"المرأة ترياق لكل سم"...ردد هذه الكلمات وهو يسير في الشارع الطويل الذي لا ينتهي، تزكم أنفه تلك الروائح الكريهة المنبعثة من المجاري المتعفنة والبالوعات المتناثرة على حافتي الطريق. تناسى كل ذلك وراح يدندن بأغنية قديمة حفظها زمن الصبا. سار وهو يسابق خياله ويتلهى بمحاولة دوسه، وكان ينجح في ذلك كلما تجاوز عمود من الأعمدة الكهربائية الواقفة في حياد أشبه ما تكون بحراس يراقبون الغادين والرائحين، تكشف هوياتهم بضوئها الأبيض الساطع. كان ظله يطول ويقصر حسب بعده أو قربه من إحدى الأعمدة. راقت له لعبة الظل كما سماها وراح يقضم بها الوقت، فالموعد المحدد لوصوله إلى المنزل رقم 9 ما زال أوانه. يريد ألاّ يتقدم وألا يتأخر. هو يحب المواعيد الدقيقة، ويحرص على الدقة في مواعيده، لم يسبق له أن أخلف موعدا أو تأخر عنه. شهد له كل من عرفه بدقته المتناهية، ولم يسبق أن عاتبه أحدهم على تأخره عن موعد يوما، يلغي كل أشغاله للوفاء بالوعود والحضور في المواعيد...هكذا تعود منذ طفولته. ألف ذلك منذ حرم من مشاركة أصدقائه مباراة في كرة القدم ضد أبناء الحي المجاور بسبب تأخره، وظل يلوم نفسه ويعاتبها حتى انتهت المباراة.

وحيدةً كعصفورة جريحة تجلس على طرف رصيفٍ مهترئ... تتجمّع بمحاذاتها كومة أوساخ.. وأكياس بلاستيكية فارغة يتلاعب بها الهواء جيئة وذهابا... نظراتها بطيئة، ناعسة، لا يظهر أنها تركِّز على شيء ما... انكفأت على نفسها كقطعة ثلج باردة، تتجرَّع بؤسها، تتلاشى كما النهايات... تشدُّ ثوبها الفضفاض وتُحكِم ما تشتَّت منه إلى نفسها.. تزيح بأطراف أصابعها بعض خصلات الشعر التي انسدلت فوق جبينها، تضمُّها إلى شعرها نصف المربوط... دمعة جاثمة في عينيها تأبى إلا أن تنزلق... اتَّكأتْ على الحائط الخلفي وأسندتْ رأسها المثقَل على يدها... بدا لها العالم من حولها حقيرا، صغيرا... لا يستحقُّ ذرة اهتمام... تتساءل في سِرِّها بمرارة: أيُّ قدَرٍ الذي قذفني إلى هذا العالم القذر؟ هل الذنب ذنبي؟ هل الذَّنب ذنب أمي؟ أم هو ذنب أبي؟ أم هو ذنبهما معا؟ كيف لهما لم يأبها بمشاعر طفلة صغيرة تأتي إلى الدنيا مُكرهة؟ لماذا لم يفترسني الموت أو المرض؟ لماذا لم أقع ضحيةً مثلما يقع الآخرون ضحايا كل يوم.. ومن ثمَّة أجد نفسي أرقد في أسِرَّة المستشفى... وبعدها إلى نومة هنية في قبري..!

أمسك عصاه التي يتوكَّأُ عليها، وفتح الباب على مصراعيه لينْسَلَّ عبره النور، كأنه طارق بن زياد يفتح الأندلس..!! بدأ يعد الخطى، الأولى تحيي في مخياله ذكرى زمن قد أُقبر... وأخرى تميت ما رسب في ذهنه من دَرَنِ الدهر... !!
كانت الفرقة الموسيقية تضع مُعِداتها على هوامش حارة الدراويش..-يسميها بلغته المتثاقلة حارة الدواويش- يستعدون لإحياء فلكلور ٍطمسه غبار الحداثة...
جلس يشير إليهم بعكازه ويرتبهم على هواه... فقد نصب نفسه شيخًا وهم مُريدوه...بدأ العزفُ عودًا وتلاه أنين نايٍ، ثم دفوفا، وجعل من عصاه آلة تتبع الطبل إن قُرع...
في قراراته نفسه يردد.. هذا القديم ونحن أسياده...

" عُد بي إلى حيث كُنت قبل أن ألتقيك ، ثم ارحل"
محمود درويش
يحدث كثيرا أن يسترق السمع لأصوات الطيور صباحا، حين يصادف أن يؤجل موته المؤقت، وحين يستفزه شيء كان ويحدث بقدرة ذاكرته أن يعود، أن يكون، أن يصير، أن يسافر في الزمن: أن يكتسي لحمه ودمه بعد أن فني وانتهى. يحدث أن يصرخ بأعلى صوته مثل الطيور التي تلاعب بشغب هواء هذا الصباح. يحدث أن تتحول الفكرة الثقيلة إلى جيش نمل مسلح، ليعيث فسادا في طمأنينة عالمه الأزرق المتواتر والهادئ. يحدث أن يكون شاهدا على دماره بنفسه. يرمي بصره في اتجاه الجبل المتوج بالريح: سماء هذا الصباح ضيقة ومراوغة على غير العادة.

"إن حب الأولاد ليس نابعا من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية".
غابريال غارسيا ماركيز.
المسافة بين الحلم والواقع قد لا تتخطى حدود المسافة الفاصلة بين الإغفاءة واليقظة. والوقوف على حافة الذكريات لا يعدو إلا أن يكون وقوفا على شفا هاوية سحيقة لا ترى العين نهايتها.
نزعت أنهار حذاءها بخفة ووضعته تحت المظلة فبدا بكعبه العالي كأنه حارس أمين يحرس بقية أثوابها التي كومتها بعناية فائقة، وقررت أن تسير بمحاذاة البحر حافية القدمين، فهي تحب أن تترك لجسدها بين الحين والآخر أن يتحرر، فتخلصه من سطوة الملابس الضيقة وهيمنتها عليه، وتترك له مساحة من الحرية لا يحدها حد، تتحدى خجلها، ويغيب العالم من حولها، ترى الجميع يحدقون إليها، يخترقون بقية الثوب الذي يستر اليسير من مفاتنها، لكنها لم تكن تحفل بهم. توهم نفسها أن جميع العيون فاقدة القدرة على الإبصار. فجأة يتحول الناس إلى مجموعة من العميان يسيرون حولها على غير هدى. أعينهم مفتوحة لكن لا ترى شيئا. يتناهى إلى سمعها همسهم وأصواتهم ونداءات أجسامهم المترهلة، لكنها لم تكن تصغي سوى لصوت شعرها المبعثر على كتفيها وعنقها، وقد غطت خصلة منه جزءا من نهدها الأيسر النافر الصارخ أنوثة وغواية. لم تلتفت إلى الأيادي التي لوحت لها، ولم تحفل بمن رغب مشاركتها المشي. هي تحب السير وحيدة على الشاطئ، لا تريد من أحد مرافقتها، تخشى منذ فارقها زوجها الاقتراب من الآخرين. تكره هؤلاء الآخرين حد المقت.

أنا الذي تجاوزتُ كل الخطوط المرسومة لي، تجاوزتُ كل خطوط الانطلاق، كنتُ أركض دونما سبب وجيه، أحسبني أطوي المسافات، وأنا ما دريتُ أن الحزن مسافات..  تحاملتُ على نفسي، وأعلنتُ العصيان، لم أكن أملك غير قلبي؛ تذبحه غصص مؤلمة، وانكسارات ملتهبة وتنازلات موجعة.

تتملكني -الآن- رغبة متوحشة لأنْ أعبر كل الصحاري والوهاد والبحار... لأنْ أغرق للأبد... لأنْ أصمت أمام حضرة الفراغ، لأنْ أرمق الحياة بنظرة كره وسخرية، لأنْ أعريَّ كل هذه الآمال الزائفة من ثيابها... لأنْ أشطب كلَّ اللافتات وأحرق كل بقايا النبوءات المتسكعة...

وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضيا سابقا فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.

"إنه قلبي.. البلد الأكثر حسرة"
جيوزيبي أونغاريتي
أنت الذي كنت هناك وربما لا تزال. أنت، نعم أنت. أنت الذي انزلقت مع الفجر وبعض الطيور المهاجرة بعيدا. مررت من هناك، وها أنت الآن تمر من هنا نحو الأفق الذي لا نكاد نراه نحن اللاشيئيون، الأقزام اللذين لا يصلحون سوى لترتيب الذاكرة وكثير من الحزن ووعد بدوي بالبقاء. أي وعد هذا الذي ترمي به بدوية تحمل قمرا قديما يضيء حينا وينام أحيانا كثيرة؟ البدوية التي تحب القمر وتمقته حين يرتاح، و ترمي بخيمتها المزوقة تحت صدريتها الجديدة، كما ترمي الجدات القطع النقدية ؛ بلا مبالاة ومعرفة قديمة بأنها ستنفذ اليوم أو غدا. الوعد الذي ينسى كما قيظ الظهيرة حين تمطر للدرجة التي يضع فيها أهالي القرية كلب حراسة جنب النهر. هوالوعد نفسه الذي يسبق دموعا قليلة مقابل مصلحة التأشير على الجوازات بمطار بعيد وبارد ربما. يحدث كثيرا أن يشبه قيلولتها السريعة في سيارتها السوداء، حين تتنكر لأحاديث البعيدين، وحين يصير نهدين متوسطي الحجم كبطيخ صيف قريتها. وحين تسود الشقة السفلى بدون سابق إنذار.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة