1
صفحات فارغة،
ما قيدته في هذا الكناش قليل، كنت أود أن يكون هذا الكناش بمثابة ذاكرة ورقية أستودعها بعضا من أحداث هذه السنوات الستة التي أمضيتها بالصويرة، ولكن عندما أطالعه اليوم أصاب بخيبة كبيرة، إني لا أكاد أعثر بين صفحاته إلا على جمل لا معنى لها، أو على فقرات كتبت على عجل بدون سياق.

أنهزم دوما أمام أوهام التأجيل المستمرة، لا أتغلب على نفسي التي تغريني بمتسع الوقت الذي أمامي لتدوين الوقائع العظام التي ستأتي تباعا، أما توافه الأمور اليومية، فلا تستحق عناء التقييد، فقد لا تكون بقدر ثمن الحبر الذي تدبج به. أقلب هذه الصفحات اليوم وأنظر فيها كأنها تلعنني قائلة: أين فتوحاتك الكبيرة، وفي أي موضع خلفت انتصاراتك المباركة؟ ولماذا لم ترسم على وجهي؟. فرق كبير دوما بين رغباتنا الكبيرة وما نستطيع أن نسرقه من الأيام ونجعله واقعا متحققا، فعندما حللت بالصويرة، أخذت هذا الكناش وقلت أنه سيكون رفيقا ومعينا، أعود إليه كل مرة لأستودعه ما أراه، وما أتوصل إليه من نظر في شؤون الحياة الجديدة بهذه المدينة، غير أن هذا كله لم يقع على الوجه الذي أردت.

هكذا تبدو قرطبة شاحبة مثل الصريم ...
على طول وادي الهدير صوت عال يشق العنان ؛ ناسٌ زرافات ووحدانا ، يحملون أمتعهم ، ويشدونها بحبال على مطاياهم . راحلون في غسق مدلهم ، وفي أول فجر طلوع . دروب قرطبة ستـُستطاب للقادمين الغزاة ، سيعيثون في حاراتها ومساجدها ومناراتها فسادا ... إنهم الإفرنجة ، وما يأتي من قر الشمال . سيصفعون فجر قرطبة ، هذا الفجر الوليد ...
ـ وأنت يا ابن رشد لن تدخل مساجد الله بعد الآن .
من خلف ستار صفيق ، اشرأب بنحره حتى ظهر منه الوريد
ـ سأعيش بالقرب منك ... حتى توارى الثرى الطهور .

الحالة الأولى: تَـلَـــبُّسٌ.
في لقاء معه على هامش ثرثرة حضرتها عن طريق الخطإ، في إحدى الندوات التافهة شكلاً، و الفارغة مضمونا، أثار صديق مُبتلى تعرفت عليه حينا، موضوع تلبسِ النص به في أوقات ربما في الكثير منها غير مناسب، وأنه عندما يبدأ في الكتابة يجد نفسه في بعض الأحيان يكتب باسترسال ظاهر وكأن جنيا يغذي عقله بأفكار ممتدة بخيط يدليه من الأعلى و يصب محتواه في المخ صَباً دون سابق ترتيب للقاء، فلا يتوقف قلمه عن الكتابة، استجابة لأفكار تتساقط عليه أحجارا من جبل، تصيب دماغه بشكل مباشر، فلا يكلف نفسه إلا بِتَرْجمتها إلى كلمات، ووضعها في جمل تحمل المعاني التي يوحي له بها هذا الكائن الغريب، الذي يزوره في أوقات غير مناسبة.
حكى لي صديقي فقال:
ــ يبدو أن هذا المخلوق، لم يجد سكنا يلبي طموحاته في مشروع الدولة المسمى "اجتماعي"فقرر أن يسكن عظامي.

ربما ماركيز وصفَ هذه العزلةَ بالمقدّسة ليقينه بأنّ المرءَ يعيشُ فيها ملءَ حياته بعيداً عن ضجيج الواقع وبما يقابلُه الأكثرُ ضجيجاً وسائلُ الاتصال الاجتماعيّ التي ينعدم فيها التواصلُ.... غيرَ أنّ الأنفسَ الكبيرة تحيّي بعضَها عن بُعد في فترات متباعدة ، فغربةُ المكان تستبدُّ بالمرء وتفضي به إلى غربة الزمان الغابر المعادي مستثنى منه سَمَر الأصدقاء والعمر الذي قفز من سنة إلى سنوات بلمح البصر والبصيرة الشائخة، مضافاً إلى هذه الغربة غربةَ اللغة.أستشهد دوماً بمعاصرنا المتنبيّ" غريب الوجه واليد واللسان."
...

داهمني بغتة شرودٌ غريب بسبب ما بذلته من جُهد تفكير صباح ذلك اليوم، وأنا جالسٌ رفقة صديقي محمد مساء بأحد المقاهي المتواجدة بشاطئ المدينة. أطلقتُ العنان لنظري لكي يسرح بعيدا إلى ما وراء أفق البحر أمامي. وكأني أجلسُ وحيدا أتأمل ما بدواخلي، كسرَ صوتُ صديقي هدوء احساسي بخلوةٍ عابرة وهو يخاطبني بمرح قائلا: انظر إلى هذا البحر، هل كنت ستجده في مكان غير هذا .. ؟
أومأت له تأكيدا بإشارة من رأسي، نظرت إليه بتفاؤل، تعبيرا عن امتناني له.

في بلدة قَصِيّة من بلدان الجنوب، وفي زمن من أزمنة التاريخ، يُحكى أن حاكم البلدة، نَصب جدارا في الضاحية الشمالية منها، بعلو لا يسمح لسكانها بمشاهدة ما وراءه، إذ ظل ما وراء الجدار غائبا عن إدراك الأهالي، ولا يُسمح لهم حتى بالتساؤل حول ما يدور هناك، ولا التفكير في المساحة الممتدة خارجه، ولا حتى إدامة النظر للجدار نفسه، وهي بالمناسبة تهمة يُحاكم على إثرها كل من قام بها، و يُتابع بجريمة إدامة النظر إلى الجدار، وهي من أخف التهم التي يمكن أن تُنْسبَ إلى المتهم، وهناك تهم كثيرة وُجِّهت لكل معتد على حرمة الجدار ومن قائمتها: تهمة الإتكاء على الجدار، تهمة تلطيخ الجدار، تهمة رمي الجدار بالباطل، ...

حملت الرضيع بين يدي وتأملت وجهه الملائكي الطاهر كسجله الخالي من المعاصي، لمست أطرافه البريئة وفكرت بحاله في هذه الدنيا الموحشة لكنني استطردت:
- الأمر لله من قبل ومن بعد...
انتبهت إلى عيون أمه تراقبني؛ فوضعته في مهده الجميل، قبلت ناصيته ودعوت له في نفسي بالصحة وأملت أن ينعم بحياة سعيدة. هنأت أسرته من جديد وجميع الأحباب والأقارب وانصرفت.
جلست بمقهى أمام الشاطئ، احتسي كأس شاي وأراقب أمواجا تلطم الصخور وتتكسر حولها وحيالها لتبدع صوتا رخما جميلا تحمله قطرات ندى، يحط بعضها على وجهي ويشعرني بالحياة.

انتعل صاحبنا حذاء رياضيا من النوع الممتاز، فمشى خطوات في الطريق التي تكلف مختبر صهره بمراقبة جودتها، مقابل مبلغ محترم، رأى نتوءات على جانب الطريق، لعن المتسببين فيها من أبناء الحي خلال يوم عيد الأضحى وهم يشعلون النيران على حوافي الشارع العام ليقوموا بشي رؤوس الأضاحي مقابل مبالغ يؤديها أصحابها لهم، يحس أن قدميه غير مرتاحة في حذائه على الرغم من تشدده أثناء شرائه مراعاة لمواصفات الجودة، وهو يقوم بالخطى تلو الخطى يشعر ببذلته الرياضية ذات العلامة التجارية المعروفة تضيق على جسده، تُشعره بالوخز في أماكن متعددة من كيانه، فتركبه قشعريرة وكأنها عاصفة تنطلق من أسفل قدميه إلى أعلى شعر رأسه، يحك مناطق من جسده ليهدئ من الحرارة المنبعثة من بعض الأجزاء، يتغافل بغية طرد الألم، يخطو خطوة.
يريد أن يسير على الرصيف فيجد الحواجز قد امتدت على كل جنباته، فلا يجد استواءً لأرضية تسمح له بسير يريح أعصابه قبل رجليه، يشتم في نفسه تقنيي البلدية قبل مهندسيها بوابل من كلمات غير مصنفة، يتذكر أن المصلحة المسؤولة عن التراخيص تترأسها حفيدته، يطأطئ رأسه ويخطو خطوتين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة