مع أذان العصر، وبعد أن انتهت الأم من نتف ما على وجهها وجسدها الرفيع الأبيض من شعر، وتبقع وجهها بالحمرة التي تخضب بها جسدها، أرسلت الأم طفلها حسان، عمره تسع سنوات، ليشتري لها فلقة صابون من السوق، وأعطته قطع النقود المعدنية المطلوبة بعد أن عدّتها ثلاث مرات وفركتها بين أصابعها مرتين، أعطته ثمنها بالضبط بلا أي زيادة أو نقصان، ورغم ذلك نسيت وطلبت منه أن يعيد لها باقي النقود وأن يمسكها بحرص، ويحكم إغلاق قبضته عليها باستماتة، وإلا ستقصف عمره إذا ضيعها.. وما إن خرج حسان من الباب حتى لحقت به أمه ووقفت عند العتبة كالعادة، مرسلة وراءه قائمة التوصيات الخالدة..
- امش على الرصيف يا حسان.. رح وتعال بسرعة يا بني.. أوع تزوغ هنا أو هناك.. خلي بالك من السيارات.. أوع تتأخر يا حسان.
أغلقت ألام الباب عائدة إلى الداخل.. مشى حسان على الرصيف مسرعا، وهو يضع النقود بين كفيه المغلقين ويخضهما قرب أذنه مستطعما صلصلتها، ثم دس النقود في جيب البنطلون، وأخذ ينقر الجيب بأصابعه الرفيعة فيتناهى إلى مسامعه خشخشتها التي تطربه فيستلذ.. وهو يلبس بنطلونا واسعا فضفاضا، فيحف به الهواء ويهفهف، ولو تمت إعادة تفصيل البنطلون من جديد فسيكفي لتفصيل بنطلون آخر وقميص مبحبح، وقد تزيد قطعة صغيرة تكفي لتفصيل قميص نوم نسائي..لأن البنطلون انتقل إليه من أخيه الأكبر منه بعد أن قصت الأم ذيله وثنته وخيطته قبل أسبوع، بعد صراع طويل مع ثقب الإبرة الضيق وهي تحاول لضمها، حيث انكسرت نظارتها الطبية من شهرين، لمّا سقطت عن التسريحة وهي تلقّط شعر حواجبها وتشذبه بملقط صغير..
أعجب صوت الحفيف المخلوط بالخشخشة حسان وأمتعه، فصار يزيد سرعته مرة فيزيد صوت الحفيف علوا وتتعالى الخشخشة أيضا والرنات، ويبطئ مرة أخرى أو يتوقف تماما ليتوقف الصوت من جديد ويتبدد، كما لو أن الفضاء ابتلع فجأة كل ما حوله من أصوات.. وبينما كان حسان غارقا في تجربته أو لعبته هذه شاهد في وسط الشارع قنينة بيبسي بلاستيكية فارغة، سعة لتر واحد، فتوقف،على الفور توقف.
نظر حسان إلى القنينة باهتمام وغرز بها بصره وأطال الغرز، ثم راح نحوها يقترب منها أكثر فأكثر، وقف على قدمه الأيسر رافعا الأيمن في الهواء وأماله قليلا إلى الوراء، وأدار جسده ربع دورة وخبط القنينة ببوز صندله خبطة قويه.. فطارت في الهواء وهدّت بعد عدّة أمتار، مرتطمة بالأرض محدثة صوتا خشنا شديد الصخب.. وتدحرجت القنينة حتى سكنت بعد أن مصت الأرض كل حركتها.
أخذ حسان يحجل على قدم واحدة مرة ويمشي مرة.. ثم تشقلب على التراب بجانب الطريق عدة شقلبات متتابعة، وتوقف فجأة.. ومشى على يديه عدة خطوات، فانحسر قميصه وسحل فتكوم عند ذقنه، فبان بطنه وبرزت عظام قفصه الصدري شرائح معوّجة متوازية ورفيعة كعيدان العنب الجاف، وفمه مفتوح يلهث كالمحموم، ولو نقلته هكذا في سطل ماء كبير لا بد ستخرج منه بقبقات وقرقرات، نظر حسان حوله ثم مشى وميّل نحو القنينة، وركلها بقدمه مرة أخرى.. ثم جرى إليها، واستمر يركل القنينة ويلاحقها مرات ومرات.
خلع حسان صندله ووضع فردة صندل في جهة، ومقابلها في الجهة الأخرى وضع الفردة الأخرى، وبذلك جهز مرمى للقنينة، بقية أجزاء المرمى مكونة من الهواء النقي الخالص، إلى درجة ما يشبه مرمى كرة القدم الخشبي.. وابتعد حسان عن المرمى عشر خطوات عدّها بالتمام والكمال، ورسم بإصبعه دائرة صغيرة، ثم وضع القنينة في مركز الدائرة، وصار يبتعد عنها ويعاير المرمى بعينيه ثم يهجم على القنينة، يضربها بقوة مسددا بها ضربات جزاء.. أحيانا يحرز أهدافا وأحيانا لا يحرز، وكلما أحرز هدفا ينط في الهواء ملوحا بقبضة يده تلويح المنتصر، ويضحك.. بجد وحزم يضحك.. من أعماق قلبه يضحك.
ثم تخيل حسان وجود لاعبين من فريق آخر ضده، فصار يهجم بالقنينة ويزوغ بها ويراوغ حتى ينفرد بالمرمى ويشوط القنينة بكل عزمه محرزا أهدافا رائعة.. ويعود مبتعدا وهو يجرى مستلذا بطعم كل هدف.
وجد حسان نفسه فجأة بين أطفال الحارة، جلهم أقرانه وأصحابه، لا يعرف كيف جاءوا وتكوموا حوله فجأة كأنهم خرجوا بغتة من جوف الأرض كالعفاريت.. بعضهم حاف وبعضهم بشبشب والقلة منهم بصندل.. صنعوا مرمى آخر، مقابل مرمى حسان ويبعد عنه ما يقارب ثلاثين مترا.. وقسموا أنفسهم إلى فريقين، وراحوا يلعبون ويتبارون.. فامتلأ الفضاء بصرخاتهم الصاخبة، وضحكاتهم الرنانة، وزعقهم المدوي.. كلهم يهجمون مرة واحدة على القنينة في محاولة مستميتة لنيلها والاستئثار بها، أحيانا يدوسون عليها فتنطبق وتنبعج، فينفخون فيها بأفواههم من هواء صدورهم الصغيرة.. وكثيرا ما تنشب الخلافات حول ضربة ما للقنينة نحو المرمى إذا كانت هدفا أم لا.. فالفريق المهاجم يحلف اليمين بالختمة الشريفة أن القنينة مرت كالصاروخ جوّه المرمى عن يسار فردة الصندل.. والفريق الآخر يحلف الأيمان بالكعبة المشرفة أن القنينة مرت بطيئة برّه عن يمين فردة الصندل.. ونشأ اجتهاد ثالث لطفل كان يمر على الرصيف، فلت وملص من يد أمه وجرى نحوهم مؤكدا أن القنينة مرت من فوق فردة الصندل بالضبط، وهذا يشبه الارتطام بالقائم الخشبي للمرمى الحقيقي.. ولكن لم يحفل أحد منهم بهذا الرأي.. ثم وافقوا على الاستمرار في اللعب، واحتسابها هدفا بعد تهديد حسان لهم بأخذ القنينة الفارغة والكف عن اللعب، وهو يصرخ بصوت منفعل حاد كصوت العرسة..
- إنها قنينتي.. أنا وجدتها.. سآخذ القنينة واكف عن اللعب إذا لم تحسب الضربة هدفا.. تأكلونا أوطنه يعني.. هي مسخرة.. هو يعني الغش عينك عينك.
كثيرا ما كانت تتوقف المباراة ليقتلع أحدهم شوكة من باطن قدمه، أو ريثما يتخلص من آلام لحقت بقدمه لحصوة صغيرة داس عليها بقوة.. أو لانتظار مرور سيارة، أو عربة كارو يجرها حمار.. أو لمرور حمار يتبختر بلا عربة.
تعب الأولاد جميعهم، فتوقفوا عن اللعب، وآبوا إلى بيوتهم، إلا حسان جلس وحده على حافة الرصيف يلتقط أنفاسه، ومسح العرق عن وجهه بطرف القميص، ووضع إلى جانبه الصندل، وفي حجره مدد قنينة البيبسي الفارغة يملس عليها بيده .. تملك حسان رغبة البقاء خارج البيت، ليس فقط ليلعب، إنما أيضا ليستريح من طلبات أمه ومشاغلها التي لا تنتهي..
- حسان ناولني اشرب.. حسان أغلق النافذة.. حسان هزّ أخوك الصغير في السرير.. مد يدك وحك لي ظهري يا حسان.
لكن اليوم ينتاب حسان شعور بالفرح، فاليوم موعد زيارة جدته لهم، وكالعادة ستحضر له معها حلوى"براغيت الستات"، أو قطعة علكة بطعم الفراولة أو بطعم الموز، فيبدأ بمص حلاوتها قبل أن يقوم بعلكها.. لذلك هو يحب جدته كثيرا، رغم أنه يحس بقرف نحوها أحيانا حين تخرج من جيب ثوبها الكالح بعض حبات بزر البطيخ المقلي، فتمص بفمها ما عليها من ملوحة، ثم تعطيها له ليقزقزها أو يقرشها، لأن فمها بلا أسنان، سوى سن وحيد يتيم معلق في مقدمة فكها العلوي كلمبة قديمة في بيت عتيق.. فيأخذ حسان حبات البزر ويختفي ليرميها خلسة في الزبالة.
قام حسان بعد أن انتعش جسده الطري وارتاح وهو الذي كان من ساعة فقط يتأود تأودا ويلهث بكل خلاياه.. تابع مسيره إلى السوق وهو يركل القنينة حتى وصل إلى نهاية الشارع، وانعطف إلى شارع آخر يؤدي إلى السوق.. ما إن انعطف حتى وجد إطار دراجة هوائية صغير ملوّح وخرب، سربله الصدأ.. تناول حسان الإطار وثبته بأسلاك قديمة وجدها مرمية وحبال بعمود النور.. وصار يبتعد ويقترب جريا، ويقفز راميا القنينة في الإطار محرزا الأهداف كما في كرة السلة، ويضحك.. كثيرا يضحك. بعد أن سقط الإطار وفلت عن العمود تابع حسان سيره وهو يركل القنينة حتى وصل إلى اقرب دكان في طرف السوق، فتناول القنينة وحشرها تحت إبطه وثبتها.
في صدر الدكان وقع نظر حسان وتسمر على كرات بلاستيكية، سلط عليها نظراته حتى كاد أن يثقبها بمسامير حادة مدببة تنطلق نحوها من عينيه.. ثم زعق..
- عمو.. عمو.. عمو.. كم ثمن الكرة؟
أجاب صاحب الدكان برقم يفوق ما في جيب حسان من نقود بأضعاف عدة.. مدّ حسان يده في جيبه وراح يعسعس حتى اخرج النقود..
- عمو.. طيب.. أعطني فلقة صابون.
رجع حسان وقد آذنت الشمس على المغيب، رجع يركل القنينة الفارغة ويلاحقها حتى وصل إلى البيت.. فور أن دخل البيت صرخت به أمه صرخة قوية هادرة..
- لماذا تأخرت؟
لاذ حسان في ركن قرب الباب، وانكمش حتى كاد أن يتلاشى أو ينقرض، واضعا ذراعا على بطنه وذراعا على جبهة، ورأسه مطأطأ.. وقال بصوت واطئ مرتجف..
- أنا .. أنا لم أتأخر.. ذهبت بسرعة ورجعت بسرعة.
أمسكت أمه بأذنه ولوتها، ثم شدتها وفركتها بغل، واستمرت تلوي وهو يصيح..
- أي أي.. هذه آخر مرة.. خلص.. سأبوس التوبة.. أي أي أي.
دخلت الأم إلى الحمام.. فأمسك حسان القنينة وأخذ يركلها ويحرز الأهداف من خلال باب الغرفة.. واضعا يده على أذنه يتحسسها.
نظر حسان إلى القنينة باهتمام وغرز بها بصره وأطال الغرز، ثم راح نحوها يقترب منها أكثر فأكثر، وقف على قدمه الأيسر رافعا الأيمن في الهواء وأماله قليلا إلى الوراء، وأدار جسده ربع دورة وخبط القنينة ببوز صندله خبطة قويه.. فطارت في الهواء وهدّت بعد عدّة أمتار، مرتطمة بالأرض محدثة صوتا خشنا شديد الصخب.. وتدحرجت القنينة حتى سكنت بعد أن مصت الأرض كل حركتها.
أخذ حسان يحجل على قدم واحدة مرة ويمشي مرة.. ثم تشقلب على التراب بجانب الطريق عدة شقلبات متتابعة، وتوقف فجأة.. ومشى على يديه عدة خطوات، فانحسر قميصه وسحل فتكوم عند ذقنه، فبان بطنه وبرزت عظام قفصه الصدري شرائح معوّجة متوازية ورفيعة كعيدان العنب الجاف، وفمه مفتوح يلهث كالمحموم، ولو نقلته هكذا في سطل ماء كبير لا بد ستخرج منه بقبقات وقرقرات، نظر حسان حوله ثم مشى وميّل نحو القنينة، وركلها بقدمه مرة أخرى.. ثم جرى إليها، واستمر يركل القنينة ويلاحقها مرات ومرات.
خلع حسان صندله ووضع فردة صندل في جهة، ومقابلها في الجهة الأخرى وضع الفردة الأخرى، وبذلك جهز مرمى للقنينة، بقية أجزاء المرمى مكونة من الهواء النقي الخالص، إلى درجة ما يشبه مرمى كرة القدم الخشبي.. وابتعد حسان عن المرمى عشر خطوات عدّها بالتمام والكمال، ورسم بإصبعه دائرة صغيرة، ثم وضع القنينة في مركز الدائرة، وصار يبتعد عنها ويعاير المرمى بعينيه ثم يهجم على القنينة، يضربها بقوة مسددا بها ضربات جزاء.. أحيانا يحرز أهدافا وأحيانا لا يحرز، وكلما أحرز هدفا ينط في الهواء ملوحا بقبضة يده تلويح المنتصر، ويضحك.. بجد وحزم يضحك.. من أعماق قلبه يضحك.
ثم تخيل حسان وجود لاعبين من فريق آخر ضده، فصار يهجم بالقنينة ويزوغ بها ويراوغ حتى ينفرد بالمرمى ويشوط القنينة بكل عزمه محرزا أهدافا رائعة.. ويعود مبتعدا وهو يجرى مستلذا بطعم كل هدف.
وجد حسان نفسه فجأة بين أطفال الحارة، جلهم أقرانه وأصحابه، لا يعرف كيف جاءوا وتكوموا حوله فجأة كأنهم خرجوا بغتة من جوف الأرض كالعفاريت.. بعضهم حاف وبعضهم بشبشب والقلة منهم بصندل.. صنعوا مرمى آخر، مقابل مرمى حسان ويبعد عنه ما يقارب ثلاثين مترا.. وقسموا أنفسهم إلى فريقين، وراحوا يلعبون ويتبارون.. فامتلأ الفضاء بصرخاتهم الصاخبة، وضحكاتهم الرنانة، وزعقهم المدوي.. كلهم يهجمون مرة واحدة على القنينة في محاولة مستميتة لنيلها والاستئثار بها، أحيانا يدوسون عليها فتنطبق وتنبعج، فينفخون فيها بأفواههم من هواء صدورهم الصغيرة.. وكثيرا ما تنشب الخلافات حول ضربة ما للقنينة نحو المرمى إذا كانت هدفا أم لا.. فالفريق المهاجم يحلف اليمين بالختمة الشريفة أن القنينة مرت كالصاروخ جوّه المرمى عن يسار فردة الصندل.. والفريق الآخر يحلف الأيمان بالكعبة المشرفة أن القنينة مرت بطيئة برّه عن يمين فردة الصندل.. ونشأ اجتهاد ثالث لطفل كان يمر على الرصيف، فلت وملص من يد أمه وجرى نحوهم مؤكدا أن القنينة مرت من فوق فردة الصندل بالضبط، وهذا يشبه الارتطام بالقائم الخشبي للمرمى الحقيقي.. ولكن لم يحفل أحد منهم بهذا الرأي.. ثم وافقوا على الاستمرار في اللعب، واحتسابها هدفا بعد تهديد حسان لهم بأخذ القنينة الفارغة والكف عن اللعب، وهو يصرخ بصوت منفعل حاد كصوت العرسة..
- إنها قنينتي.. أنا وجدتها.. سآخذ القنينة واكف عن اللعب إذا لم تحسب الضربة هدفا.. تأكلونا أوطنه يعني.. هي مسخرة.. هو يعني الغش عينك عينك.
كثيرا ما كانت تتوقف المباراة ليقتلع أحدهم شوكة من باطن قدمه، أو ريثما يتخلص من آلام لحقت بقدمه لحصوة صغيرة داس عليها بقوة.. أو لانتظار مرور سيارة، أو عربة كارو يجرها حمار.. أو لمرور حمار يتبختر بلا عربة.
تعب الأولاد جميعهم، فتوقفوا عن اللعب، وآبوا إلى بيوتهم، إلا حسان جلس وحده على حافة الرصيف يلتقط أنفاسه، ومسح العرق عن وجهه بطرف القميص، ووضع إلى جانبه الصندل، وفي حجره مدد قنينة البيبسي الفارغة يملس عليها بيده .. تملك حسان رغبة البقاء خارج البيت، ليس فقط ليلعب، إنما أيضا ليستريح من طلبات أمه ومشاغلها التي لا تنتهي..
- حسان ناولني اشرب.. حسان أغلق النافذة.. حسان هزّ أخوك الصغير في السرير.. مد يدك وحك لي ظهري يا حسان.
لكن اليوم ينتاب حسان شعور بالفرح، فاليوم موعد زيارة جدته لهم، وكالعادة ستحضر له معها حلوى"براغيت الستات"، أو قطعة علكة بطعم الفراولة أو بطعم الموز، فيبدأ بمص حلاوتها قبل أن يقوم بعلكها.. لذلك هو يحب جدته كثيرا، رغم أنه يحس بقرف نحوها أحيانا حين تخرج من جيب ثوبها الكالح بعض حبات بزر البطيخ المقلي، فتمص بفمها ما عليها من ملوحة، ثم تعطيها له ليقزقزها أو يقرشها، لأن فمها بلا أسنان، سوى سن وحيد يتيم معلق في مقدمة فكها العلوي كلمبة قديمة في بيت عتيق.. فيأخذ حسان حبات البزر ويختفي ليرميها خلسة في الزبالة.
قام حسان بعد أن انتعش جسده الطري وارتاح وهو الذي كان من ساعة فقط يتأود تأودا ويلهث بكل خلاياه.. تابع مسيره إلى السوق وهو يركل القنينة حتى وصل إلى نهاية الشارع، وانعطف إلى شارع آخر يؤدي إلى السوق.. ما إن انعطف حتى وجد إطار دراجة هوائية صغير ملوّح وخرب، سربله الصدأ.. تناول حسان الإطار وثبته بأسلاك قديمة وجدها مرمية وحبال بعمود النور.. وصار يبتعد ويقترب جريا، ويقفز راميا القنينة في الإطار محرزا الأهداف كما في كرة السلة، ويضحك.. كثيرا يضحك. بعد أن سقط الإطار وفلت عن العمود تابع حسان سيره وهو يركل القنينة حتى وصل إلى اقرب دكان في طرف السوق، فتناول القنينة وحشرها تحت إبطه وثبتها.
في صدر الدكان وقع نظر حسان وتسمر على كرات بلاستيكية، سلط عليها نظراته حتى كاد أن يثقبها بمسامير حادة مدببة تنطلق نحوها من عينيه.. ثم زعق..
- عمو.. عمو.. عمو.. كم ثمن الكرة؟
أجاب صاحب الدكان برقم يفوق ما في جيب حسان من نقود بأضعاف عدة.. مدّ حسان يده في جيبه وراح يعسعس حتى اخرج النقود..
- عمو.. طيب.. أعطني فلقة صابون.
رجع حسان وقد آذنت الشمس على المغيب، رجع يركل القنينة الفارغة ويلاحقها حتى وصل إلى البيت.. فور أن دخل البيت صرخت به أمه صرخة قوية هادرة..
- لماذا تأخرت؟
لاذ حسان في ركن قرب الباب، وانكمش حتى كاد أن يتلاشى أو ينقرض، واضعا ذراعا على بطنه وذراعا على جبهة، ورأسه مطأطأ.. وقال بصوت واطئ مرتجف..
- أنا .. أنا لم أتأخر.. ذهبت بسرعة ورجعت بسرعة.
أمسكت أمه بأذنه ولوتها، ثم شدتها وفركتها بغل، واستمرت تلوي وهو يصيح..
- أي أي.. هذه آخر مرة.. خلص.. سأبوس التوبة.. أي أي أي.
دخلت الأم إلى الحمام.. فأمسك حسان القنينة وأخذ يركلها ويحرز الأهداف من خلال باب الغرفة.. واضعا يده على أذنه يتحسسها.