين" وتسرد الكاتبة بشكل دقيق أثر الحجر المشوب بالانتظار والاحساس بالخوف، تجربة قاسية سببت شللا عارما لكل أشكال الحياة. أسلوب يتخلله التشويق، نستمتع من خلاله بالاسترسال في قلب صفحات الكتاب بشغف لجمال الأسلوب ورُقيه.
في أول نص، تضعنا الكاتبة في الإطار العام لحالة الوباء الذي شل العالم، راسمة لوحة تجسد من خلالها ما آل إليه الوضع، واصفة بدقة وحرفية عالية واقع الكوفيد وآثاره النفسية والاجتماعية حين انقطعت الصلة الفيزيقية بين الناس وعوضتها وسائل التواصل الاجتماعي، تقول " مشهد فرضه الكوفيد وجعل الفضاء الأزرق نقطة ضوء نُطلّ منها على العالم الذي تجمّد فجأة وبدون سابق انذار، حيث أصبح التماس محظورا والعزلة قانونا. لحظتَها استسلمت الى الوحدة داخل صمت العالم"، وتسترسل في اسلوب شيق عن معاناة الإنسان في زمن الكوفيد، عن الرعب الذي ينذر بمستقبل مجهول، لتنهي النص بالأمل المفتوح على "غد يندثر فيه الوباء".
بعده تبدأ المشاهد في التواتر وملامح اللوحات النصية تؤثث فضاء الأضمومة.

مدخل:
منذ وُجِد الإنسان وُجِد القتل، فكان أبشع فعل دالّ على رفضه للاختلاف، وخضوعه لمشاعر الغيرة والحسد والحقد، وسعيه إلى نبذ الآخر وإقصائه، كأن الآخر فعلا هو الجحيم، كما قال سارتر.

ومنذ جريمة قابيل ضد أخيه هابيل ظل تاريخ البشرية سلسلة متلاحقة من جرائم القتل، لا تكاد تتوقف إلا لتُستأنَف. بل إننا عرفنا، عبر تاريخنا الذي اقترن بتاريخ الجريمة، أنواعا مختلفة من القتل، بأسماء متعددة، والمسمّى واحد. فظهَر القتل العمد، والقتل الخطأ، والقتل الاضطراري، والقتل الرحيم... ناهيك بالحروب المدمِّرة التي تأتي على الأخضر واليابس، وتقضي على الجاني والبريء على حد سواء.

تشتغل قصة "الغراب" للأستاذ مبارك السعداني على موضوعة القتل. فالعنوان، بما هو عتبة أولى للنص، يحيل في الموروث الديني والشعبي على الموت. لذلك يتشاءم البعض من الغراب ونغيقه، وتنقبض نفوس البعض الآخر عند رؤيته، وتنفر من سواد لونه.  وهو يحيل كذلك على خاصيتي المكر والذكاء، إذ أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنه أذكى الطيور. كما أن العرب كانت تسمي الرجل الذكي، منذ القديم، غرابا.  

أولا: المتن الحكائي:

المقصود به الحكاية، كما وقعت فعلا، أو كما تخيلها الكاتب. ويَعتبر الشكلانيون الروس أن المتن الحكائي "يثير في الذهن واقعا ما، وأحداثا قد تكون وقعت، وشخصيات روائية تختلط، من هذه الوجهة، بشخصيات الحياة الفعلية."[i] فالمتن الحكائي، بهذا المفهوم، لا يعدو أن يكون القصة بمكوناتها المعروفة، من حدث، وشخصيات، وزمان، ومكان، تتصل في ما بينها، وتتداخل، وتتكامل لتشكل الحكاية.

تنفتح القصة التي نحن بصددها، بإحالة على حكاية الغراب، وهو يواري جثة أخيه في التراب، كما روتها الجدة لحفيدها، محاوِلةً بذلك أن تغرس في نفسه اقتناعا راسخا بأن أباه مات مسموما من قِبَل شقيقه. ثم نكتشف عبر تداخل الأحداث، وتشابك السرد أننا إزاء عدد من الجرائم المتتالية، انعكست آثارها على الجدة، حتى غدت مسكونة بشبحها، وصار كل موت لديها، ولو كان طبيعيا، يخفي وراءه جريمة قتل.

الجريمة الأولى: مقتل والدها، وهو "رجل قوي العزيمة، قال "لا" لغطرسة أبناء عمومته، فوضعوا حدا لحياته غدرا..." والباعث على قتله هو تمرّده على سلطتهم، وتحديه أعرافهم وتقاليدهم، وتَحالفُه مع أسرة أخرى منافسة لهم، فكاد له (الأعور) المعروف بجوره، وقضى عليه.