تتمنى الزواج مثل بقية مخلوقات الله كلها ، الزمن يتدفق مسرعا ليزيد عنوستها عنوسة ، فلم يطرق بابها عريس واحد يطلب يدها في أي يوم منذ وفاة والدها قبل ثلاث سنوات و نيف .. متوسطة الطول أقرب إلى السمرة منها إلى البياض ، جسمها منسق بإتقان فائق وملفوف كعود قصب السكر، لها وجه مشرق بض منحوت نحتا جميلا .. شعر كستنائي ناعم معقوص من الخلف .. أنفها ناعم منمنم ظريف .. البيت صغير مرتب و نظيف ، جدرانه مطلية بلون أبيض لامع براق .
و قفت أمام النافذة منفذها الوحيد إلى العالم الخارجي المزدحم بالرجال .. رجال لا تعرف عنهم شيئا لكنها متشوقة لهم و تواقة لمعرفة عالمهم و الظفر بواحد منهم كزوج لها حتى لو كان أبله أو بنصف عقل ، في الوقت نفسه تخشاهم و تهابهم ، قلبها نصفان في صدرها نصف يحب وآخر يخاف ، الرجل هو خصمها المحبوب اللذيذ المخيف ، هذا ما ورثته عن أبيها ‘ لكن الظفر بوحش مفترس كاسر أفضل إليها من عنوسة تقتل جسدها و تزهق روحها في كل ساعة ألف مرة ، كأن العنوسة موت من نوع آخر حي يتنفس يأكل و يمشي .. اعتمدت بكوعيها على حافة الشباك و ضمت كفيها إلى بعضهما واضعة ذقنها بينهما و قد التفا حول وجهها و أخذت ترنو ببصرها إلى بقايا قمر على شكل شريحة بطيخ تحيطه السماء و تحتضنه في صفحة الأفق .. فبدا كأنه رضيع في حجر أمه مما فتح شهيتها للأمومة و النوم في حضن رجل على سنة الله ورسوله .. ندت عنها تنهيدة طويلة عميقة محروقة محرومة كأنها بخار دمها الآخذ بالغليان منذ سنين .. أتبعتها بآهات متعددة قصيرة مبعثرة كشظايا ملتهبة للنهدة الأولى القوية العميقة الممطوطة الساخنة .
حدقت في الرجال السائرين في الشارع و تمنت لو بإمكانها أن تمد يديها من النافذة لتخطف أحدهم خلسة و تتخذه عريسا بالحلال ، لا يأخذ الإنسان سوى نصيبه في هذي الدنيا المشاكسة للاماني في الكثير من الأحيان .
آوت إلى فراشها ككتلة لحم ساخنة هسيسها أنفاس حارة تلفظها حمما بين ضلوع تحترق .. حدقت في صورة والدها الذي رفض تزويجها في يوم ما عندما كانت في أوج سن الزواج .. لكنه مات والميت لا تجوز عليه إلا الرحمة ، كان يرفض كل عريس يتقدم إليها لأنه يجد فيه علة لا تعجبه أو صفة لا تروق له أو طبع يخالف مزاجه .. كان له طبع حاد وخلق ضيق و مزاج صعب .. مات أبوها و تركها غارقة في مستنقع العنوسة الموحش الرهيب ، بل لم يتقدم أحد إليها أبدا .. ظلت تحدق في الصورة حتى نامت و صدرها يهتز بانتظام ليتذبذب على دبيب أقدام الرجال في الشارع .. بقيت بقايا قمر بعيد يجلس بتيه وهدوء في صفحة الأفق المعتم .
استيقظت متأخرة في الصباح على غير المألوف .. غسلت وجهها و تناولت طعام الإفطار بنفس مسدودة عن الطعام و أي شيء في الدنيا .. نفسها تهفو على عريس و لا شيء غيره يفتح شهيتها و يعدل مزاجها و يعيد إليها بهجة الحياة و حبورها.. وقفت أمام المرآة تنظر إلى وجهها و قد قارب الأربعون عاما و ما زال يحتفظ بنضارة و طراوة لا بد أن يفقدها مع تعاقب السنين التي تمر مسرعة دون أن تحسب حساب لأحد من البشر .. هو الزمن الذي يغير كل شيء ولا يدرك أن العانس ترغب بإيقافه كي تحافظ على شبابها و جمالها و تظفر بعريس .. صارت تتمنى أن يعود بها العمر قليلا إلى الوراء لكن الزمن يشق طريقه باتجاه واحد إلى الأمام لا يغير مساره أحد و يأخذ الدنيا التبدل في كل الاتجاهات .. تحدق في جسمها اليانع الرائع البض و تقول بأسف : يا خسارة على كل هذا الجمال الرائع الذي يخفت ضوءه وسطوعه و يفقد رونقه و انسجامه مع مرور السنين ..أمها تخفف عنها مصابها قائلة : الصبر مفتاح الفرج ، كل شيء قسمة ونصيب ، تأخذ أمها بالدعاء لها عسى أن تسفر دعواتها عما يريح قلب ابنتها و يهدئ سرها بابن الحلال .. تبدأ الفتاة في وضع الماكياج والمساحيق كي تعيد لبشرتها جمالها الأول عندما كانت في مقتبل الشباب وقتما كعبت و تكور في صدرها نهدين شبقيين كأرنبين صغيرين شقيين ، نفثت آهة طويلة ممدودة لتكتم بها ما يختلج و يعتمل في صدرها من ضيق و هم و حرقة .. يغمها قول الناس أنها معقدة ..هذا ما شاع عنها بين سكان الحي رجاله ونسائه .
تقدم لخطبتها رجل عجوز له قدم في الدنيا و قدم في القبر .. باتت تفكر حائرة و قد أضناها السهد و هدها طول السهر و مزقها الأرق .. أتقبل به أم ترفضه ؟ هو أعقد و أصعب سؤال تواجهه في حياتها .. إذا رفضته فمن يضمن لها أن تنال رجلا شابا بدلا عنه فيما بعد ، ربما عجوز في اليد خير من عشرة شباب على الشجرة .. لو قبلت به فهو عجوز دردبيس بالكاد في صدره نفس حي ، و لكن وجود رائحة رجل أفضل من عدمه ، سماع صوت خشن في البيت أفضل من العنوسة ، شتان بين العنوسة والزواج حتى لو بعجوز .. شتان بين شاب يتدفق بالقوة و الحيوية و بين عجوز مهكع على شفا حفرة من الموت .
العجوز بطبعه كان مزواجا في شبابه و بقي محتفظا بطبعه في شيخوخته و هرمه .. لقد تزوج سبع نساء وراء بعض بالتسلسل وطلقهن واحدة بعد الأخرى بنفس التسلسل ، ستكون هي الزوجة الثامنة لرجل تم استهلاكه منذ زمن ولم يبق به من الرجولة سوى شارب أبيض مبروم من طرفيه و معقوف بدقة فائقة ، تصوم وتفطر على عجوز .. يا ترى هل سيطلقها إن حصل النصيب و أعطته الضوء الأخضر ؟ ربما لا وقت لذلك لأنه ضعيف و بحاجة إلى من يعتني به .. قد يكون موته أسرع من طلاقه لها .. أمست في حيرة ما بعدها حيرة ، إذا أردت أن تحير أحدا فخيره ، الحيرة قلق يشل الإرادة و يجمد العقل .. القرار مصيري و لا وقت من العمر لديها لتفادي آثار قرار فاحش الخطأ كبير.. قلبها وعقلها كلاهما يصدّ الآخر و ينازعه .
تزوجته على الرغم أن الناس بدأت تتكلم و تعيد في سيرتها وتزيد ، لكن كلامهم أخف وطأة على قلبها من العنوسة القاتلة للنفس و الروح والجسد .. تم الزواج بلا أي مظاهر فرح أو عرس سوى بعض الزغاريد التي صدحت ولعلعت بها أمها ليلة الدخلة .. ها هي ذي أصبحت مع عريسها العجوز في بيت واحد مغلق عليهما بالترباس و لا احد يراهما أو ينغص عليهما ليلة العمر المشتهاة المنتظرة منذ سنين ثقيلة طويلة مريرة .
الليلة ليلة الدخلة .. ليلة العمر .. أخذ العجوز يسعل بشدة سعلات حادة طويلة متلاحقة و كأنه يلفظ شيئا من أحشائه .. ارتمى على كنبة طويلة ولم يكمل خلع ملابسه الرسمية ، طلب منها أن تناوله دواء السعال من البوفيه في الصالون ثم سف حبة دواء آخر ، انتزع طقم أسنانه من فمه و وضعه في علبة صغيرة بيضاء مملوءة بمادة معقمة ناولتها له .. طلب منها تأجيل الدخلة إلى الغد لأنه مرهق وتعب و قد خارت قواه ، ملأ وجهها الخجل و لاح منه الحياء .. ولتخفيف أثر التأجيل على نفسه و نفسها قرصها من خصرها بخفة و هو يضحك و يسعل و قد جحظت عيناه و كادتا أن تقفزا من مكانهما ، طلب منها أن تحمله وتضعه على السرير في غرفة النوم .. غرق هو في النوم على حين أخذت تشاهد التلفاز.. قلبها يتمزق غيظا و قد لفها الغم وطف على نفسها المكروبة في لحظات تمر ببطء و كأن الزمن قد توقف .. ولما ملت وقفت أمام النافذة تنظر إلى حركة الرجال في الشارع و الهلال في مكانه يدغدغ خاصرة السماء المتلألئة بنجوم متناثرة براقة .
استيقظ العجوز في الصباح .. أخذ ينقر بطرف عكازه البلاط حتى خرج من البيت .. اشترى حبة فياغرا ثم عاد فرحا مبتهجا سعيدا .. لقد فرجت .. بلع حبة الفياغرا و صار ينتظر مفعولها .. هي تنتظر أيضا بلهفة لكنها لا تفصح عن ذلك ، الانتظار صعب وقاس و ممل .. بدأت الفياغرا تمده بالنشاط والقوة والحيوية .. صار قلبه يدق و ينبض و يضخ الدماء في عروقه مثل طلمبة الماء الضخمة .. أسرع يخلع ملابسه بلهفة مجنونة ، و ما أن فك أزرار القميص حتى توقف قلبه عن أي نبض و كتم النفس .. عادت هي إلى النافذة تنظر إلى الرجال في الشارع .. بانتظار نتفة قمر في صفحة الأفق البعيد .. رن جرس الباب .. جاراتها يحملن الهدايا لمباركة زواجها .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.