مع دخول ليلةٍ من ليالى الشتاءسالتْ الأجواءُ برداً وقرّاً, أرادتْ السماءُ أن تعاقبَ قريتنا المسكينة وأهلها الذين يسكنون بيوتاً من الطين, فصبتْ جام غضبها مطراً واصل ليله نهاره, فكست ثوباً منقوشاً بالوحل, وكان هم الجميع موضعاً لجسده ولو واقفاً يقضى فيه سواد ليله.
قطع صوت أمى طرقاتِ المطر فى أوانى قديمة نجمعها لنقذفَ بها من طين إلى طين, وراحتْ تستجدى ولدا بارا ...أتستطع أن تسير إلى المدينة لتحضرعقد قران ابن فلان الغنى؟ إن له علينا يداً, فأشفقتُ على نفسى الذهاب وأومأتُ إليها موافقا, فبيتُ الفقير تحت المطرليس بأحسن حالٍ من الشارع.
ارتديت ُ أحسن ما عندى من ثياب رثة تفضح قلة ذات اليد لمن لا يعرفنى, لففت أكياس بلاستيك حول أقدامى حتى لا يدخل الطين من ثقوبٍ على أرجاء حذائى, ظلام الشارع يوحى بأن السماءَ أطبقتْ على الارض, فلا أمل لشعاع نورتسيرعلى هديه, أغلقتْ معظم الحوانيت أبوابها, القليل منها مفتوح نصف فتحة لمن يبتاع شمعة أو كبريتاً أو لتراً من الجاز.
نور خافت يريك مقعدك بالكاد سرعان ما يختفى عند السير, ثمة كرسىٌّ على يسارى ينتظرُ صاحبه, تركته لأكون بعيداً عن لهب زجاجه المتقرح, تمتمتُ على حافظة نقودى, انتبهت على باب السيارة يأبى أن يُغلق عقب دخول سيدة تتعثر فى طفلها, مقوسة الظهر حتى تصل إلى مقعدها, سكنت بجوارى محيية بلسان غير مبين, أخرسنى صوتها فلم أُجب, وشعرت أن قلبى قد فارق موضعه, وروحى هوتْ فى مكان سحيق, إنها....شهدُ...ملكة الفؤاد ...لم تقو سنواتٌ مضتْ هى عمرغربتى وزواجها أن تخرجها منه, أو تزحزحها ولو قليلا لغيرها, كان الودُّ عقد بين قلبينا عقداً لا يحله إلا ريب المنون, وكانت كلُّ لذةِ الحياة فى جوارها, والفوزبظلِّ ابتسامة منها منتهى أملى, تناثرتْ الذكرياتُ من كيانى مرة واحدة كمرآة ٍقُذفتْ بحجرٍفتناثرتْ الصورة إلى أشلاءَ جمةٍ, أما هى فجلستْ بجوارالنافذة وحبكت جلبابها حول جيدها الوجل, قرفصتْ للحظاتٍ يقيدها حنينُ شوق ٍ بخوفٍ, اتقتْ لهبَ الشُّباكِ بظهرها, وتركتْ الصغيريجلس على فخذها ملاصقا لىَّ, أحاطته بذراعها وأسندته إلى صدرها, تفحصت جسده ...ملابسه, أفاقتْ تمتمتْ بكلمات لوليدها أنا بخير, وأنت يا أحمد أخبارك أيه؟
أُسقط فى يدى ...أهٍ لم تنس وعدها, واختارتْ اسمى لوليدها, لمحت ُ انتحابَ دموعها, أمسكتْ بين أهدابها دمعة مترقرقة أحرقتْ رأسى, وكاد قلبى يذوبُ على عقبها, تمنيتُ أن أمسحها أو تلقفها عينى منها ثانية, ويا عجبا! ضاقتْ الدنيا أن تجمعنا ووسعنا كرسىٌّ فى عربة واحدة, هكذا فى لحظة يصير الغائبُ حاضراً والبعيد قريباً, فأيقنت أن أخلاق الهوى هى هى, مدتْ قدمها فى دامس ظلام لتسلمَ على قدمى ثم سحبتها على عجل وكأنها لا تقصد, أو تتحسس ُ ردة فعلى, فرددتُ التحية بأفضلَ منها, وتمنيتُ أن أداخلها مداخله الحبيب لحبيبه, وأستبثها ذات نفسها وأشاركها همى وأمرها لولا أنى كرهت ُ أن يشعرأحد بما فى قلبينا, وهدأت قليلاً أنفاسنا تردد أنغاماً صامتة مازلت ُ أُحبك, قالتْ نفسى ليت المسافة تطول وتتضاعف, أو تتعطل سيارتنا كعادتها فنبيتُ سوياً فى العراء نبثُّ وجداً فى الصدور متأججاً, ورجوت السماء أن تقسوعلينا, فننعم بحادثةٍ نذهبُ على أثرها لمشفى تضمد جراح قلبين فرق بينهما أنى لم أكن أمتلك من متاع الدنيا ما أكفل به نفسى, عاجز مستضعفٌ لا سبيل من سبل الرزق يعرفنى, ولا يسمع لطرقى أبوابه الثمانية, وأنى لى أن أصارع من جاء من خِليج ببعض براميل نفط ٍيغتال بها حلمينا فى لحظة قاسية؟ وتساءلتُ: ما ليد السائق لا تتلاعب بمقود السيارة فتتداخل الأجساد لتسلم وتعانق على غير قصد, يبدو أن وحل الطريق وبرده جعله يسير الهوينا حذاريا, حركتُ جسدى ببطء ناحيتها, فأحاطتْ وليدها باليسرى وتركتُ العنان ليمناها تحادثنى وتبثنى شوقاً طال سجنه, لمحت فى عينيها نورعاشقة, ولمستُ من جسدها لهباً يَحْرِقُّ, يريد بعضها أن يختبأ فى بعضى, غاصتْ أصابعى فى يدها, تسللتْ يدى اليسرى لتعبثَ ببعض خصلات شعرها على استحياء, أمسكتْ بيدى بقوة على ....؟كمن يريد أكثر, أومأتْ بثغرها الذى يمسك لعاباً ويرشف رضاباً يكادُ ينفلتُ من عقاله, أحسستُ أن الحياة من حولى تتنفس صدى قبلاتٍ حان قطفها,
وأنى مقبل ٌعلى بعض أغلاطى, ضغطُ يدها يزيد...يزيد....المسافة بين ثغرينا تتضاءل, وهج الأنفاس يتداخل, ولسان القبلة يوشك أن يمتد فيأتى علينا, وحين هممتُ بتقبيلها هزتنى يد زوجتى قائلة: منادى الفجر يقول..حى على الفلاح.....فحوقلتُ....
ولا أدرى أملبيا أم على ....؟