جلس على خوانه الخشبيِّ العتيق، قوي البنية رغم أعوامه الثمانين، مكشوف الرأس، تغطي وجهه المجعد لحية بيضاء كثيفة، يرتدي كعادته قميصا أزرقا خفيفا، وبنطلونا كحليا عاديا.
حدثني حامد عن البقعة الوادعة، التي هُجِّر أجداده منها، احتلَّها اللصوص، فصارت مملكة لهم، لأكثر من قرن ونصف من الزمن، ولم تندثر إلا قبل ستين عاما تقريبا.
غدا أغلب ساكنيها من آكلي السحت، وشذاذ الآفاق، وقاطعي الطرق، وأصدقاء لهم راضين بفعلهم، ومنتفعين منهم، وساكتين عنهم، وبعض الخائفين والمترددين.
خضعت الرواية لتكذيب الكثيرين إلى حدِّ الإنكار، فمتى بنى السارقون حواضرا، وأين كانت عنهم السلطات المتعاقبة؟!
بدأت الأحداث عام 1820، فقد كان حامد "الجدُّ" نائما، وحيدا في بيت أهله شبه المهجور.
قسنطينة مدينة بلا بحر .....إلا الحنين – نص: إبراهيم مشارة
أعطني شارة لتساعد هذا الغريب
أعطني وردة كي أحل الطلاسم
قبل المغيب
أعطني نجمة واحدة
دلني كيف أمسك بالقلب ليلا
وأغتصب الرجفة الواعدة
بزق من الخمر والحب والأصدقاء
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في قصيدة عن مدينة قسنطينة
حين نزلت إلى قسنطينة بعد غياب استطال ثلاثين عاما كانت تترد د في ذهني قصيدة الشاعر عزالدين المناصرة في مدينته الثانية قسنطينة التي عاش بها زمنا ودرس بجامعتها، كنت مثله أسال أين ابن باديس ومالك حداد وكاتب ياسين ؟ وأين ذلك الصخب الذي تفجر زمنا نشوة وشعرا وفنا وفكرا ،وأين القسنطينيات اللائي كن يتماوجن كسنابل القمح على إيقاع فرقة "العيساوة" في المسرح الجهوي في ليالي رمضان؟
الكفيف وصوت الصباح – قصة: الحسين لحفاوي
كانا يتقاطعان كل صباح، فيحيي أحدهما الآخر ثم يواصل كل منهما طريقه ويمضيان في اتجاهين متعاكسين، وتظل كلماتها تدغدغ مسامه إلى أن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيها.
كلمتان ليس إلا فعلتا فيه هذا الفعل، أسرتاه وشدتاه إليها. في صوتها عذوبة وفي لحنها انسيابية فريدة، رقة ودفء وحنان. كلمتان تنثرهما في حياء فوق أديمه الجاف فتزهران دون انتظار زمن الإزهار، تتمردان على كل النواميس الطبيعية، تتحديان برودة الطقس وارتفاع درجات الحرارة، لا تخضعان لقوانين الفصول. كلمتان متمردتان تبوح بهما دون أن ترفع عينيها عن الأرض. لم ير عينيها يوما ولم يتأمل تفاصيل وجهها، يكفيه صوتها، هذا المغناطيس الآسر.
استعاض عن بصره بأذنيه منذ فقد حاسة البصر إثر تعرضه لمرض أصاب عينيه في عامه الثاني، فقَدَ بصره كله في لحظة واحدة، لم تفلح معه حبات بذور الحرمل التي أُرغِم على ابتلاعها، ولم تنفع معه التمائم التي علقتها والدته له على رقبته أو فوق أثوابه. ورضي بوضعه الجديد وكان لزاما عليه أن يرضى. كان أحب الأصوات إليه صوت أمه حين تناديه لتخرجه من وحدته وعجزه، تؤنسه تلك الكلمات القليلات التي تذكره كل مرة أنه ليس وحيدا في البيت وفي هذه الدنيا، وأن هناك من يرافقه ويراقبه ويرعاه. وحين غاب ذاك الصوت ظل وحيدا ولم تحتفظ مخيلته سوى بذلك الرجع من ذلك النغم الشجي الذي كلما استعادته ذاكرته الموبوءة انفجرت عيناه دموعا لا يحاول أن يداريها. يريد أن يبوح للعالم أنه ظل وحيدا منذ رحيل الغالية من الحياة.
ضيفة المقهى – قصة: الحسين لحفاوي
انتظرت قدومها طويلا، وحين أتت بسنواتها الأربعين كانت ضاجة بالحياة والأنوثة، مفعمة بالأمل، مقبلة على المرح المتفلت من بين الأصابع، تلهج بالفرح الذي تلحظه عيناها السابحتان في لجج من الخيلاء من وراء الغيوم الداكنة. لم تعد تحفل للحزن واليأس، ولا بمشاهد الدم المتناثر والدمار والخراب.
تحدق في شاشة جوالها، تتصفح الفايسبوك وتكتفي بقراءة العناوين دون الغوص في التفاصيل، مملة صارت تلك الأشياء في حياتها، لا ترغب في الغوص بين تلافيف الأخبار ولا أن تتوه بين ثناياها. تكره التحليل والعمق. حسبها أنها ترمق الصور بعينين طافحتين بالأمل والتفاؤل. تحضن الحياة تماما كما تحضن أم رضيعها حبا وعطفا وخوفا.
آلام الوداع تفتّق ملذّات المعاني - د.الحبيب النّهدي
ذات آخر نهار، سبق الليل المغيب إليّ. فكنت ألمح السحب سوداء، دكناء، تراقصها الريح، فتعبث بها في اتجاهات شتّى منذرة بهطول المطر. كنت قد نزلت للتّو من مكتبتي الخاصة إلى الشارع اقتنص لحظة امتلاء وتوهج بعد أن كنت منكبا على مواجهة هول الورقات البيضاء ورعبها. محاولا حلّ اشكالية التوفيق بين وجوديّة متعالية وروحانيّة محايثة، ذلك أني عندما أصاب بدوار لولبيّ وأشعر بغثيان تفاهة اليومي الروتيني الذي كان يصادفني بين الفينة والأخرى.
اشتاق إليك صديقي ، فأقصدك، اطلب منك المواساة والجلوس في ورشتك، أراقبك عن قرب وأنت تلاطف الحديد أو آخذك في نزهة قصيرة كما كنّا قد تعودنا على ذلك، فتقبل دوما رغم ارهاق العمل الذي كان باديا على وجهك. كنت لا تطيل معي التجوال وبسرعة تودعني لتتركني للضياع الذي يؤول بي دوما لأجدد التأمّل لعلي أجد فيّ مسالك ملغمة هداي.
دموع كاميليا - قصة: العياشي ثابت
كلما ادلهمت الخطوب، وأحسست بالغربة في وطني، وتكالبت على صدري آهات من شتى المزامير الحزينة، أشيح بوجه ذاكرتي عن مصادر الأسى، وقد تعددت مشاربها بين إدارات ومستشفيات ومدارس وأسواق وأنفاق وأبواق وغيرها، بين بر وجو وبحر، بين رطب ويابس، بين مخذول وعابس... وكعادتي كل مرة، حين يَثقُل كاهلي، وأحس رأسي أثقل عضو في جسدي، أنزل بكامل الثقل على الوسادة، وأمنع نفسي من التفكير، في انتظار غفوة أو سبات، أو سهاد يؤرق جفني حد الممات...
الممات هذه المرة، كان نوما مغلفا بالكوابيس المرعبة، حيث العبور اللامرئي صوب العالم الآخر، حيث انقسم العالم إلى قسمين عملاقين، لا ثالث لهما: الجنة والنار... لا وجود للعالم الثالث، في قسمة عادلة، عز أن أرى فيها اعتراضا أو امتعاضا...
سحر – نص: عبد الحفيظ أيت ناصر
[ عيناك والسحر الذي فيهما ••• صيرتاني شاعرا ساحرا ( ابو ماضي) ]
في جو صباحي ينازع فيه الدفء بقايا برد شديد، والشمس تنزع عن الصباح بقايا نومه، جو يغازل أوتار القلوب، كم من السحر في هذا الوجود، وكم من السحر في عيناها، وقَفَت والألق ظاهر في عينيها، المحطة كانت تعج بالمسافرين، و وحديَ انتظرتني اللحظة راحمة، نظرت اليها بشيء من السؤال وبشيء من الغرابة! ماذا تفعل هذه الغريبة هنا! كل الناس هنا، ووحدها لم تكن هنا، يظهر جليا أنها ليست قطعه من هذه اللوحة، ثمة سحر في عينها وثمة ضياع وألم، الناس كلهم مسافرين ونحن الغريبين الوحيدين هنا هذا الصباح، وصلت حافلتي ولم تكن ستصعد نفس الحافلة انتقيت مكاني قرب النافذة والى جهة اليمين نظرت؛ تقف كما العصفورة مرتبكة في قفص، عيناها لا تهدأ أبدا وفي ملامح وجهها بقايا من بكاء قديم، وانا انتظر - والرغبة تقول ايتها الحافلة لا تنطلقي - بدأت أتأمل شفتيها لعل طيف او شبح ابتسامه يلوح من الغيب، وكم كانت خيبتي أنني لم أرَ ولو هذا الشبح، أما عيناها فما زالت لا تهدأ أبدا.
منولوج حول وطن- قصة: أحمد العكيدي
توقف عن شعاراتك الرنانة وخطبك البراقة، لا يمكنها إحياء الموتى ولا حتى إشباع الجوعى.. حروفك المبعثرة فوق ورقتك البيضاء، لن تخلخل ركائز الخزي الصامدة وبيوت العار الواقفة…
لا تقل شيئا، أعلم أن صدرك يضيق بما حولك، ومن شدة حزنك تحتج، ومن حبك الفياض تصرخ، ومن بريق أمل في قلبك تكتب.. لكن مثل هذا، أشك أن ينفع.. لماذا لا تبحث لك عن منبع للحياة، وتخلع عنك رداء الموت الذي انغمست فيه ونسيت متعة الوجود؟
أتقصد أن أتوارى عن عيون أحبتني، وأختفي بين أحراش الذل، وأهجر تلك القلوب المتألمة وجميع تلك الأماني والأحلام...؟ ماذا عن تضحيات الأجداد؟ ألم تكن دماؤهم نهرا ما زال يروينا؟
ها أنت تعزف سمفونية تعلم جيدا أنها مشروخة، تقنع نفسك بوهم متبخر كدخان.. لقد ثاروا من أجل وطن كانوا يعرفونه.. أما أنت، قل لي ما هذا الذي تمزق طبلات أدانينا من أجله؟ أخبرني لما تكتب تلك الأشعار؟