ربما ستظنُّ وأنت تقرأ هذه السطور أنَّ مجنونا ما في مصح نفسيٍّ قد كتبها، أو أنها تخاريف عابث، لا يا عزيزي ما أقوله لك هو عين الحقيقة، كل ما في الأمر أن الأحداث النادرة تصبح سهلة التكذيب.
لم أك مولعا لا بالنظر إلى المرايا، ولا الحديث إليها حتى وقت قريب، لكن صدفة حدثت غيرت فجأة كل قناعاتي.
أتى ساعي البريد يحمل صندوقا كبيرا، تحقق من الاسم المكتوب:
-هذا الطرد لك أستاذ سامي، توقيعك أسفل ويمين الورقة إن سمحت.
انتبهت إلى عدم شرائي أي شيء على الشبكة، ولكن اسم المرسل إليه، كان يشير إليَّ دون لبس ومعه النسبة والعنوان، الغرابة في اسم المرسل: نرجس للمرايا.
لم آبه بالموضوع كثيرا، سندت الطرد إلى الحائط ونسيت الموضوع برمته مدة.
مساء الجمعة الماضي، خطر ببالي أن أنزع الورق المقوى عن الإرسالية، كانت المرآة عادية المظهر ولا تختلف عن غيرها.
ثبتُّها على حائط غرفة النوم مقابل سريري، بادرتني بالحديث:
-سنقضي أوقاتا ممتعة معا يا سامي.
افترسني استغراب عميق، نظرت يمينا ويسارا.
-لا تكذِّب أذنيك، أنا المرآة، أسمع وأتكلم.
ترددت في البوح لها، غيرت رأيي مع مرور الوقت، صارحتها بكل شيء، كانت تفضِّل السَّمَرَ، تلوذ نهارا بصمت مطبق، تعكس ما تراه فحسب.
كان الأمر مسليا في البداية، لكنه لم يعد كذلك بعد أن أيقنت أنه خارج عن المألوف والمنطق، فقدت القدرة على النوم، اقتربت من الهذيان، اهتديتُ أخيرا إلى ما ظننته حلا، أن أكسر المرآة المجنونة وأتخلص منها، عدلت عن الفكرة، قد يكون هذا هدف من أرسلها إلي لتصيبني لعنة المرآة المكسورة.
السرُّ الذي لا يعود سرَّا يفقد قوته وسحره الأسود، قررت ببساطة أن أسفح سر المرآة لأول شخص أراه وليحدث ما يحدث.
لم تكد قدمي اليمنى تلمس الشارع هذا الصباح حتى رأيت جاري أكثم وهو مثقل بأغراض لا بدَّ أنه اشتراها من بقالية الحارة.
لم يحييني بل لم ينظر تجاهي، وضع رأسه بالأرض، هل من المعقول أن يمرَّ قربي ولا يقول لا صباح الخير يا جار، ولا السلام عليكم، ما أغربه !
ماذا أصابه؟
كيف أسرُّ له بأمر خطير كهذا، وهو على هذا الحال؟!
ليس أكثم وحده من تغيَّر، أخي الأصغر الرسام الموهوب، لم يعد يسلِّم و ندر كلامه معي للحد الأدنى، انزوى في غرفته، انفصل عن الواقع، أرخى لحيته، اقتصر على اللون الأسود في لوحاته الأخيرة، غلب عليه الاكتئاب.
مشيت إلى مكتبي الهندسي على بعد مئات الأمتار، قابلتني أم تيسير كالعادة، تصل قبلي هذه المرأة النشيطة، وقبل أن أدخل تبدأ ثرثرتها الاعتيادية، أتجنبها، ولا أقدر على مجاراة شلال كلامها الذي لا ينتهي، إنَّها للأمانة ملتزمة بعملها، لكنها لا تتوقف عن الاحتجاج من رمينا للأوراق على الأرض، لم تقتنع ولا تريد أن تفهم أن طبيعة عملنا تفرض هذا السلوك.
نحن نستخدم الحواسب لكن طباعة الكروكيات التجريبية جزء أساسي من عملنا، وقد نقوم بقذفها كيفما اتفق حين لا تعجبنا.
طالبتني صباح الأمس بزيادة في أجرها الشهري، ذكرتني بعملها المضني، وزوجها المريض، وطلبات أولادها التي لا تنتهي.
فاتحتُ أم تيسير برغبتي بالحديث معها في مشكلة تخصني أنا هذه المرة، نظرتْ نحوي باستغراب:
-سامحك الله يا أستاذ، لماذا تسخر مني؟
ندمت على فكرة الحديث معها بأمر يفوق قدراتها العقلية الضئيلة.
لم أجد أيَّا من زملائي أيضا جديرا بسماع سرِّ المرآة.
جلست عصر أمس في مكاني المعتاد في مقهى الأمل، صدمتني رؤية الناس، وحيدون يشربون القهوة، شابة جامعية تقلب كتبها و كراساتها على غير هدى، مسن يقرأ الجريدة الوحيدة التي نجت من التحول الرقمي، ومازال من القلة الصامدة التي تطالعها، شاب هنا وآخر هناك هذا يعبث بهاتفه وذاك يدخن وحيدا.
أولئك أقل شأنا من معرفة شيء مما خطر ببالك.
عدتُ يائسا إلى البيت، وصارحتُ مرآتي بنيتي السيئة:
-أريد أن تخرسي، لم أعد أطيقك، أ فهمتِ؟
الغريب أن المرآة لم ترد، أعدت كلامي:
-اخرسي نهائيا.
لم تنطق، عادت فجأة مرآة كغيرها، لم أفهم الظاهرة العجيبة، قدرُّت أن مجرد رغبتي بإفشاء سرها قد فعل مفعوله معها، نمتُ ليلة أمس بعمق.
صباح اليوم، كنتُ نشيطا على غير العادة، لبستُ أفضل ما لدي، لا أعرف لماذا رغبتُ بالسخرية من مرآتي، أخرجت لها لساني حرفيا، وأردت الخروج فورا، أعرف أنها لا تتكلم في النهار، لكنها خيبت ظني.
-أنتَ، سامي الريس، يا غبي؟
لم يجرؤ أحد في الماضي أن يضع في جملة واحدة اسمي و كلمة غبي.
لم تنتظر ردي، وأكملت حديثها:
-أنت لا تفهم، جارك أكثم الرجل السبعيني، ما زال مجبرا على خدمة زوجته وأحفاده بعد أن فقد ولده الوحيد في الحرب.
شقيقك ليس مريضا ولكنه في الحقيقة منغمس لساعات طويلة كل يوم في استكمال لوحاته.
تزعجك أم تيسير وتذمرها المستمر، هذه المرأة الضعيفة، راتبها الضئيل لا يكفي يا أعمى.
تداركت هجوم المرآة علي، ودافعتُ عن نفسي:
-طيب، ورواد مقهى الأمل، ما دهاهم أيضا؟
هذا المقهى لا يحمل من الأمل إلا اسمه، أنهم بلا أمل.
-وأنا؟
-أنت وحيد لأنك تنظر إلى الآخرين، ولا ترى إلا نفسك.
أصابني كلام المرآة بالاشمئزاز، وضعت قدمي خارجا، اقتربت من جارنا أكثم، كان مثقلا بأكياس الخضار، سلمت عليه، وأخذتُ منه أحدها لأوصلها معه رغم استغرابه.
هذا الصباح، لم تحدثني أم تيسير عن مشاكلها، همست في أذنها:
-أم تيسير، وافقتُ على زيادة راتبك.
اتصلتُ بأخي وأخبرته بأني سأحضر معرضه رغم مشاغلي.
-أستاذ سامي، أستاذ سامي.
أنا في ورطة كبيرة، المرآة التي أحضرتها لك قبل مدة، كان هناك خطأ، لم تكن لك بل لشخص له نفس اسمك وكنيتك.
لم اعترض على ساعي البريد:
-انتظرني.
غلفت المرآة في ورقها المقوى، ودفعتها إليه، أغلقت الباب خلفي، بعد أن رأيته يضعها في السيارة الصفراء، ويقفز خلف مقودها.