تناولت العشاءَ مما تيسر من الطعام، فلعِبَ الدسم بالدماغ، وتدلّت جفناي وتراختْ عضلاتي ، ولم أطق الجلوسَ ولو لمدة قصيرة أمام التلفاز؛ فهبَبْت إلى سريري، لأخلد للنوم.. مرت دقائق وأنا أحلق بين كهوف الظلام المطنب، كانت عيناي تقتحمان بوابةَ الذكريات، تستدعي الكئيبَ منها والسارَ، تارة أبتسم وأخرى أقطب، أستعطف الكرى، ليرحل بي بين مفازات الكون في نومة هادئة وغير مزعجة... رأيت ما رأيت وأنا أغط في نومي والعهدة عليّ، أرتدي لباسا أبيض، قاصدة بيت الرسول في طريق طويل عريض، يتوسط حقلا زراعيا أخضرَ شاهقَ السنابل ، والنسيمُ العليل يراقص خصلاتي.. اقتربت من بنايات قديمة أغلبَ ببوتِها هشٌّ وغيرُ مطليِّ، فسألت شخصا عن الطريق الذي يفضي إلى قبر الرسول، فرد قائلا ارفعي عينيك وانظري هناك ، فتراءت لي قبة خضراء دائرية السطح، متجاوزةُ البنايات علُوّا، ابتسمت وشكرت الرجل بعظيم الامتنان، وتابعت السير والفرحة لا تسعني، نزلت مِرقاتيْن من بين البنايات المتراصة حولي، ودخلت قبر الرسول، فقابلتني امرأة وقورةٌ واقفة تُسنِد ظهرها إلى الحائط، تبادلنا التحية بتقدير واحترام، دون أي حوار أو استفسار، فأشارت بسبابتها قائلة:
ـــ تفضلي فهذان الثوبان لك ..
كان واحد أصفرَ والآخر بنفسجيا، مرصعان بنفس الطريقة بأشياء تبهر العين ببريقها، وضعت الثوبين تحت إبطي وخرجت شاكرة السيدة، غادرت القبة وأنا كلي انشراح، تراقصني الغبطة بلا حدود، والبهجة تعلوني، أدحرج سُحنتي بين الأزقة الضيقة، أبحث عن مخرج للعودة... لاح لي من بعيد منفذٌ يتسلل منه بصيص ضوء، توجهت إليه... فكان ذاك الضوء مجردَ أناملِ الشمس الذهبيةِ تقتحم نافذة غرفتي دون استئذان، لتحط عصافيرَ على وجنتَيَّ، وبلمسة رقيقة دغدغتني في لطف، فتحت عيني، وأنا في نشوة لا تقاوم... فقلت اللهم اجعلْ هذا الحلم واقعيا في المقبل ...