فَـــقـد – نص: ميمون حرش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

-1-
أدخل المقبرة مهيض الجناح، أسلم مردداً: أنتم "السابقون، ونحن اللاحقون"، رموس كثيرة أمر بها، قبل أن أصل لقبر أمي، في طريقي أصادف شابّاً، تائهاً، بين القبور، ينظر يمنة، ويسرة، بعصبية لافتة، كنتُ على وشك الوصول حين سمعته يتكلم بصوت مرتفع في هاتفه: " عذراً على الإزعاج، في هذا الوقت، ولكني تائه وسط المقبرة، تائه فعلاً، ولم أهتدِ لقبر المرحومة".
بعد المكالمة، يتخطاني، ويتجاوزني بسرعة، قبل أن يستقر، غير بعيد، من قبر أمي، يمسح بعينيه رموساً كثيرة، متراصة.. كنتُ أنتظر منه أن يسألني، أو يكلمني، لم يكن في المكان غيرُنا، بيْد أنه لم يفعل.. لو سأل ما دريت بما كنتُ سأرد، لكنه حسناً لم يفعل، (مجيئي إلى هنا لم يكن من أجل الحديث مع أحد سوى أمي).
يصلني صوتُه، رغماً عني، المكان هادئ، فضلا عن أنه أصر، من انفعال، أن أسمعه أنا، ومعي كل الموتى...
حين انتهيتُ من قراءة الفاتحة على قبر أمي، والدعاء لها، كان لا يزال حائراً.. يرفع صوته، يزيد من زوادته، بشكل غريب حين أدرك أنه فشل في العثور على القبر المنشود، يبدو مُحبطاً تماماً.. أدور قافلا، أراه يبتعد، يرجع من حيث أتى، وهو يصيح بتشنج:
" ضالة، وضائعة، مذ كنتِ، عشتِ في الدنيا تائهة، وها أنتِ تخلصين لتيهك حتى في المقبرة، لا أحد عرف كيف يصل إليك حية، وميْتة".

-2-
برودة عجيبة سحلت أوصال علي (هو توأمي لأخبركم)، لم يكنِ الجو بارداً حتى يتوجع لهذه الدرجة، كان ينبغي أن ينتبه بأن مصدرها(ربما) هو هروب زوجته منه كما قرأتُ في يومياته التي أودعها لي، قبل أن يختفي هو أيضاً، في ظروف غامضة كما في الأفلام البوليسية.
آخر وجبة، قبل "رحيل" زوجة علي، لا يزال فتاتُها يترسب في قعر كوكوت- مينوت، مُتوجة فوق البوتاجاز، لتشهد فراغاً قاتلاً، إلى جانبها صحون متسخة، وكؤوس تشكو إهمالاً، البيت- غرفة علي اليتيمة- بدون امرأة قَفر، ومع ذلك هو الآن مرتاح من ضجيج من كانت تشاركه إياها، وهذا الهدوء يحتاجه، ربما.. ما أجمل أن يتصفح المرء ذاته دون زوجة، ليوم، لأسبوع، لشهر، لسنة، وربما لأكثر...؟! لكن إلى متى؟ وبأي ثمن؟
في الفِراش لم يكنْ علي فحلاً كما صرح لي دون عُقد، وربما لهذا السبب هجرته زوجته، مضى على زواجهما عامان، لم تشتكِ خلالهما يوماً، ولعلها كانت تمهله، وحين فاضت كأسها تركته وحيداً ككلب، قالت له قبل أن تغادر (آخر كلامها قبل أن يفقدها علي للأبد) : "التيه، بداخلك رغم هوله، لم ينل مني، ولم أضل، رغم ذلك، طريقي معك، لكن لأنك لستَ حاراً ولا بارداً تقيأتك نفسي.."
"حار وبارد"، هذه جريرة علي إذاً.. إنها جريرتي أنا أيضاً لو تعلمون.. وربما أنتم كذلك (اعذروني، إني أهذي ولا شك).
أعترف لكم، أني عشتُ دون أن أعرف حدود طقسي، ولم أقِس جسدي، لأعرف مدى برودتي وحرارتي، على الأقل في الهوى، أو بعد الزواج، (لم أتزوج أنا).. هم يقولون إن منسوب الحرارة في أوصال المحبين صخر فوق الظهر حارق، وفي القلب صاعق، يقولون أيضاً إنّ الحرارة في الزواج لذة مطلوبة لإبطال الألم الناشئ عن فقدانها بسبب البرودة.. لكن ما سر هذه الخصومات بين الأزواج، ولماذا تُعد عادية مادام الحب يسيجها؟
مسكين علي، بل يا لتعاستي، والشقي الشقي من كان مثله في حرارته، ومن كان مثلي في برودتي.
هاتفي الخلوي الذي أهمله غالباً، اتقدتْ حرارتُه حين صدح منه إيقاع قصيدة " بارد وسخون ".. تذكرتُ علياً الذي يحب هذه الأغنية، ومن أجله أسمعها الآن.. مسكين لم يكن يعلم أنّ له نصيباً منها، وأنه مَعْني بها بشكل ما، مادامت كلمات القصيدة على مقاسه.
كان علي من عشاق الراحل محمد الحياني، يوم استمعنا معاً لأغنية بارد وسخون، قال لي مشاكساً:
"البرودة والسخونية تحماوْ عْليّ بْجوجْ"، ولن أـرضى بأي امرأة زوجة لي إلا إذا كانت وسطاً بينهما ".
وزوجته الهاربة، بخلاف ما توقع منها، لم تكن له نسمة هواء باردة في حرارته، ولا وسادة دفء لبحر برودته، وبدل هذه الوسطية، كانت حازمة، وصارمة.. لم تمهله، تقيأته نفسُها، تركته كالمجذوم، لأنه ليس بارداً ولا حاراً.
علي فَقَد زوجته، وأنا ضيعتُ نفسي حين فقدتُ علياً.

-3-
وحدها المسلسلات تترك أثرها في البيت بحوار يــنـــــداح في الزوايا عن الحب، واللقاء، و(...)، تقبع أمام التلفزة كالمومياء، لا تفوت صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصتها، تُشاهد وتستمتع.
رضيعها المسكين الذي لا يكف عن الصراخ، لا تهيئ له رضاعته إلا مع الفاصل الإشهــــاري، وحين عاد الزوج منهكاً من عمله، جائعاً، ألفـــى المطبخ بـــارداً.
قــالت له :
"عدت مُبكراً، الغداء لم يجهز بعــــد".
ازداد صراخ الرضيع حين سطا الزوج على رضاعته، شرب حليبه، ثم صفق الباب وخرج حاراً كما الوجبة التي لم تطبخ.
في اليوم الموالي الزوجة المسلسلاتية، لم تجد لا الرضيع، ولا رضاعته، كان الزوج قد غادر، ترك رسالته:
" الولد معـــي، سنبحث معاً عــمن يرضعــــنا ".

-4-
أيها الثكالى،
أيها الدامعون في الأصباح والليالي،
أيها المخدوعون، مثلي،
ويا أيها المنتظرون فقيداً،
خرج ولم يعد،
أنا مثلكم..
أنتظر كما تنتظرون،
أقف على الرأس
وأدور على الذات
في انتظار الشمس
أنضج في جليد الذكريات
أنتظر الحبيب الذي هرب
والذي غدر،
والذي هجر،
والذي قهر،
...
أيها الثكالى،
لكم أن تحلموا،
وتنتظروا
خذوا الحكمة عني،
الانتظار صابون القلوب.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟