اعتادت أمي زهيرو أن تكنس باحة الفيلا كل صباح. تتخلص من أوراق الشجر اليابسة، ثم تلقي بالمقشة جانبا وتسرع الخطى نحو المخبزة قبل وصول الأجواد. لم تكن لي معها قصة بالتحديد، سوى أني توليت مراقبة الشارع ظهر كل سبت. حتى إذا لمحت سيارة النصراني، هرولت مسرعا إلى السوق المركزي لإخبارها.
الطبيعة تكره الفراغ، وكذلك أمي زهيرو. يمتد شغلها الإضافي من الزوال حتى آذان العشاء. تحصي الدريهمات، ثم تحمل أقراص الخبز إلى محل وجبات سريعة. تفاوض حول السعر بإلحاح من يصر على العيش لسنوات عديدة. قدّرت السن بالثمانين أو يزيد، لكنها، رغم انحناء الظهر وضعف السمع والبصر، تحمل على أكتافها شموخا يليق بالمحارب.
-جاء النصراني؟
- نعم!
الاِستجابة – قصة: نجيب الخالدي
كلما تزايد ضيقها تقيدت حركته أكثر أو تكاد تُشلّ، حتى سماء التحليق ضاقت رحابتها بعد أن تقلص المكان وحتى الزمان. لا يرى أي صورة مماثلة تكشف حقيقته الآن، غير تلك التي يظهر فيها قابعا في جوف كرسي بعجلتين لامعتين تقتضيان طاقة لتحريكهما. طاقة مفقودة يعني حركة مفقودة تلزمه المكوث في الدائرة حتى آخر نفس متصاعد، لكن لمسة بخفة ريشة قد تقفز به خارج حدود هذه الدائرة التي أفاق من شبه غفوة ليدرك أنه في بطنها. حلمه نافذة، وفي أقصى تقتير كوّة يتسلل منها هواء يمنحه بعض الطاقة وأملا ولو ضئيلا في استنشاق حياة جديدة.
الحركة دائبة والعيون التي لا تبرح المرور بجانبه عمياء لا تلتفت إليه أو قل لا تراه، هي مبصرة في الحقيقة، تحدّق في كل الأمكنة والأشياء هنا وهناك، لكن إبصارها يبدو أنه لا يخترق الدائرة، أو ربما يخترقها لكن دون التقاطه، هل أصبح غير مرئي؟ يحاول التململ مرات ومرات لكنه لا يستطيع، فالدائرة ليلة دكناء تخنق نبضه وتكسر كل المحاولات.
هلوسات بعد منتصف الليل – نص: عبد الاله الحلوي
كل البشر رحالة
كل البشر رحالة، فهم يرحلون من العدم إلى الوجود، ويرحلون من العالم إلى ما وراء العالم. وبين هذه الرحلة وتلك يتساءل الإنسان عن ترحاله أكان بيده وبرغبته؟ أكانت رحلته غاية أم غواية؟ وبين الرحلة الأولى والأخيرة، نعيش ما لا نهاية من الترحال المونادولوجي (الذاتي)، والزمكاني. أحيانا، يكون أهم رحيل في حياتنا عندما نرحل فقط دون أن نرحل، عندما نرحل بكل شيء وفي كل شيء، دون مراوحة مكاننا، الترحال عذابات و أشواق، أفراح اٌجلة و عاجلة، قد يكون خلاصنا هو أن نرحل فقط، ليس المهم إلى أين.
أوهام السيادة
الإنسان كائن غريب، يمنح وجوده معنى لا يفهمه، معنى السيادة والإحساس بالتفوق، يقول لنفسه: " أنا سيد كل الموجودات " يتنفس أوهام العظمة بشغف، سمى نفسه " حيوان عاقل " مدعيا أن جهازه العصبي متفوق وليس كمثله شيء، متناسيا أنه كتلة من المتناقضات الأبدية، جعلته كائنا يخاف من ضياع المعنى الذي أمن به في حياته. نعم الإنسان سيد، لكن سيد ماذا؟
التشظي – قصة: الحسين لحفاوي
عج المقهى بالرواد وغطى دخان السجائر الوجوه الكالحة المتحفزة التي هدها التعب والإرهاق وأعيتها الحركة الدائمة، فقد بحّت الأصوات وتشققت الحناجر من الصراخ الذي لم ينقطع طوال اليوم، الكل قدم إلى هذا المقهى ليريح النفس مما كابدته وليلتقي بالأحباب، ففي مثل هذه الأمكنة يبقى العالم في الخارج وتبقى ضغوط الحياة في الخارج، فتتعالى القهقهات وتطيب الجلسات بالأحاديث الحلوة المؤنسة، وخلال هذه الأوقات تتجدد خلايا النشاط ليستقبل الكل يوما جديدا لا مجال فيه للخمول والسكينة.
وقف نزار في باب المقهى يتفرس الوجوه، فقد خاب ظنه، إذ لم ير أحدا من الذين كانوا يجوبون الأزقة بسيارات الجيب العسكرية، يلهبون أجساد المتظاهرين بالعصي والهراوات غير آبهين بالدماء المثناثرة والتي غطت الوجوه وصبغت الملابس بلونها الأحمر القاني، تقودهم عيون مبثوثة بين الصفوف فتنبئهم عن المخابئ السرية وعن مراكز القيادة وجهات الدعم. كان يوما مجنونا، وبلغ الإصرار أقصاه، فلا المتظاهرين قبلوا بالتراجع ولا رجال البوليس رضوا بالانسحاب، كانت معركة عنيفة، وعندما احتدم الموقف، لعلع الرصاص وغطى دخان القنابل المسيلة للدموع الممتزج بالدخان المتصاعد من العجلات المطاطية سماء المدينة، تناثرت الأجساد بين مغمى عليها وجريح، وعلا الصراخ بين نائحة فقدت إلفها وبين شاتم وساب في الذين تسببوا في ما حدث، عفّرت الوجوه بالتراب، ناب صوت الرصاص عن الكلام، فلا أحد يجيبك عما حل بالمدينة سوى الهراوات وعلب الغاز الموقعة باللونين الأبيض والأزرق.
قُرّة عين – قصة: حميد بن خيبش
احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.
- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.
شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.
شاعر وقطة – قصة: حميد بن خيبش
لم يكن في الجوار غيرها ليخدش الباب في ساعة متأخرة. يبدو أن المطر داهمها في كرتون زيت تبرع به الجار لإيوائها. رقة هذا الكائن تأسر سكان العمارة، لكن صغارهم لا يهتمون بالفرق بين دمية وقطة. آثار السلك الذي ربطها به أنذال صغار بادية على رقبتها. تموء وهي تتمسح بسروال نومه. لعلها جائعة!
سارع إلى المطبخ بحثا عما تبقى من سندويتشات الغذاء. معذرة يا صغيرتي، فالحرم المصون غاضبة في بيت العائلة. الشقة برأيها أضيق من كرتونك، ولا تليق بشاعر رأسماله في الحقيقة كومة أحاسيس، ونسخ أعماله الملقاة في أرجاء الغرفة.
هل يليق بشاعر مثلك أن تحاصره امرأة في زوايا أربع من الطوب والإسمنت؟ قدرك أن تتفجر دفئا ورقة لتذيب صقيع الحياة. هكذا أنتم أيها الشعراء! ثم انصرفوا إلى حيواتهم يديرونها بخبث ومكابرة، غير عابئين بسطوره الممددة على صفحات الجرائد.
شاعر.. ثم ماذا؟
الزّردة – قصة: حميد بن خيبش
تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.
ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!
لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.
عربة النعناع – قصة: أمينة شرادي
خرج "بَّا إبراهيم" في ذلك الصباح البارد الذي كان ينذر بجو قارس يستوطن كل أرجاء المدينة. يجر عربته الكئيبة وراءه، يضع على رأسه طاقية تشكو الفقر والحاجة، باهتة تحميه من لسعات البرد. يتقدم بصعوبة وهو يجر العربة ويقف ليستريح كأنه جرى أميالا. ضعيف البنية التي أكلها الزمن وحولها الى جسد شبح. برجليه حذاء كبير الحجم وثقيل، ربما كان صدقة من أحد أو وجده مرميا على الطريق. تسمع خطواته عن بعد.
" بَّا إبراهيم" رجل مسالم وقنوع وطيب جدا، حتى إنه يمكنه أن يبيعك النعناع دون أن يطالبك بالمقابل. لا يعير اهتماما لتقلبات الجو، كأنه يتحدى بجسده الهزيل سخرية الطبيعة منه. يخاف كثيرا عندما يرى "المقدم" قادما نحوه، يعرق ويلتفت يمنة ويسارا كأنه يستنجد بأحد. يقول له المقدم "كم مرة قلت لك، لا تغير مكانك". يحني رأسه ويستعطفه ألا يأخذ منه عربته التي هي مصدر رزقه. يهدده أنه في المرة القادمة لن يتراجع عن قراره.