لم يكن راضياً. ها هي الساعة تقترب من الثامنة، ويكاد اليوم ينتهي، ولم يتجمَّع في علبة الإيراد ما يجلب الرضا. مرَّت عدة أيام على نفس الحال..في الصباح، وهو بطريقه للعمل، يفشل في التقاط أي راكب؛ ليس بسبب ندرة الركَّاب، ولكن لأن اتجاهاتهم تتعارض مع خط سيره من بيته، في (الورديان)، إلي (الحقَّانية)، في ميدان المنشية، حيث يعمل في وظيفة كتابية، تحتِّم عليه التوقيع بقائمة الحضور، قبل الثامنة والنصف؛ وذلك يجعله يتهرَّب من كل راكب يطلب نقله إلى مكان بعيد، ليتوفَّر له الوقت، للبحث عن مكان يوقف فيه السيارة، بعيداً عن احتمال أن تقع عليها عين زميل، فتفشل محاولات الكتمان، وينتشر الأمر في المحكمة كلها. يأتي خوفه من المساءلة القانونية بالمرتبة الثانية، بعد تطيُّره من نظرات الحسد والحقد وألسنة السوء. لم يروا مكابدة السنوات الطوال، منذ خرج من الجيش، بعد الحرب، يحمل في يده رخصة القيادة (درجة أولى)، ويعمل عند أصحاب السيارات، الذين يشتركون – جميعهم – في اتهامهم الدائم للسائقين بعدم الأمانة في توريد (الغلَّة)؛ ولن يصدقوا أنه اشتراها بالتقسيط، ولا يمكن أن يتصوروا القلق المميت الذي يقلب كيانه، وأيام الشهر تزحف إلى نهايتها، دون أن تقترب الجنيهات المقتصدَة من الرقم (300)، قيمة القسط الشهري.
يعلم ويؤمن بأن الله يقسِّم الأرزاق.. وهنا، يجب أن يوجِّه التأنيب إلي نفسه؛ فهو، في حالات كثيرة، كان يركب رأسه، ويصرُّ على أن يحدد خط سيره في شريط الكورنيش، فقط، رافضاً العديد من طلبات التوصيل إلي الأحياء الواقعة في عمق المدينة، أو الضواحي.. السير في شوارع شتاء تلك الأحياء مخاطرة.
وعلى مكتبه في (السراي)، راجع حساباته، ووجد أنه سيُضطرُّ إلى تحويل كل راتبه الحكومي، ليصُبَّ في صندوق القسط الشهري؛ فقرر أن يتوقف لأي إشارة من راكب، ويستجيب لأي طلب.
وها هي الساعة تقترب من الخامسة، وهو راجع من (أبي قير)، يتهادى، وقد خلت الطريق من أي مترجِّل. أعطته السيدة التي أوصلها إلى أبي قير أجراً معقولاً، ولكنه لا يغطِّي خسارة الرجوع خالياً.
عند الاستدارة الحادة في الطريق، بعد الفندق الكبير، أمام سور (حدائق المنتزه)، تهيَّأ له أن رجلاً يطلبه، ملوِّحاً بيده. كان قد تخطَّاه قليلاً. توقف وتراجع إلي حيث يقف. فتح الرجل الباب، ومرق إلي داخل السيارة. لم يسأله عن وجهته، ولم ينطق الرجل. كان يتنفس بعمق، وبصوت مسموع؛ وكان معطف المطر يصدر أصواتاً، وهو يحكُّ كفيه ببعضهما. نظر إليه في المرآة العاكسة. رأى قبَّعةً سوداء على رأسه. فكَّر في أن يكون سائحاً أجنبياً… وفي نفس اللحظة، سمعه يتكلَّم في لغة عربية واضحة :
_ " معذرةً.. نسيت أن أقول مساء الخير.. "
عندها، خاب رجاؤه في ختام طيب، ليوم من الأيام غير المواتية. قال الرجل، وهو يزيل دائرة من غلالة البخار المكثَّف فوق زجاج النافذة :
_" الإسكندرية تغتسل.. لا يكفيها البحر.. تستهويها الأمطار .."
وبدا كأنه يحادث نفسه؛ واستمرَّ يرقب الأمواج العالية، صامتاً.
قطعت السيارة مسافة طويلة، وكان لابد أن يعرف السائق وجهة الراكب :
_" لم تقل لي، سيادتك، إلى أين ؟".
_" إلى كل مكان.. أي مكان بالإسكندرية هو وجهتي.. ".
وصمت قليلاً، ثم عاد يتساءل، في تودد:
_" لعلك لا تكون مللت من وجودي في سيارتك ..".
سارع السائق، متحرِّجاً، ينفي أي شبهة في سؤاله :
_" آسف يا سيدي.. لم أكن أقصد.. تحت أمرك، وفي خدمتك..".
_" لا عليك يا رجل.. إنما قصدت مناوشتك، لأجعلك تبادلني الحديث.. العزلة قاسية، صدِّقني.. وأنا الآن بحاجة إلى رفيق سكندري لأتكلَّم معه.. لا شك أنك سكندري ؟".
_" أباً عن جد.."
_" هذا حسن.. حسن جداً.. من فضلك، توقَّف للحظة..".
تململ السائق قليلاً. مرَّت بباله، خاطفةً، ذكريات مهنية سوداء.. مقابلات السكارى والشواذ والساقطات والمجرمين؛ ولكن الرجل لا يبدو عليه – حتى الآن – أنه من هؤلاء. حديثه غير عادي، وشخصيته لا تزال مبهمة، ولكن سلوكه العام، إلى حد كبير، غير مريب.
توقفت السيارة. نزل الراكب. خلع معطفه، وطرحه فوق المقعد الخلفي؛ ثم فتح الباب الأمامي، وجلس إلى جوار السائق. قال :
_" هنا أحسن.. هيا بنا.. بتمهُّل..!!".
تحرَّكت السيارة، والارتياب يعاود السائق. خطف نظرة إلى الرجل الجالس بجانبه. هل يخفي شيئاً في ملابسه ؟. الملابس عصرية عالية الذوق. لا يمكن أن يكون قاطع طريق بهذه الأناقة. هو - إذن – ليس أكثر من راكب غريب ثرثار.
أخيراً، تحدَّث الراكب، كأنما ليزيل شكوك السائق:
_" والآن، سأخبرك بسرِّي.. أنا هارب من فوج سياحي، يقيم بالفندق الذي رأيتني أقف بالقرب منه..".
_" فوج سياحي ؟!".
_" نعم.. كان المفروض أن نصل إلى الإسكندرية ظهراً.. تعطَّلت السيارة قبل مدخل المدينة، وتأخرنا.. أُلغيت جولتنا في المدينة من البرنامج..و غداً سنطير إلى الأقصر.. هل فهمت ؟!".
_" تقريباً.. أنت تريد تنفيذ الجولة، بمفردك..".
_"عليك نور !.. أنا مصرٌّ عليها.. معظم رفاقي من كبار السن، ولا تهمهم الإسكندرية كثيراً، خصوصاً إذا كانت ممطرة.. أما أنا، فقد تسللت في المطر، حتى وجدتني.. غير معقول أن أحضر إلى الإسكندرية، لأتناول عشائي وأنام !".
وأخذ يردد مقاطع من ألحان شعبية متداخلة.
كان قد تأكَّد، لدى السائق، أن الراكب سائح؛ ولكن.. أي سائح هذا الذي يجيد العربية، ويحفظ أغنيات تتردد في حارات الإسكندرية ؟!. تألَّقت بذهنه فكرة أنه ربما كان أحد دارسي اللغة العربية، ممن يُسمُّون بالمستشرقين. المهم، أنه يحمل صفة سائح، والأهم، أنه يسعى إلى جولة بالمدينة.. وهذا، في النهاية، يُترجم إلى أجر مرتفع، يسهم في إزالة الارتباك من حسابات هذا الشهر المقترب من نهايته.
_" ما رأيك في غنائي ؟ .. مريع .. هه؟!.. على أي حال، دعنا نري ماذا لديك من أشرطة الأغاني ..".
_" لديَّ مجموعة متواضعة.. تحت أمرك.. في (الدرج)، أمام سيادتك ..".
فتح (الدرج)، وراح يتفحَّص الشرائط. أبعد بعض الأسماء، قائلاً أنه لا يعرفها، ثم رفع واحداً بيده، هاتفاً :
_" فوق الشوك ! .. آه.. عبد الحليم.. أهواك !.. صافينى مرَّة ! .. الأغاني الأولى الجميلة.. ألست معي في أن بداياته أكثر جمالاً ؟".
ردَّ السائق، يجامل راكبه المتميِّز :
_" فعلاً.. كان عظيماًً.. الله يرحمه !".
_" نعم.. نعم.. كان عظيماً..".
وضع، بنفسه، الشريط في جهاز الإذاعة، وأخذ يهز رأسه، منتشياً بالأغنية. أوقف الجهاز، واستعاد مقطعاً. بدا، بعد دقائق، فاقد الحماس لأغاني الشريط؛ وكان يلتفت إلي الأضواء والمباني وعلامات الطريق. كان صمته الفجائي غريباً على الجو الذي خلقه، هو ذاته، في السيارة منذ حلَّ بها. نظر السائق إليه. كان شارداً، وملامح وجهه تشي بأفكار حزينة. حسب أن السبب صوت عبد الحليم حافظ الشجي، وكلمات الأغنية الرقيقة المعاتبة في حزن. أخفت السائق صوت الأغنية، فانتبه الراكب، والتفت ينظر إليه. قال السائق :
_" لاحظت أن حليم أثر فيك بشدة..".
قال، في صوت خفيض، كأنما يحادث نفسه:
_" فعلاً.. أنا أسمعه كثيراً، ولديَّ مكتبة أغانٍ كبيرة.. لم أتصوَّر أن تتزاحم الذكريات بهذه الصورة..".
ثم عاد صوته إلى الارتفاع، في محاولة جديدة لكسب ود رفيق جولة المساء :
_" لا بأس .. لا بأس.. لديك سيارة أنيقة نظيفة.. واضح أنك تعتني بها.. ".
_" اشتريتها بالتقسيط.. أمامي سنة لتصبح ملكي !".
ضحك وهو ينطق بالعبارة الشائعة :
_" كل شيئ يهون .. أليس كذلك ؟!".
دقَّ الراكب على الوتر. بادرة طيبة أن يذكر هذه الكلمات المتفائلة؛ وإن كان لا يدري لماذا ضحك وهو يقولها؛ على أي حال، شعر بالامتنان له. قال الراكب، أيضاً :
_" فات الكثير.. والصبر طيب !..".
وأدهشه أن يعود الراكب إلي سلوكه المستغرب، ويقهقه، في غير مجال، مردداً :
_" نعم .. نعم .. الصبر.. الصبر.. يا عطَّارين دلوني !".
مدَّ يده، ولمس إطاراً لصورتين معاً، يضعه السائق أمامه :
_" إنك تضع صوراً في إطار جميل.. هذه لك.. في ملابس العمل ؟!".
_" لا.. هذا رداء الجندية ..".
_" أأنت جندي ؟!".
_"كنت.. هذه صورتي حين كنت مجنَّداً..".
_" آها.. هل كنت تهم بركوب العربة، فعلاً، أم أن اللقطة مصممة هكذا ؟.. إنها لقطة بارعة ..".
ابتسم السائق، سعيداً بذكرياته :
_" كانت عربتي، وكنت أعتزُّ بها، فأحببت أن تجمعنا صورة.. للذكرى !".
فوجئ به يصفق، هاتفاً في انفعال :
_" جميل.. جميل..أحب الوفاء وهذه المشاعر الدافئة.. لا بد أنك شاعر !".
وبالرغم من أنه لم يرتح إلى هذا الانفعال الزائد، لم يملك إلاَّ أن يشكره علي مديحه. عاد الراكب يتساءل :
_"والصورة الثانية.. آه.. لا تقل شيئاً.. دعني أُخمِّن.. لا بد أنها للسيدة والدتك !".
عاد يدق وتراً آخر، اضطرب له صدر السائق :
_" الله يرحمها ..".
تغضَّنت ملامح وجه الراكب، راسمةً للحزن تعبيراً :
_" أوه.. متوفَّاة ؟!.. أنا آسف حقاً..".
_" لا عليك..".
_" لقد أثرتُ أحزانك.. حب الأم قيمة إنسانية عظيمة ..".
وكانت أول مرة يحادثه راكب عن الصورة الحبيبة، ويثير ذكرياته وأشجانه؛ فلم يراجع نفسه ليتساءل إن كان الأمر مناسباً أم لا، بل وجد لسانه يفضي :
_" ماتت حزناً عليَّ وأنا في الأسر..!".
سارع الرجل بلفظة (أوه)، والحزن لا يزال منطبعاً على وجهه؛ لكن الملامح تبدَّلت فجأةً إلى مستطلعة.. سأل :
_" هل قلت الأسر ؟!".
_" نعم.. نعم.. وقعت في الأسر في 73 ..".
تحرَّك الراكب – وقد شدَّه الاكتشاف – واستند بظهره إلى باب العربة، ليواجه السائق :
_" لا بد أنها تجربة مريرة !".
وصل إليه التساؤل، المشبَّع بالفضول، فاستجاب على الفور :
_" كنت أنقل الذخيرة في منطقة بوسط القناة، وكنت راجعاً لأحمل شحنة جديدة، فوجدت دباباتهم تحيط بي .. أسروني وأحرقوا السيارة..".
استغرق الراكب في التفكير، وعاد يستند إلى ظهر المقعد. أخرج علبة سجائره. قدَّم للسائق سيجارة.. اعتذر لأنه لا يدخن. أشعل الرجل سيجارته. أخرج أول سحابة دخان طويلة. قال :
_" الحروب تدمِّر كل شيئ .. السلام نعمة كبيرة..".
قال السائق :
_" لا أحد يحب الحرب ..".
وظلاَّ صامتيْن لمسافة طويلة، حتى وصلت السيارة إلى (محطة الرمل). تخلَّص السائق – - بصعوبة – من شلالات الذكريات، والتفت إلى الراكب، وأخذ ينتقي كلماته، متسائلاً :
_" أنا سعيد بلقائك.. ولكن، نحن الآن بوسط المدينة.. وأنت تعلم أن المتاحف مقفلة في هذا الوقت.. وأنا حائر، ولست أدري أي الأماكن تحب زيارتها.. يحسن أن نحدد وجهتنا الآن ..".
أخفض الراكب رأسه قليلاً، لينظر – عبر السائق - إلى يسار الطريق :
_" فعلاً.. ها هي محطة الرمل.. تغيرت ملامح المكان.. ولكن.. ها هو (سعد زغلول) وفندق سيسيل.. و(تريانو) لا يزال في مكانه.. سمعت أنه تحوَّل إلى بنك..".
أوقف السائق السيارة، انتظاراً للقرار :
_" هل ننعطف إلى محطة الرمل ؟".
_" لآ .. لا .. كنت أود أن نسير في شوارع (الأزاريطة)، و (كامب شيزار) .. ".
_" نمرُّ عليها في طريق العودة ..".
_" فكرة طيبة.. والآن.. لنكمل المسيرة.. إلى عبق ذكريات المكان والوجوه والرائحة.. إلى (الأنفوشي) و(رأس التين).. ليتك تمرَّ بي في كل الشوارع والحارات… أريد أن أمشي في الأزقَّة القديمة، وأشم رائحة السردين المشوي تنبعث من البيوت.. ما رأيك أن نتناول عشاءنا شواءً في محلات الأرصفة ؟! .. كنت أذكر بعض الأسماء.. سنجدها.. هيا بنا ..!!".
هنا، استراح السائق تماماً، لأنه – أخيراً – عرف وجهته بالتحديد. انطلق برفيقه الغريب. أنزل الراكب زجاج النافذة قليلاً، فلما تدفقت إلى وجهه خيوط المطر، سارع يرفعه، مهرِّجاً كطفل. كان يمسح وجهه؛ وكان السائق يفكر في أن هذه الليلة ستحتل المكانة الأولى في سجل الأعاجيب التي قابلها؛ وفكر، كيف يتصرَّف إذا دعاه للعشاء.. ووصل إلى التفكير في قيمة الأجر الذي سيطلبه منه، بنهاية الجولة .. وفجأةً، وجد التساؤل يتحرَّك على لسانه :
_" إنك تعرف المنطقة كأحد أبنائها ..".
قهقه الراكب، وأطفأ السيجارة المنتهية :
_" شيئ عجيب.. أليس كذلك ؟!.. فعلاً.. أنا مولود هنا .. في الإسكندرية !".
_" هكذا خمَّنتُ..".
_" غادرت مصر في العام 56 .. وأنا في العشرين من عمري ..".
_" هجرة ..؟..".
تردد قليلاً، قبل أن يجيب :
_" يمكنك أن تقول ذلك ..".
وضحت الصورة أمام السائق؛ وكان ضرورياً أن تكتمل .. ضرورة وقتية، غذَّاها الفضول والرغبة في سبر غور هذه النوعية الفريدة من الركَّاب.. استمرَّ، لمجرَّد الرغبة في الثرثرة، يسأل :
_" إلي أمريكا ؟". _" لا ..". _" كندا ..؟..". _" لا ..".
_: أوربا ؟..". _" لا ..".
_" إذن .. لابد أنها أستراليا .. ؟..".
ابتسم الراكب ابتسامة عريضة، وقال، في هدوء وببساطة :
_" لكي لا تجهد نفسك .. أنا إسرائيلي !..".
في لحظة خاطفة، استوعب الأمر؛ وتحرَّكت قدماه؛ وصرخت عجلات السيارة، المتوقِّفة قسْراً، تنزلق على الإسفلت المبتل. دارت السيارة نصف دورة، وكادت تصطدم، قبل أن تستقرَّ تماماً، بعامود إنارة، بعد أن صعدت مقدمتها الرصيف الوسط بطريق الكورنيش.
كان الراكب يتساءل مذعورا؛ وكان السائق يفتح الباب بجانبه، ويسرع - في المطر – إلى الباب الآخر، ليفتحه، صامتاً، مكفهر الوجه، مشيراً للراكب أن يغادر السيارة.
ارتفع صوت الراكب، مستنكراً محتجَّاً. ابتلَّ شعر السائق ووجهه وملابسه، تماماً، بالأمطار الغزيرة؛ وكان يرتعش كمحموم؛ وكانت عيناه تبرقان بحدة. امتدَّت يده، وقبضت على كتف الراكب، تشدُّه .. تجليه من مقعده بالسيارة؛ وجذبت يده الباب الخلفي، تفتحه ، وتلتقط المعطف الأسود، وتطرحه في الوحل؛ وكان صوته الصارخ الرافض يدوَّي:
_" غُرْ …!!!".
رجب سعد السيد
وها هي الساعة تقترب من الخامسة، وهو راجع من (أبي قير)، يتهادى، وقد خلت الطريق من أي مترجِّل. أعطته السيدة التي أوصلها إلى أبي قير أجراً معقولاً، ولكنه لا يغطِّي خسارة الرجوع خالياً.
عند الاستدارة الحادة في الطريق، بعد الفندق الكبير، أمام سور (حدائق المنتزه)، تهيَّأ له أن رجلاً يطلبه، ملوِّحاً بيده. كان قد تخطَّاه قليلاً. توقف وتراجع إلي حيث يقف. فتح الرجل الباب، ومرق إلي داخل السيارة. لم يسأله عن وجهته، ولم ينطق الرجل. كان يتنفس بعمق، وبصوت مسموع؛ وكان معطف المطر يصدر أصواتاً، وهو يحكُّ كفيه ببعضهما. نظر إليه في المرآة العاكسة. رأى قبَّعةً سوداء على رأسه. فكَّر في أن يكون سائحاً أجنبياً… وفي نفس اللحظة، سمعه يتكلَّم في لغة عربية واضحة :
_ " معذرةً.. نسيت أن أقول مساء الخير.. "
عندها، خاب رجاؤه في ختام طيب، ليوم من الأيام غير المواتية. قال الرجل، وهو يزيل دائرة من غلالة البخار المكثَّف فوق زجاج النافذة :
_" الإسكندرية تغتسل.. لا يكفيها البحر.. تستهويها الأمطار .."
وبدا كأنه يحادث نفسه؛ واستمرَّ يرقب الأمواج العالية، صامتاً.
قطعت السيارة مسافة طويلة، وكان لابد أن يعرف السائق وجهة الراكب :
_" لم تقل لي، سيادتك، إلى أين ؟".
_" إلى كل مكان.. أي مكان بالإسكندرية هو وجهتي.. ".
وصمت قليلاً، ثم عاد يتساءل، في تودد:
_" لعلك لا تكون مللت من وجودي في سيارتك ..".
سارع السائق، متحرِّجاً، ينفي أي شبهة في سؤاله :
_" آسف يا سيدي.. لم أكن أقصد.. تحت أمرك، وفي خدمتك..".
_" لا عليك يا رجل.. إنما قصدت مناوشتك، لأجعلك تبادلني الحديث.. العزلة قاسية، صدِّقني.. وأنا الآن بحاجة إلى رفيق سكندري لأتكلَّم معه.. لا شك أنك سكندري ؟".
_" أباً عن جد.."
_" هذا حسن.. حسن جداً.. من فضلك، توقَّف للحظة..".
تململ السائق قليلاً. مرَّت بباله، خاطفةً، ذكريات مهنية سوداء.. مقابلات السكارى والشواذ والساقطات والمجرمين؛ ولكن الرجل لا يبدو عليه – حتى الآن – أنه من هؤلاء. حديثه غير عادي، وشخصيته لا تزال مبهمة، ولكن سلوكه العام، إلى حد كبير، غير مريب.
توقفت السيارة. نزل الراكب. خلع معطفه، وطرحه فوق المقعد الخلفي؛ ثم فتح الباب الأمامي، وجلس إلى جوار السائق. قال :
_" هنا أحسن.. هيا بنا.. بتمهُّل..!!".
تحرَّكت السيارة، والارتياب يعاود السائق. خطف نظرة إلى الرجل الجالس بجانبه. هل يخفي شيئاً في ملابسه ؟. الملابس عصرية عالية الذوق. لا يمكن أن يكون قاطع طريق بهذه الأناقة. هو - إذن – ليس أكثر من راكب غريب ثرثار.
أخيراً، تحدَّث الراكب، كأنما ليزيل شكوك السائق:
_" والآن، سأخبرك بسرِّي.. أنا هارب من فوج سياحي، يقيم بالفندق الذي رأيتني أقف بالقرب منه..".
_" فوج سياحي ؟!".
_" نعم.. كان المفروض أن نصل إلى الإسكندرية ظهراً.. تعطَّلت السيارة قبل مدخل المدينة، وتأخرنا.. أُلغيت جولتنا في المدينة من البرنامج..و غداً سنطير إلى الأقصر.. هل فهمت ؟!".
_" تقريباً.. أنت تريد تنفيذ الجولة، بمفردك..".
_"عليك نور !.. أنا مصرٌّ عليها.. معظم رفاقي من كبار السن، ولا تهمهم الإسكندرية كثيراً، خصوصاً إذا كانت ممطرة.. أما أنا، فقد تسللت في المطر، حتى وجدتني.. غير معقول أن أحضر إلى الإسكندرية، لأتناول عشائي وأنام !".
وأخذ يردد مقاطع من ألحان شعبية متداخلة.
كان قد تأكَّد، لدى السائق، أن الراكب سائح؛ ولكن.. أي سائح هذا الذي يجيد العربية، ويحفظ أغنيات تتردد في حارات الإسكندرية ؟!. تألَّقت بذهنه فكرة أنه ربما كان أحد دارسي اللغة العربية، ممن يُسمُّون بالمستشرقين. المهم، أنه يحمل صفة سائح، والأهم، أنه يسعى إلى جولة بالمدينة.. وهذا، في النهاية، يُترجم إلى أجر مرتفع، يسهم في إزالة الارتباك من حسابات هذا الشهر المقترب من نهايته.
_" ما رأيك في غنائي ؟ .. مريع .. هه؟!.. على أي حال، دعنا نري ماذا لديك من أشرطة الأغاني ..".
_" لديَّ مجموعة متواضعة.. تحت أمرك.. في (الدرج)، أمام سيادتك ..".
فتح (الدرج)، وراح يتفحَّص الشرائط. أبعد بعض الأسماء، قائلاً أنه لا يعرفها، ثم رفع واحداً بيده، هاتفاً :
_" فوق الشوك ! .. آه.. عبد الحليم.. أهواك !.. صافينى مرَّة ! .. الأغاني الأولى الجميلة.. ألست معي في أن بداياته أكثر جمالاً ؟".
ردَّ السائق، يجامل راكبه المتميِّز :
_" فعلاً.. كان عظيماًً.. الله يرحمه !".
_" نعم.. نعم.. كان عظيماً..".
وضع، بنفسه، الشريط في جهاز الإذاعة، وأخذ يهز رأسه، منتشياً بالأغنية. أوقف الجهاز، واستعاد مقطعاً. بدا، بعد دقائق، فاقد الحماس لأغاني الشريط؛ وكان يلتفت إلي الأضواء والمباني وعلامات الطريق. كان صمته الفجائي غريباً على الجو الذي خلقه، هو ذاته، في السيارة منذ حلَّ بها. نظر السائق إليه. كان شارداً، وملامح وجهه تشي بأفكار حزينة. حسب أن السبب صوت عبد الحليم حافظ الشجي، وكلمات الأغنية الرقيقة المعاتبة في حزن. أخفت السائق صوت الأغنية، فانتبه الراكب، والتفت ينظر إليه. قال السائق :
_" لاحظت أن حليم أثر فيك بشدة..".
قال، في صوت خفيض، كأنما يحادث نفسه:
_" فعلاً.. أنا أسمعه كثيراً، ولديَّ مكتبة أغانٍ كبيرة.. لم أتصوَّر أن تتزاحم الذكريات بهذه الصورة..".
ثم عاد صوته إلى الارتفاع، في محاولة جديدة لكسب ود رفيق جولة المساء :
_" لا بأس .. لا بأس.. لديك سيارة أنيقة نظيفة.. واضح أنك تعتني بها.. ".
_" اشتريتها بالتقسيط.. أمامي سنة لتصبح ملكي !".
ضحك وهو ينطق بالعبارة الشائعة :
_" كل شيئ يهون .. أليس كذلك ؟!".
دقَّ الراكب على الوتر. بادرة طيبة أن يذكر هذه الكلمات المتفائلة؛ وإن كان لا يدري لماذا ضحك وهو يقولها؛ على أي حال، شعر بالامتنان له. قال الراكب، أيضاً :
_" فات الكثير.. والصبر طيب !..".
وأدهشه أن يعود الراكب إلي سلوكه المستغرب، ويقهقه، في غير مجال، مردداً :
_" نعم .. نعم .. الصبر.. الصبر.. يا عطَّارين دلوني !".
مدَّ يده، ولمس إطاراً لصورتين معاً، يضعه السائق أمامه :
_" إنك تضع صوراً في إطار جميل.. هذه لك.. في ملابس العمل ؟!".
_" لا.. هذا رداء الجندية ..".
_" أأنت جندي ؟!".
_"كنت.. هذه صورتي حين كنت مجنَّداً..".
_" آها.. هل كنت تهم بركوب العربة، فعلاً، أم أن اللقطة مصممة هكذا ؟.. إنها لقطة بارعة ..".
ابتسم السائق، سعيداً بذكرياته :
_" كانت عربتي، وكنت أعتزُّ بها، فأحببت أن تجمعنا صورة.. للذكرى !".
فوجئ به يصفق، هاتفاً في انفعال :
_" جميل.. جميل..أحب الوفاء وهذه المشاعر الدافئة.. لا بد أنك شاعر !".
وبالرغم من أنه لم يرتح إلى هذا الانفعال الزائد، لم يملك إلاَّ أن يشكره علي مديحه. عاد الراكب يتساءل :
_"والصورة الثانية.. آه.. لا تقل شيئاً.. دعني أُخمِّن.. لا بد أنها للسيدة والدتك !".
عاد يدق وتراً آخر، اضطرب له صدر السائق :
_" الله يرحمها ..".
تغضَّنت ملامح وجه الراكب، راسمةً للحزن تعبيراً :
_" أوه.. متوفَّاة ؟!.. أنا آسف حقاً..".
_" لا عليك..".
_" لقد أثرتُ أحزانك.. حب الأم قيمة إنسانية عظيمة ..".
وكانت أول مرة يحادثه راكب عن الصورة الحبيبة، ويثير ذكرياته وأشجانه؛ فلم يراجع نفسه ليتساءل إن كان الأمر مناسباً أم لا، بل وجد لسانه يفضي :
_" ماتت حزناً عليَّ وأنا في الأسر..!".
سارع الرجل بلفظة (أوه)، والحزن لا يزال منطبعاً على وجهه؛ لكن الملامح تبدَّلت فجأةً إلى مستطلعة.. سأل :
_" هل قلت الأسر ؟!".
_" نعم.. نعم.. وقعت في الأسر في 73 ..".
تحرَّك الراكب – وقد شدَّه الاكتشاف – واستند بظهره إلى باب العربة، ليواجه السائق :
_" لا بد أنها تجربة مريرة !".
وصل إليه التساؤل، المشبَّع بالفضول، فاستجاب على الفور :
_" كنت أنقل الذخيرة في منطقة بوسط القناة، وكنت راجعاً لأحمل شحنة جديدة، فوجدت دباباتهم تحيط بي .. أسروني وأحرقوا السيارة..".
استغرق الراكب في التفكير، وعاد يستند إلى ظهر المقعد. أخرج علبة سجائره. قدَّم للسائق سيجارة.. اعتذر لأنه لا يدخن. أشعل الرجل سيجارته. أخرج أول سحابة دخان طويلة. قال :
_" الحروب تدمِّر كل شيئ .. السلام نعمة كبيرة..".
قال السائق :
_" لا أحد يحب الحرب ..".
وظلاَّ صامتيْن لمسافة طويلة، حتى وصلت السيارة إلى (محطة الرمل). تخلَّص السائق – - بصعوبة – من شلالات الذكريات، والتفت إلى الراكب، وأخذ ينتقي كلماته، متسائلاً :
_" أنا سعيد بلقائك.. ولكن، نحن الآن بوسط المدينة.. وأنت تعلم أن المتاحف مقفلة في هذا الوقت.. وأنا حائر، ولست أدري أي الأماكن تحب زيارتها.. يحسن أن نحدد وجهتنا الآن ..".
أخفض الراكب رأسه قليلاً، لينظر – عبر السائق - إلى يسار الطريق :
_" فعلاً.. ها هي محطة الرمل.. تغيرت ملامح المكان.. ولكن.. ها هو (سعد زغلول) وفندق سيسيل.. و(تريانو) لا يزال في مكانه.. سمعت أنه تحوَّل إلى بنك..".
أوقف السائق السيارة، انتظاراً للقرار :
_" هل ننعطف إلى محطة الرمل ؟".
_" لآ .. لا .. كنت أود أن نسير في شوارع (الأزاريطة)، و (كامب شيزار) .. ".
_" نمرُّ عليها في طريق العودة ..".
_" فكرة طيبة.. والآن.. لنكمل المسيرة.. إلى عبق ذكريات المكان والوجوه والرائحة.. إلى (الأنفوشي) و(رأس التين).. ليتك تمرَّ بي في كل الشوارع والحارات… أريد أن أمشي في الأزقَّة القديمة، وأشم رائحة السردين المشوي تنبعث من البيوت.. ما رأيك أن نتناول عشاءنا شواءً في محلات الأرصفة ؟! .. كنت أذكر بعض الأسماء.. سنجدها.. هيا بنا ..!!".
هنا، استراح السائق تماماً، لأنه – أخيراً – عرف وجهته بالتحديد. انطلق برفيقه الغريب. أنزل الراكب زجاج النافذة قليلاً، فلما تدفقت إلى وجهه خيوط المطر، سارع يرفعه، مهرِّجاً كطفل. كان يمسح وجهه؛ وكان السائق يفكر في أن هذه الليلة ستحتل المكانة الأولى في سجل الأعاجيب التي قابلها؛ وفكر، كيف يتصرَّف إذا دعاه للعشاء.. ووصل إلى التفكير في قيمة الأجر الذي سيطلبه منه، بنهاية الجولة .. وفجأةً، وجد التساؤل يتحرَّك على لسانه :
_" إنك تعرف المنطقة كأحد أبنائها ..".
قهقه الراكب، وأطفأ السيجارة المنتهية :
_" شيئ عجيب.. أليس كذلك ؟!.. فعلاً.. أنا مولود هنا .. في الإسكندرية !".
_" هكذا خمَّنتُ..".
_" غادرت مصر في العام 56 .. وأنا في العشرين من عمري ..".
_" هجرة ..؟..".
تردد قليلاً، قبل أن يجيب :
_" يمكنك أن تقول ذلك ..".
وضحت الصورة أمام السائق؛ وكان ضرورياً أن تكتمل .. ضرورة وقتية، غذَّاها الفضول والرغبة في سبر غور هذه النوعية الفريدة من الركَّاب.. استمرَّ، لمجرَّد الرغبة في الثرثرة، يسأل :
_" إلي أمريكا ؟". _" لا ..". _" كندا ..؟..". _" لا ..".
_: أوربا ؟..". _" لا ..".
_" إذن .. لابد أنها أستراليا .. ؟..".
ابتسم الراكب ابتسامة عريضة، وقال، في هدوء وببساطة :
_" لكي لا تجهد نفسك .. أنا إسرائيلي !..".
في لحظة خاطفة، استوعب الأمر؛ وتحرَّكت قدماه؛ وصرخت عجلات السيارة، المتوقِّفة قسْراً، تنزلق على الإسفلت المبتل. دارت السيارة نصف دورة، وكادت تصطدم، قبل أن تستقرَّ تماماً، بعامود إنارة، بعد أن صعدت مقدمتها الرصيف الوسط بطريق الكورنيش.
كان الراكب يتساءل مذعورا؛ وكان السائق يفتح الباب بجانبه، ويسرع - في المطر – إلى الباب الآخر، ليفتحه، صامتاً، مكفهر الوجه، مشيراً للراكب أن يغادر السيارة.
ارتفع صوت الراكب، مستنكراً محتجَّاً. ابتلَّ شعر السائق ووجهه وملابسه، تماماً، بالأمطار الغزيرة؛ وكان يرتعش كمحموم؛ وكانت عيناه تبرقان بحدة. امتدَّت يده، وقبضت على كتف الراكب، تشدُّه .. تجليه من مقعده بالسيارة؛ وجذبت يده الباب الخلفي، تفتحه ، وتلتقط المعطف الأسود، وتطرحه في الوحل؛ وكان صوته الصارخ الرافض يدوَّي:
_" غُرْ …!!!".
رجب سعد السيد