إن مفهوم النص، المستعمل على نطاق واسع في مجال اللسانيات والدراسات الأدبية، نادرا ما يتم تحديده بطريقة واضحة: فالبعض يقصرون تطبيقه على الخطاب المكتوب، بل على العمل الأدبي؛ والبعض الآخر يرى فيه مرادفا للخطاب؛ والبعض في الأخير يعطيه امتدادا سيميائيا واسعا، يشمل النص السينمائي أو الموسيقي، الخ. تماشيا مع الاستعمال الشائع في التداولية النصية ، سوف نحدد النص هنا كسلسلة لسانية منطوقة أو مكتوبة تشكل وحدة تواصلية، ولا يهم هنا أن يتعلق الأمر بجملة واحدة أو بمتوالية من الجمل. إن مفهوم النص لا يوضع على نفس المستوى مع مفهوم الجملة ( أو الحمل أو المركب، الخ). إن البنيات النصية ، ورغم أنها تتحقق من خلال وحدات لسانية، تشكل وحدات تواصلية: " إن النص ليس بنية نسقية محايثة، بل وحدة وظيفية ذات طابع تواصلي (هـ. ف. بليت 1975). أما في ما يخص العلاقة بين النص والخطاب، فإنها رهينة طبعا بالتعريف الذي نعطيه لمفهوم الخطاب. فإذا عرفناه باعتباره كل مجموعة من الملفوظات الصادرة عن مصدر تلفظي يتسم بوحدة تيماتية شمولية، سنقول في هذه الحالة إنه إما أن يتطابق مع نص ( كما في حالة التواصل المكتوب، حيث تتطابق الوحدة التواصلية مع الوحدة التيماتية بصفة عامة)، وإما أن يتشكل من عدة نصوص، ( في الحوار هناك تفاعل بين خطابين أو أكثر، حيث يتشكل كل خطاب عموما من عدة نصوص، لآن كل رد حواري يشكل وحدة تواصلية ، وبالتالي فإنه يشكل نصا خاصا).
النص ولسانيات الجملة
خلال مدة طويلة ، توقف التحليل اللساني عند حدود الجملة التي نظر إليها كإطار شامل لكل الوحدات اللسانية الملائمة، دون الاهتمام بمستويات التنظيم العليا المحتملة. فحتى الجملة بالنسبة لسوسير ـ ما لم يتعلق الأمر بجمل جاهزة ـ لا تدخل ضمن لسانيات اللغة، ولكن ضمن لسانيات الكلام: " تشكل الجملة نموذجا ممتازا للمركب. ولكنها تنتمي للكلام وليس للغة". ويرفض بلومفيلد من جهته أن يهتم بوحدات خطابية أكثر امتدادا من الجملة. ويبدو أن كلوسيماتية هيلمسليف تمثل استثناء، لأنها تقدم النص كمعطى يشكل نقطة انطلاق للتحليل، ولكن، ورغم هذا المبدأ، فإن التحليلات المنجزة عمليا ضمن إطار الكلوسيماتية قد ظلت بصفة عامة حبيسة نحو الجملة.
محاولة ثانية للاختزال تعترف حقا بخصوصية الإكراهات المتحكمة في بناء النص، ولكنها تعتبر أن هذه الإكراهات مشابهة لتلك التي تتحكم في نحو الجملة. وقد وجهت هذه الفكرة طرق الوصف المستوحاة من اللسانيات البنيوية. إن النص يتم تحليله هنا وفق نفس التمييزات بين مستويات وصف الجملة. وهكذا اقترح تودروف ( 1969، 1971) أن نميز بين المظهر اللفظي للنص، مع كل العناصر اللسانية الخالصة ( الفونولوجية، النحوية ، الخ) المكونة للجمل التي تشكله، المظهر التركيبي الذي يحيل ليس على تركيب الجمل ولكن على العلاقات بين الوحدات النصية ( الجمل، مجموعات الجمل، الخ) والمظهر الدلالي، وهو المنتوج المركب المتكون من المضمون الدلالي للوحدات اللسانية. إن دراسة المظهر اللفظي تعني بالدرجة الأولى دراسة الوقائع الأسلوبية، ولكنها تعني أيضا دراسة ظواهر أكثر بساطة مثل حجم النص، الخ. اقترح تودروف، لدراسة المظهر التركيبي للنص، أن ننطلق من تحليل حملي يتيح اختزال الخطاب إلى حمول منطقية بسيطة، تتشكل من موضوع ومحمول، أو من عدة موضوعات ( فاعل و مفعول مثلا) ومحمول، وهي الحمول التي تتطابق مع الجملة الأولية عند ج. دوبوا. يتعلق الأمر بعد ذلك بدراسة مختلف أشكال الترتيب ( الترتيب المنطقي، الزمني أو المكاني ) التي تحكم العلاقات بين الجمل. لقد ركز تودروف تحليلاته التركيبية حول مسألة التركيب السردي. وبإيحاء من مفهوم التحولات السردية الذي صاغه هاريس، اقترح تودروف وصف البنية التركيبية للنصوص السردية بواسطة مفهوم التحول الخطابي: تكون جملتان في علاقة تحول إذا كان محمول إحداها "تحويلا" لمحمول الجملة الأخرى. ويميز تودروف بين التحولات البسيطة التي تتمثل في تعديل (أو إضافة) عامل يخصص المحمول ( ذلك هو شأن تحول القصد الذي ننتقل بواسطته من جملة "س يفعل ص" إلى جملة "س ينوي القيام بــ ص" مثلا) و التحولات المركبة التي تدخل محمولا ثانيا تابعا للمحمول الأول ( كما هو الشأن في العلاقة بين "س يفعل ص" و "س يحكي أن س ارتكب جريمة"). أما التحليل الدلالي فعليه أن يهتم بدراسة البنيات الكبرى خاصة الحجاجية منها أو السردية ( التيماتية مثلا) . إن وصف تودروف يسلط الضوء على الإكراهات الخاصة بالتوالد النصي ، مثل إكراهات الربط المنطقي أو الصلات بين مجموعات الجمل، الخ، وهنا يتجاوز هذا الوصف لسانيات الجملة بحصر المعنى. ولكن عملية المماثلة التي تتعامل مع النص كنسق إيحائي إزاء نسق اللغة، يختزله رغم كل شيء إلى نسق من الإكراهات شبه اللسانية ، وهو ما يشوش من جديد على التمييز بين الوقائع اللسانية والوقائع النصية الذي يدافع عنه تودروف في سياق آخر: وهكذا فإن مفهوم التحول السردي يرجع العلاقات التراكيبية بين الجمل إلى علاقات استبدالية بين المحمولات، هو ما يعني تفسير واقعة تصل بين الجمل بعلاقة إجرائية على مستوى تحليل الجملة ( تودروف، 1971، 1972).
هناك دراسات هامة أنجزت في إطار الطاغميمك (1) التي بلورها بيك، وهي في الأساس نظرية لتوالد الخطابات أكثر مما هي نحو تجريدي للغة. وما دامت الطاغميمك تتناول الوقائع اللسانية كنسق من الوظائف المتراتبة، فإن الجملة لم ينظر إليها أبدا إلا كوسيط يتم عبره الإدماج الخطابي. ومن جهة أخرى، فبما أن العناصر الأعلى هرميا ليست من نفس نوع العناصر الأدنى مباشرة التي تشغل خانات وظيفية ، فإن خطر نقل الطاغميمات التي تشتغل على مستوى إدماج الجمل ( موضوع ، محمول، مفعول، الخ) إلى مستوى أعلى من الجملة يصبح مستبعدا مبدئيا. إن الدراسة اللسانية والخطابية للغة بــمركز بوهل بالفيلبين والتي أنجزها ل. رايد ( 1970) تقبل بوجود كيانين للإدماج أعلى من الجملة، هما الفقرة والخطاب؛ يقوم الكاتب على الخصوص بدراسة ديناميات الإدماج الأعلى من الجملة في عدة أجناس خطابية محلية. وحلل أ. ل. بيكر ( 1966) من جهته خطابات منتمية لجنس "العروض" ورصد خطاطتين أساسيتين، خطاطة الموضوع ـ حصر الموضوع ـ الأمثلة، وخطاطة المشكلة ـ الحل، وهما خطاطتان سبق من جهة أخرى للبلاغة أن حللتهما.
إن تأثير الطاغميمك لم يتجاوز البتة الدائرة الضيقة للأتباع المباشرين لـ بيك.أضف إلى ذلك أن المنهجية البنيوية قد تعرضت للنقد بشكل أساسي انطلاقا من مواقف مستوحاة من النحو التوليدي. كما أن هذه التصورات التي لم تستطع التشكيك في وجود إطار يتعلق بنحو الجملة، قد ظلت غالبا أكثر اختزالية من عمليات الوصف البنيوية : فبينما اقتصرت هذه الأخيرة على نقل التمييزات المنجزة على مستوى تحليل الجملة إلى مستوى التحليل النصي، فإن لسانيات النص التي استوحت النحو التوليدي قد دافعت أحيانا عن أطروحة أكثر قوة حول وجود تطابق بين كيفية توالد الجملة وكيفية توالد النص. وهكذا افترض كل من كيتز و فودور (1963) أنه يمكننا أن نعتبر النص بمثابة جملة كبيرة ( حيث الحدود بين الجمل المكونة لهذه الجملة الكبيرة تلعب دور الروابط التي تصل بين الجمل)، بمعنى أنها سلسلة لسانية مكونة من عدة جمل سليمة نحويا تشتغل ـ بفضل تكرار القواعد النحوية ـ كجمل جزئية تندمج في الجملة الكبرى التي تعادل النص. من هذا المنظور، لا توجد وحدات نصية خالصة للتحليل، إذ الانتقال من الجملة إلى النص مجرد حالة خاصة لمبدأ تكرار القواعد النحوية. ومع ذلك فإن هذا التكرار يبقى إشكاليا: إن بعض العمليات الممكنة داخل الجمل، مثل الضمير العائد ، ليست ممكنة على مستوى العلاقات بين الجمل؛ كذلك ، إذا كانت بعض الاستبدالات المتعلقة بإحالة مشتركة بين المركبات ( كما هو شأن بعض الضمائر مثلا ) ضرورية نحويا، فقد اعتقد البعض ( غوليتش و رايبل 1974) أنها مجرد أمر اختياري على مستوى اتساق النص. وقد يشير هذا الأمر إلى أن الحدود بين الجمل لا تتطابق مع الحدود الفاصلة بين المركبات المختلفة التي تشكل الجملة، وبالتالي فإن الطابع النصي لا يتحقق وفق نفس المنطق النحوي. وأخيرا فإن فرضية فودور و كايتز تستلزم أن التوالد النصي يجب أن يتحقق وفق نفس القواعد التي طورها نحو تشومسكي لتوليد الجمل؛ إلا أن هذا المنطق يتأسس على نموذج من مجزوءات النشاط المعرفي ( الذي يستلزم استقلالية متبادلة لمختلف العناصر المكونة للمجزوءة)، وقد أظهرت بعض العمليات المحاكاتية على الحاسوب أن كمية العمليات الضرورية لتشغيل نموذج مجزوءات يهم التوالد النصي هي من الكثرة بحيث لا يقدر أي دماغ بشري على إنجازها في حيز زمني معقول ( بوغراند و دريسلر 1981)، إن الفرضية التوليدية تبدو صعبة التلاؤم مع الإكراهات الزمنية التي تعرقل أغلب عمليات توالد الخطاب.
خلال السبعينيات، رأت النور عدة مشاريع متعلقة بالأنحاء النصية. ويعتبر نحو بيتوفي أكثرها جرآة: فقد دمج أطروحات النحو التوليدي مع نظرية دلالية مستوحاة من منطق رياضي، وانتهى إلى بناء غاية في الشكلانية يسلم بوجود بنية دلالية عميقة ( غير خطية ) وقواعد للترجمة تسمح بالانتقال إلى البنية السطحية ( الخطية) وإلى مكون دلالي امتدادي من شأنه أن يصل النص بمراجعه. ويندرج العمل الجماعي الذي أنجزه فان ديك، إيهوي، بيتوفي، ريزر وآخرون (1972) في نفس الإطار نسبيا: يتعلق الأمر بإنجاز نحو للسرد قائم على أساس نحو عام للنص. ولم تؤد المبادرة لأي نتيجة، نظرا لاستحالة اكتشاف مقياس يسمح بالتمييز بين ما هو نص وما ليس كذلك ( وهو أمر كان يلح عليه النموذج النظري المستعمل). وقد عرض فان ديك في أعمال لاحقة نظرية مستوحاة بدرجة أكبر من علم النفس المعرفي والتداولية: ونتيجة لذلك فقد انشغل بعملية التلقي أكثر مما انشغل بعملية الإنتاج، كما هو الشأن بالنسبة لأغلب أعمال التحليل النصي المنجزة في إطار علم النفس المعرفي ( من أجل نظرة عامة ، انظر فايول 1985، والطبعة الجديدة 1994) . انطلاقا من تحليل للطريقة التي يلخص بها القراء الحكايات ، حاول فان ديك وكينتش ( 1975) اختزال النصوص إلى "بنياتها الكبرى" الخفية، تلك التي يتم الاحتفاظ بها في التلخيصات.
أغلب هذه الأعمال ( باستثناء البحوث المنجزة في إطار سيكولوجي ضيق) تفترض أن فكرة نحو نصي تشكل فرضية مقبولة، وبعبارة أخرى أنه يمكننا أن نتصور عملية إنتاج النصوص وفق نموذج إنتاج الجملة، أي عن طريق وضع نماذج مجردة، هي عبارة عن بنية مصحوبة بقواعد للترجمة، الخ. وحتى عندما تأخذ هذه الأعمال بعين الاعتبار عوامل معرفية خارج نصية، فإن هذه العوامل يتم تأويلها ضمن إطار دلالة عميقة ينظر إليها كمستوى من مستويات النموذج النحوي.
الميدان الوحيد الذي تجاوزت فيه "الأنحاء النصية" مستوى النماذج النظرية هو تحليل المحكي: أضف إلى ذلك أن هذه الأنحاء قد اقتصرت في قاموسها على إعادة صياغة النتائج المحصل عليها في التحليل التيماتي. من المؤكد أن الدراسات المنجزة في ميدان علم النفس المعرفي قد أدت إلى نتائج جيدة تقود خاصة إلى التشكيك في إمكانية وجود "نحو للحكي" قائم على أساس "البنيات الكبرى" ( فان ديك 1979) من شأنها أن تشتغل كنماذج للتلقي ـ وهو ما يشكك في نفس الوقت في القدرة التوليدية المفترضة لهذه "الأنحاء" أو "البنيات الكبرى" نفسها (لأجل نقد "لأنحاء الحكي"، انظر مثلا بلاك و ويلنسكي 1979)؛ هذا وإن الربط بين النتائج المتحققة في ميدان علم النفس المعرفي وبين إشكالية اللسانيات النصية لا زال حتى الآن يطرح عدة مشاكل، ليس فقط لأن التحليلات السيكولوجية تنصب على بنية التلقي في النصوص أكثر مما تنصب على إنتاج هذه النصوص، ولكن أيضا لأنها تهتم بالتمثلات الذهنية للمحكيات أكثر مما تهتم بوضعها اللفظي. وفي ميدان تحليل تشكل البنية اللفظية المنتجة، فإن العمل الأكثر أهمية يبقى حتى يومنا هذا هو عمل السوسيولسانيات : يتعلق الأمر بتحليل "محكيات صادرة عن تجربة شخصية" لدى لابوف و فالتسكي ( 1967، 1972). تقوم الدراسة هنا بالمزج بين تحليل البنيات الكبرى والتحليل اللساني، وتحاول إبراز الوحدات السردية وصولا إلى مستوى الجمل. تمتلك البنية الكبرى للسرد الطبيعي ستة مكونات: الملخص وهو ذو وظيفة استباقية؛ التوجه البدئي الذي يؤدي وظيفة تثبيت المشهد؛ الفعل؛ التقييم الذي يبين أسباب وجود المحكي؛ حل الصراع وأخيرا الخاتمة التي تمثل نهاية المتوالية السردية. وبصفة عامة فإن المحكيات التي درسها لابوف و والتزكي تسير على منوال المتوالية المذكورة أعلاه، ولكن بعض العناصر تغيب في بعض المحكيات ( مثل الملخص البدئي )، أو يتغير مكانها ضمن المتوالية السردية، كما يحدث مع فقرة التقييم. أما الوحدات السردية المنتمية لمستوى الجمل، فإنها تتحدد فقط بتتابعها الزمني، وتحدد بطريقة شكلية خالصة: إن جملة سردية أولية هي وحدة مركبية لا يمكن نقلها من مكانها ضمن الوحدات الأخرى التي تحيط بها دون أن يخل ذلك بالتسلسل الزمني للأحداث المنقولة. هذه العناصر السردية تتعارض مع الجمل الحرة التي يمكن أن تحتل أي موقع ضمن التسلسل السردي دون أن يحدث ذلك أي تغيير في تسلسل الأحداث المنقولة؛ بعض الجمل يمكن أن تتغير وضعيتها دون أن يترك ذلك أثرا على مستوى الحكاية. إنها الجمل المنسقة. وهكذا يجمع لابوف و والتزكي بين التحليل الشكلي وبين منظور وظيفي ( حيث يتم تحديد العناصر على ضوء وظيفتها ضمن المحكي الكلي الذي يشكل الوحدة منطلق التحليل)، كذلك يأخذ بعين الاعتبار أن تشكيل بنيات النص ينتج عن حسابات واستراتيجيات تواصلية، وبالتالي فإنه لا يمكن فهمها خارج سياق وضعيتها ( خاصة الوضعية الاجتماعية).
منظورات
يبدو إن أعمال تحليل النصوص المنجزة تحت مظلة نحو الجملة ترتكز على مسلمتين قابلتين للنقاش . المسلمة الأولى، المقبولة في نفس الوقت من طرف أغلب الدراسات المتأثرة بالبنيوية وبتلك التي تندرج في إطار النحو التوليدي، هي القائلة بوجود تناظر بين التنظيم اللساني للجملة وتنظيم النص. المسلمة الثانية الخاصة بـ "التوليديين" هي تلك التي تؤمن بوجود نحو عميق للنص له نفس وضع نحو الجملة ، وبالتالي : أ) من شأنه أن يولد عددا لانهائيا من النصوص انطلاقا من عدد محدود من القواعد القابلة للتطبيق بطريقة لامتناهية؛ ب) أن يقدم معيارا يسمح بالتمييز بين النصوص الجيدة والنصوص التي ليست كذلك، "نصوص نحوية" و "نصوص غير نحوية"، وإلى يومنا هذا لم يفلح أي نحو نصي في تحقيق إحدى هاتين المهمتين. وهذا ليس مستغربا: فإذا كان النص وحدة تواصلية ليست سلسلتها اللسانية ( مهما كان طولها) إلا تحققا لهذا النص، فليس من اليسير أن نعتبر عملية تبنينه قابلة للاختزال إلى قواعد لسانية خالصة، سواء أتعلق الأمر بإنتاجه أم بتلقيه. إن دراسة التحقق اللساني تشكل طبعا جزءا لا يتجزأ من الدراسة النصية، ولكن يجب أن نقلب نظام الأولويات : لا يتعلق الأمر باختزال النص في تحققه اللساني، ولكن بمساءلة هذا التحقق في ما يخص العناصر التي تكشف عن عملية "تشكله النصي". وهذا الأمر يقتضي التخلي عن مفهوم "نحوية النص" نفسها. وإذا كانت هناك معايير للنصية، فهي في أقصى الأحوال معايير للمقبولية، وهي معايير تتحدد على نطاق واسع بالسياق المقامي لعمليات الإرسال والتلقي. وهكذا يجب على لسانيات النص أن تفسح المجال لمنظور تداولي للنص ( بروير 1974).
أضف إلى ذلك أن كثيرا من الأعمال الحديثة العهد تندرج ضمن منظور تداولي: مع إيلائها عناية خاصة للعلامات اللسانية للتشكل النصي ( وتلخص عامة ضمن مفهوم الاتساق النصي ) فإنها تنطلق من الفكرة التي تنص على أن التشكل النصي لا ينتج عن تشغيل نموذج نحوي، وإنما هو نشاط متسلسل يخضع لإكراهات تنتمي أساسا للمستوى المعرفي والتواصلي. ذلك هو الشأن بالنسبة للأعمال التي تندرج ضمن ما يسمى "العلوم المعرفية": هـكذا يحـــدد كل من بوغــراند و دريسلر (1981) عملية التشكل النصي كنشاط لحل المشكلات. ولم يحن بعد وقت التعبير عن قيمة المقاربة المعرفية التي تنظر لعملية التشكل النصي كعملية مشابهة للعمليات المدروسة ضمن الذكاء الاصطناعي. وهكذا فإن وجود عمليات ذهنية للتشكل النصي يفترض أن النصوص تنتج ضمنها، تبقى مجرد افتراض على نطاق واسع، ووحده تطور علم النفس المعرفي سيسمح باختبار المصداقية الممكنة لهذا النموذج. أضف إلى ذلك أن التحليلات المنجزة في هذا الإطار تتناول التوالد النصي على مستوى العمليات المعرفية السابقة على التشكل اللساني أكثر مما تتناولها من زاوية لسانية خاصة: إلا أننا لا زلنا فعلا نجهل كل شيء عن الطريقة التي تنظم بها المعالجة المعرفية السابقة على التشكل اللساني والمعالجة اللسانية داخل الدماغ. الأولى أن نقول إن أغلب التصورات التي تمت بلورتها ضمن المقاربة المعرفية هي حتى الأن مجرد افتراضات.
هذا وإنه يمكن أن نحدد بعض النقط المركزية التي يجب على أي نظرية للنص أن تتناولها كي تستحق أن تعتبر بحق نظرية للنص:
1ـ الاتساق ( انظر هاليداي و هازان 1976). يشير هذا المصطلح إلى الوسائل اللفظية الخالصة التي تنظم العلاقات المتبادلة بين المركبات داخل الجملة أو بين الجمل، وخاصة الاستبدالات المركبية التي تحافظ على هوية المرجع، وكذلك على التوازيات، الترددات واستنساخات المضمون. إن الاتساق بين الجمل ينتمي مباشرة إلى التحليل النصي. كثيرة هي الدراسات التي خصصت لموضوع الإحالة القبلية، الإحالة البعدية والروابط ( هارويغ 1968 مثلا). أضف إلى ذلك أن اشتغال هذه المقولات تشتغل بشكل معقد: استخدام الضمائر الانعكاسية ( "اشتكت")، الإحالات البعدية ( لم يتدفأ ، فأصيب أحمد بالزكام)، أما روابط التبعية فغير ممكنة إلا داخل الجمل (كوليتش ورايبل 1974)، بينما الإحالات القبلية وأغلب الروابط ( بين الجمل غير التابعة) تشتغل أيضا كوسائل للاتساق بين الجمل. أضف إلى ذلك أن استخدام الاستبدالات كوسيلة للاتساق بين الجمل يبدو اختياريا، بينما تبدو بعض الاستبدالات ضرورية حينما يتعلق الأمر بالربط بين عناصر من داخل الجملة الواحدة: حين يتعلق الأمر بداخل الجملة، يمكن للمتكلم أن يختار بحرية بين استخدام الضمائر أو تكرار الاسماء؛ ورغم أن هذه الطريقة الأخيرة قد تؤدي إلى نوع من "الاستثقال" ( لانج 1973)، وتتمتع بالتالي بدرجة ضعيفة من المقبولية، فإنها لا تمثل شذوذا نحويا بالمعنى الضيق للكلمة. ويدل هذا الأمر كما يبدو على أن نفس العنصر قد يحتل وضعية مختلفة حسب ما إذا كان يشتغل كعنصر نحوي ( على مستوى الجملة) أو كعنصر للاتساق النصي ( بين الجمل). ويعتقد أحيانا أن الإحالات القبلية والإحالات البعدية تمثل معيارا سلبيا لوحدة النص: إن السلسلة اللسانية التي تبدأ بإحالات قبلية أو تنتهي بإحالات لا تشكل وحدة نصية، ما لم تكن هذه العناصر مؤطرة بعناصر خارج نصية ( مثل السياق المقامي) ( انظر بليت 1975، ص 60). في الواقع، لا يتعلق الأمر هنا بمعيار مطلق: ففي حالة النصوص الأدبية نقبل بسهولة خرق هذه القاعدة.
2 ـ الانسجام . لا يتعلق بمستوى التحقق اللساني ولكن بتشكل التصورات التي تنظم العالم النصي كمتوالية تنمو تدريجيا في اتجاه النهاية ( آدم 1989): إن الانسجام يضمن الاستمرارية والاندماج التدريجي للدلالات المتعلقة بموضوع ما، وهو ما يستلزم قابلية للفهم متبادلة بين المفاهيم التي تحدد تشكل العالم النصي منظورا إليه كبناء ذهني. إن الروابط بين المفاهيم قد تكون من طبائع مختلفة: روابط سببية، غائية، تناظرية، الخ. ويبدو من جهة أخرى أن العلاقات بين المفاهيم لا تشتغل دائما بواسطة تعابير لسانية من مستوى البنية السطحية، ولكنها تستلزم غالبا اللجوء إلى عمليات استدلالية: كذلك الشأن بالنسبة للضمنيات غير الافتراضية التي تنتمي للمستوى النصي، على عكس الافتراضات التي تشكل جزءا من الدلالة اللسانية الخالصة ( دوكرو 1991). إن نوع النص الذي درس فيه الانسجام بدرجة أكثر عمقا هو المحكي: ففي المحكي يمثل بناء المتواليات السردية فعلا حالة متميزة للانسجام النصي.
إن مشكلة الحدود بين الاتساق النصي ( المتحقق بواسطة أدوات لسانية خالصة) والانسجام النصي ( الذي يشغل عمليات معرفية غير لسانية) مشكل معقد: وهكذا، إذا تبنينا الخاصية الحجاجية المقترحة من طرف آنسكومبر و دوكرو، وخاصة الفرضية القائلة بأن معنى المفردات يتحدد أساسا من خلال صيغ امتداد الخطاب التي تجعل هذا المعنى ممكنا، فمن المحتمل أن عددا من الوقائع النصية التي تعتبر عامة كجزء من الانسجام قد تجد تفسيرها بواسطة الاتساق، أي بواسطة مفردات لسانية خالصة.
3 ـ المقصدية والمقبولية. إن أي نص هو بمثابة بنية مقصودة، وباعتباره كذلك ، فإنه خاضع لنماذج تحدد مقبوليته. لقد درست مقصدية الخطاب بصفة خاصة في إطار نظرية أفعال الكلام ( أوستن ، سورل): إن الأفعال الإنجازية المستلزمة، وبخلاف الملفوظات التي تحققها، ليست وقائع لسانية بل تداولية، وبهذا المعنى فإنها تدخل ضمن حقل التحليل النصي. إن تحليلات كرايس المتعلقة بالأمثال السائرة تمثل حتى الآن أهم المحاولات لإيجاد نماذج للمقبولية الخطابية، لأن هذه الأمثال، وهي تتجه إلى المتكلم، تحدد في نفس الوقت الشروط التداولية التي تجعل الخطاب مقبولا من طرف المتلقي. إن نماذج المقبولية هي طبعا رهينة بالوضعيات التواصلية وتختلف حسب الأنواع الخطابية.
4 ـ التمييزات النوعية. إن تحليل عمليات التشكل النصي لا يمكن أن تستغني عن تنويع واسع قدر الإمكان لأنواع النصوص المدروسة. وكما سبق أن سجل باختين ( 1984) : "فإننا نتعلم كيف نوافق كلامنا مع أشكال النوع ، ثم ونحن نسمع كلام الآخر، فإننا نخمن مبدئيا، منذ الكلمات الأولى، ما نوع النص ، ويمكن أن نخمن حجمه، بنيته التركيبية، وأن نتوقع نهايته..." إن عدم إدراك الخصوصية النوعية للنصوص هو المسؤول بالدرجة الأولى عن كون عدد كبير من التحليلات النصية التي كان يفترض أن تتناول بالدرس التبادل الحواري، تتناول، بدل ذلك، حوارات مأخوذة من محكيات أدبية. والحال أن هذه الحوارات بعيدة عن أن تكون تشكلات نصية حوارية، وإنما هي تمثيل لهذه التشكلات النصية، أما تشكلاتها والمبادئ المنظمة لها، فليست بالتأكيد هي نفسها المبادئ التي تنظم حوارا فعليا، لأنها في جزء منها على الأقل تخضع لإكراهات مرتبطة بالنشاط المهتم ببناء هذا التمثيل.
5 ـ شعرية النص. هناك على الأقل مجالان للنشاط اللفظي أهملهما لسانيو النص بصفة عامة، في حين أننا نجد فيهما إمكانيات للملاحظة غنية بالنسبة لدراسة التكون النصي: يتعلق الأمر بالأدب الشفهي، وخاصة بهذا الجزء من الأدب الشفهي حيث يحدث التأليف خلال عملية الإنجاز، وكذلك الأمر بالنسبة بالنصوص التمهيدية في النصوص الأدبية ( نقط، مخطوطات تمهيدية، الخ) كما تم تحليل أصول نشأتها. من المؤكد أن الأمر يتعلق هنا بنوعين خاصين من التشكل النصي، لا نستطيع أن تستخلص منهما شيئا: ولكن ما دمنا نتوفر في الحالتين معا على حالات نصية متعددة قابلة للإحالة على نفس المشروع النصي ( الإنجازات المختلفة المنتسبة لنفس الشاعر، الحالات المختلفة لنفس المخطوط) ، حيث نتوفر على آثار مباشرة للإبداع النصي، وليس الأمر كذلك بالنسبة لأغلب أنشطة التشكيل النصي الأخرى ( حيث لا نتوفر إلا على حالة واحدة هي الحالة النهائية). أضف إلى ذلك ، فما دام كل نشاط متعلق بالتشكيل النصي يندرج ضمن إطار نوع خطابي خاص ( محدد تداوليا) ، فإن تنويع الدراسات المفصلة حول الأنواع الأدبية الخاصة يجب أن يسمح بتجنب الاستنتاجات المفرطة التي تعودت عليها نظريات النص بشكل مفرط.
هوامش :
( 1 ) الطاغميمك la tagmémique هي أحد الأنحاء اللسانية التي تهتم بالعلاقات بين الوحدات الوظيفية. ولا يقتصر نشاطها على تحديد الوحدات اللسانية المكونة للجملة، بل تتجاوزها إلى الكشف عن العلاقات التي تربط بين هذه الوحدات. وتمثل الطاغميمك امتدادا للبنيوية الوصفية بأمريكا الشمالية لدى سابير، بواس وصولا إلى بلومفيلد، كما تمثل أحد جذور اللسانيات الحديثة ( المترجم ).
العلاقات التراكبية relations syntagmatiques
العلاقات الاستبدالية relations paradigmatiques
الطاغميمك tagmémique
إيحائي connotatif
اتساق cohésion
أعلام :
هـ. ف. بليت 1975 H.F. Plett
ز. هاريس Z. Harris
بيرفيتش 1965 Bierwisch
بلومفيلد Bloomfield
هيلمسليف Hjelmslev
سوسير Saussure
بيك Pike
تودروف Todorov
مركز بوهل Central Bohol
ل. رايد Louis Armand Reid
أ. ل. بيكر Alton L. Becker
كيتز Katz
فودور Fodor
غوليتش Gülich
رايبل Raible
بوغراند Beaugrande
دريسلر Dressler
بيتوفي Petöfi
بلاك Black
ويلنسكي Wilensky
لابوف Labov
فالتسكي Waletzky
بروير Breuer
هاليداي Halliday
هازان Hasan
كرايس Grice
باختين Bakhtine
سابير Sapir
بواس Boas
أنسكومبر Anscombre
أوستن َAustin
سورل Searle
Nouveau dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Texte
Oswald Ducrot, Jean-Marie Schaeffer, 1972, 1995, pp. 594-606