الجنيريك:
الشخصيات الرئيسة:سوسو، طائر الكُرَزّيط،الحنش صائد الفئران،البغل، الظهيرة الملتهبة، آلة الحصاد الجون دير، طبق الكسكس،القيلولة.
الشخصيات الثانوية: عيسى السْمايْري، الراعي الْحَيْمَر، افَّيْطنة الحمّادية،الرّحالية، سي الحاج بلْمدَني، الراوي.
بعض الكلمات المفاتيح: طايْح، يُفَركِل، المنام، الصمت، ، الحقيقة، أرجوووووووك.

الراعي والحنش
مثل موسيقى من نوتة واحدة تتكرر، كان صوت محرك آلة الحصاد، الجوندير الصفراء، لا يكلُّ رغم الحرارة التي تجاوزت الأربع والثلاثين درجة. فتحتُ كل أزرار القميص والشمس لا تتعب من التحديق، أمّا الأرض فتُواصل طوْفَتها، وهي من ثوابت الكون الكبرى.
قادَ الراعي الْحَيْمَر أغنامه قافلا بها نحو الزريبة لتقيلَ كما تعوّدت، وكان سعيدا بعدما اصطادَ حنشا مخططا بالأصفر والأسود متوسط الطول، وهو غير سام ومشهور باصطياد الفئران والقوارض، وصاح من بعيد يقول لي :
- سأستريحُ الآن من تلك الفئران الخبيثة التي تحيا معي في عشتي. هذا دواؤها.

موسيقى تمهيدية
الصمتُ معجزة العالم الحديث. لحظة واحدة تُغني عن كل الصخب الذي يملأ الدنيا ويُفسد تذوّق الحياة.
كنّا معا في ذاك الخلاء المُمَدّد، ذات يوم حصادٍ ابتدأناهُ باكرا خلف صمت مُطلق تخدشه جلجلة صوت آلة الْجوندير الصفراء المتهالكة، والحريصة، رغم ذلك وبلا رحمة، على التهام رؤوس سنابل الشعير الخائفة.
أتصببُ عرقا مع الساعة الأولى من صباح اليوم الثاني والأخير من الحصاد، درجاتُ الحرارة تعلو سريعا، في أرضٍ أهلها جرّبوا نعيمَ الجنة ليلا، ويكتوُون بسعير جهنم نهارا.. وفي الأفق البعيد، كانت أشجار الغابة تبدو مثل جنودٍ من المُشاة ينتظرون عودة قائدهم الغريب، أمّا سوسو، بذكائها الفطري، فقد اختارت الابتعاد عني لمّا رأت إهمالي لها وتمدّدتْ تختلسُ النظر منتظرة صفيري، لكنني مُنشغل بشيء أكبر، أكبر من عقلها الصغير.
كنا معا فقط، أو هكذا رأيتُ. رفعتُ بصري إلى السماء أحاورُ الشمس التي أوهمتنا، وما تزال، بطلوعها اليومي وغروبها، وهي مستقرة في مكانها.. مُثقلة بغَضبها الذي تعتقده هواءً أو نورا، بينما الطواف الأبدي للأرض التي نحيا ونموت فوقها، تدور حول الشمس بحساب، كأنها في قيْدٍ يمنحها حقّ الاستدارة المشدودة إلى وتد نُحاسي متين، فتشتهي دوما الوصول إلى الشمس، وكلما التهبَ شوقها ولجت دورة القمر، وكلاهما ينظران وينتظران، لا الشوقُ احترقَ ولا الضجرَ عمّ.

شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.
قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.
يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.

عندما وقفتُ أمام باب بيتنا كتمثال حجريّ بارد، ملأني الاستغراب و هزّتني المفاجأة، فقد صفعتني رائحة غريبة لم أعهدْها سابقًا، رائحة رماديّة بطعم الملح و الأسى، يدي على مقبض الباب متعثّرة في خطواتي، تُثقلني حقيبة سفري وذكريات الصبا البعيدة، بدا بيتنا كئيبا، رغم سعادة بضعة فراشات بدتْ و كأنها ترحب بمقدمي، دفعت الباب الحديدي الثقيل فاستقبلتني أخْتايَ بشموخٍ واقفاتٍ كشجرة البرقوق في حديقتنا الخلفية، باسماتٍ في وجومٍ كالراهباتْ !! دفنتُ حزني في حضنيهما ......، ثم أخذتْ مني أختي الكبرى الحقيبة فوضعتها جانبًا ثمّ مشتْ أمامي عاتيةً وبدتْ بسُمْرتها البرُونزية مثل شمس الجنوب، قادتني إلى آخر غرفة الصالون، وفي آخر الرواق الطويل لاحظتُ بضعَ فراشات سعيدة تزين الخواء، هناك كانت أمي نائمة على فراش أعِدّ لها، بدتْ لي و كأنها في حالة إغماء إذ لم تنتبه إليّ، ناديتها لم تجبني، اقتربتُ منها وعانقتُها، التفتتْ إليّ و قد استلقت على ظهرها، ظلتْ تتأملني و كأنها لم تعرفني، غير أنها سرعان ما رسمت ابتسامتها البريئة على وجهها الصغير، نظرتْ إليّ بعينين كهْرمانيّتيْن نظرة عميقة، عانقتُها مجددا، مسحتُ على شعرها، و في لحظة انتبهتْ إليّ، فتحَتْ ذراعيها فضممتُها إلى صدري، وظللتُ أنتفض بين أحضانها باكية، ـ كانت رائحتها كرائحة ورق النعناع الأخضر اليانع، ..أغمضتُ عيني ...فتذكرتُها ....نعم ...تذكرتُها وهي ترجو مسؤولة الروضة كي تعطيني خفيةً رضّاعة الحليب أثناء الفسحة بعيدا عن أعين بقية الأطفال و أنا طفلة صغيرة لم أتجاوز الخمس سنوات .......تذكرتُها وهي ترسل لي في شهر رمضان وجبة إفطاري بالحافلة و تصرُّ خاصة على خلطة " كعبة البريك " التي تضعها بعناية في إناء صغير لأقوم أنا بقليها قبل آذان المغرب في مطبخ المبيت الجامعي ..فآكلها ساخنة شهية ......تذكرتُها عند باب المطبخ و هي تبرّد لي فنجان الشاي الأخضر بعد تناول الغداء، بأن تتناوب صبّه في كأسين واحد في اليد اليسرى وآخر في اليمنى بحركة رشيقة و ترجُوني أن أنتظر تسبقُها ابتسامتها البريئة، تريدني أن أشربه قبل أن أذهب إلى العمل بعد الظهر ...

" بُحَّةُ صَوتْ،
أَغْرِق فيها إيقاعَ المعنى واغْرَقْ فيهِ.
عُنُقُ امرأةٍ، _
ضَع رأسَكَ في مَهْواهُ،
وَاحْلُمْ ضِدَّ الموتْ."
أدونيس.

_ حي هو الموت وميتة هي الحياة.
غربة أخرى يتداعى لها هذا الليل الممسوخ، ليل آخر يستبد بذاكرة شبه مثقوبة. تتعرج خيوط المدينة وتتراقص تحت مشكاة تختفي وتظهر. موسيقى الولادة والحنين. لا مفر.
أسئلة الصمت الأبدي وغواية الكلمة، وطن يخرج من الإبطين ولا يراوح مكانه. الحرية الموءودة، وشهداء لا يزالون في العينين، رفاق الليل، ووثائق تموت إبان الولادة. الحزب الي لم يوجد بعد. أحلام ووجع ورفات ونيران المستبد.
يتلعثم صديق للسماء ويصمت. طريق الجبل القريب. قمر يبدي سحره قليلا ويختفي وراء ضباب مسافر. ونحن ثلاثتنا: غرباء الوجع القديم. تموت أغنية وتلحق بها أخرى. ندندن. لا مكان للأمل اليوم. سنترك له مقعده فارغا.

يصر على الموت واقفا، كما قرأ يوما في أخبار النبي سليمان. أن تموت واقفا معناه أن تُطمئن الحياة بأنك عائد مرة أخرى. وحدها النفوس الضعيفة تستلقي معلنة عن نهايتها.
بعد كل صلاة عصر يؤكد لهم أنه لا يخاف الموت. كيف يخافه وهو الذي بارك حضوره الغليظ والقاسي في لاندوشين(*). حرب بلا مجد أو هوية. قاتلوا إلى جانب محتل ضد أبناء الأرض، ثم استسلموا لحقيقة مرة.
كيف يخافه وهو الذي عاين بقلب متحجر تطاير أحشاء رفاقه، فتلاشت قدسية هذا الإهاب الرباني، الذي تلُفّه منذ الطفولة جلابيب صوف في أعالي الأطلس. هناك وُلد، وهناك تبرعمت أحلامه بالزواج، وزعامة القبيلة، ثم الفرار من إدانة بالحبس سنة ونصف بعد اتهامه بسرقة المواشي.
لا مشكلة لديه في الإقرار بأنه تاجَر بأحلام البسطاء أمثاله. ما الذي تتوقعه من جبل لا يلد إلا الحجارة؟ عشرون سنة وهو ينحت أمنية الثراء، فوجدها يوما في الاحتيال على رعاة الجبل.

قيل فى الأثر : يموت الإنسان واقفا إن لم يجد ما يضع خده عليه أو فقده..
ويحكى أن رجلا حمل يوما بؤجة طعامه فى يد وفأسه على كتفه وجر خلفه حماره وشمسه التى كانت لا تشرق حتى يجرها بحبل الحمار، وذهب إلى حقله ليسقى زرعته ويراقب نموها.. فوجد مكان حقله/ حصاد عمره.. كمبوند بعمارات شاهقة وفيلات عامرة وحمامات سباحة وملاعب جولف تسر الناظرين، أخذه الذهول فظل واقفا فى مكانه كعمود من الصوان..

قال لي ذلك الرجل الذي وجده الناس فجر ذات يوم شتوي مستلقيًا في باحة التكية إنه يريد أن يلتقيني بعد انصراف الناس وإغلاق الأبواب بين انتهاء صلاة العشاء وصلاة الصبح.
لم يكن أحد يعرف من أين أتى، وفشلت كل محاولات استنطاقه، وعزف المحاولون لما أصابهم اليأس من جدواها.
لا أدري لماذا اختارني وأسرّ إلي برغبته في مجالستي، وقد مرت لحظات التردد سريعة لمّا غالبتها فغلبتها رغبة اكتناه السر وفضّ المغاليق.
قصدت مأواه في الغرفة الصغيرة التي كنت أخشى دخولها منذ طفولتي في التكية بسبب توسط جدارها لوحة كتب عليها لفظ الجلالة، وقد كان من تعهدوني في صغري بالوعظ قد أدخلوا في روعي أن الله جبار يسوم من يتنكبون عن جادة التقوى عذابًا لا يطيقه بشر.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة