كم كان وجهُكَ وضَّاءا أيُّها الغـُلام !
اِحفر في التراب سَمْـتا ، يُذهب بك إلى عوالمَ جديدةٍ ؛ عوالمُ تعنُّ لك مقاماتـُها البهيّة ؛ شبقيـَّة و قرمزية . لا تبال فإنكَ قطعةٌ من رُخام يُكتب عليه شواهدُ لأسماء موتى ، ذهبوا ولم يعودوا أبدا .
هذه قريتي ... هذه بلدتي ...
بعيدة و ضريحُها أبيضُ ، و شواهدُ قبور ... كلها تعرفني . فعندما دفنا ذات الرِّجل المعقوفة، ذات مساء أغبر ، قرأ الفقيه ما تيسر من القرآن ، ترحُّما على الجسد الطاهر المغسول بالثلج والبرد .
لقد كنتَ ، أيُّها الجسدُ ، ملفوفا في خرقة بيضاءَ رغـَّاءةٍ كزبد البحر ، ومُسجَّى في صحن الدار، تحت عريش ظلة شجرة الكليبتوس الفارعة . كنتَ مشدودا ، جهة الرأس وعند أخماص الأقدام ، بأليافٍ عهنيّة حريريَّة ، تتأهب لسفر في عتـْمة أبدية . وكان من حولك نفر غارق في بكاء و عويل ولطم خدود . ينتفضون حولك ؛ فتتساقط أوراقهم ، وتتعَجْرد في مهب ريح مالحة ، تسكن خياشيمَ .
في منتصف حكاية العمر ، كانت ذات الرِّجل المعقوفة ، تخرج من تحت الخيمة الوبريّة ذات الفرو القطني ، فتحمل على أكتافها أخياشا من التبن و البتـُّولة . تقطع بها مساربَ متعرجةٍ ، صاعدة نجفا في انبساطه العشبي . فكلما لامست رجلاها ندى الأنداء ؛ قـُطيرات مطرية تشبه حبات الكرز ، تتذكر خوار ذات القوائم المحجَّلة بعيونها المَهـَوية الكبيرة الواسعة ، وهي تتلمظ بلسانها الطـّويل الخشن رَواء ماء آيت عبو الحبيبة . تقول على لسانها ، وهي تنظر إلى الماء المترقرق الزُلال :
ـ كنتُ آخرَ عنقود عنب ، أكله العـُقاب الكاسر . سُلالة عمرت لما يزيد عن مائتي عام بين ضريح سيدي أحمد البوهالي ، المعلق في السَّماء كتميمة بيضاء ، ومقبرة سيدي أحمد التفاوتي ؛ التي لا تكف عن ملء حفرها بأجداث رجال صدقوا ما عاهدوا به أنفسهم .
ـ كنت أحملُ فانوسا عندما يَجن الظلام ، ويرخي الليل سدوله المعـْتمة على البيوت الواطئة وعلى الناس في بلدتي ... أنزل درجا طينيا ، وفي يدي إرْدبَ شعير ؛ كي أنصتَ إلى سمفونيَّة قضم في مباءة غوراءَ في قلب هذه الأرض السخية . لقد كانت بالأمس القريب مَدْفنة لجند غزاة ؛ رُفات عظام نخرها السُّوس ، فأصبحت ملساءَ كقطعة من رخام أبيضَ ، وهي تشهد على استبسال شرس لم يهدأ له عرين .
آيت عبو الحبيبة ...
إن في القلب غصة و حسرة و ألم ، ومتاهات و أحلام مكسرة ، وشظايا مرايا هي الأخرى منكسرة ، لا تعكس سوى وجوها ندباءَ ، منحوتة بأظافر الموتى و الشهداء . فكلما يممت وجهي شطر الشمال ، أحس بالغربة والشوق و الحنين ، لجدي الأكبر الذي يتمسح بترابك المسحوق كالطحين . ويغرف بيديه الراعشتين رَوَاء ماء ، لطالما سال في العروق كالدم القاني . إن في هذا الجسد الغضّ الطـّاهر حيوات انكتبت لما سيأتي من الزمن الآفل نجمُه منذ الأزل . وعلى هذه الأتان الشهباء كان الجد الأكبر يسافر من أجل بيع و شراء ؛ عناقيدُ عنب ملفوفة في أوراق خشنة الملمس تشبه راحة اليد ، تتدلى من عيون دقيقة لأخياش ، كانت تستعمل في تلفيف البنادق والبارود .
أيها الرَّاقدون ؛ أنتم السَّابقون و نحن اللاحقون ...
كان اللعابُ ، يسيل بفيض و غزارة ، من فم أثرمَ . وبأصابعَ عجْـراءَ مشقوقةٍ ، كان الجد يحث الأتان على المشي السريع ، حتى لا تدركه أطياف الظهيرة بعطرها السَّاخن ، عائدا كما تعود أسراب الطيور المهاجرة إلى وُكـُنَاتها ، ويمضي نحو الزمن العابر الغابر ... في قرية دفنت الموتى و الشهداء في ليلة قمراءَ ، برفقة البارود و الظلال و عرائش الكروم .