تشتعل نار الحقد داخله ، تضطرم الكلمات ، تتشكل جملا تدفعها رغبة عارمة في الانتشاء بالسباب إلى الخروج و إلى تقديم عرض لسواد نفسه على الجميع .
كان -كما تعود عليه الكل -يبدو صامتا في ركنه المزمن في مدخل "زنقة العيون" لا يتغيب عنه إلا لماما يستقبل القادمين بنظرات ممتهنة و عدائية بدون سبب واضح و يودع الخارجين بازدراء صامت حينا و ضاج أحيانا أخرى .
يلعن بين الفينة و الأخرى الدرب و الحكومة و الفرق الكروية و رداءة التبغ الأسود و اسرائيل و الجو الممطر و تعفن الطماطم و الجرائد و كل شيء يخطر بفكره في تلك اللحظات التي يصير فيها خارج نفسه ، يستفزه المتطفلون ببعض الكلمات فتتفجر حمم الألفاظ النابية من مخزونه الذي لا ينضب شتائم و حركات عصبية .
لم يكن يؤدي أحدا بيديه رغم جثته الضخمة و ملامحه المائلة إلى العدائية ، لم يؤد أحدا و لا حتى مرة واحدة و لا يذكر أحد أنه مد يده على أي كان ، لكن لسانه كان يسحل الجميع و الجميع بلا استثناءات تذكر .
لا يذكر جل أهل الحي متى أو كيف حل بينهم و لكنهم تعودوا عليه ، كما يعتاد المريض على مرارة الدواء ، أو كما يعتاد البغل على ضرب السياط . بل صار وجوده فصلا كوميديا أسودا يفرض نفسه على المكان الغارق في الرتابة و الإهمال. لا أحد أمكنه أن يفسر هذا التموقف العدائي من الجميع لكن لا أحد كان يهتم فعليا .
-الغوتي ، المنتخب تأهل للمونديال !
-سير الله ينعل بوك على بو المنتخب يا ولد ....
-الغوتي ، شحال في الساعة ؟
- أنا مكانة يا ولد ...
-الغوتي نعل الشيطان !
-الشيطان يا بوك هو بنادم يا ولد ...
بركان هادر من ما جادت به قريحته المقذعة كان ينفجر بعد لازمته الشهيرة المعروفة و يستمر في قذف الكلمات مثل لافة سائلة ما إن تبدأ في النزول حتى تجرف في طريقها كل حاجز فتتدحرج لا تلوي على شيء .
فجأة اختفى الغوتي ، و ران صمت ثقيل على المكان، انتظر الجميع أن يعود إلى مكانه بعد يوم أو بعضه ، و لكن اختفاءه طال إلى أيام و تغير حال الركن الذي كان يحتله ، صار جامدا عاديا لا يشكل فرقا بعد أن كان المارون به يعدون أنفسهم لما سيشنف أسماعهم من سباب .
طال اختفاؤه و بدأت الإشاعات تتناسل و تخلق أجوبة لأسئلة لا تتوقف ، فمن قائل أن سيارة مجهولة توقفت قربه ذات ليلة و نزل منها رجال تبدو عليهم أمارات الحزم و اقتادوه باحترام إلى وجهة غير معروفة و من قائل أنه فقد الأمل من جدوى شتم الجميع فقرر التنحي عن ركنه المزمن و من قائل أنه كان عينا على هذا المدخل من مداخل الحي و قد انتهت مدة انتدابه و من قائل أنه سافر بعيدا أو تاه في طريق عودته إلى مقره أو مات ككل شيء مهمل في هذا الوطن بصمت -مات - قرب حاوية نفايات أو تحت ضغط الحياة ...
-مابقات ثقة ،حتى من الغوثي خرج هاد الشي .. تلقي امرأة لصاحبتها بالجملة و تمضي .
-آش بغاو عندو مسكين ، ترد الأخرى و هي تسير في الاتجاه الآخر .
لا أحد تساءل من أين جاء و متى جاء و لماذا و لا أحد رفع في وجهه أمرا بالرحيل رغم أنه كان نشازا و كان يؤدي الجميع ، كان حضوره عضويا متسريا في شقوق التفاصيل التي تصنع من الحي حيا حتى و إن غص بالأموات .
لكنه لما رحل أو اختفى أو تبدد كإشاعة في الفراغ لا يهم ، خلق مشكلة جعلت نقاش أمر غيابه أهم من نقاش أمر حضوره المستفز . هكذا تكونت صورة سكان زنقة العيون ، بشريون كيفما اتفق لا يجزعون إلا أمام حالات الفقد حتى أن الشخص يمضي حياته كلها بينهم دون أن يهتم به أحد و لكن لحظة موته أو اختفائه يتحول من نكرة إلى معرفة ولو لأيام ...
كان يمكن لقصة الغوتي المعتوه ألا تروى ، ككل قصص الحمقى و المجانين أو العقلاء جدا الذين اختارت الحياة منحهم شرف العيش بعيدا عن الاهتمام ، كان يمكن ان لا أزعجك بتاتا بهذه الأسطر الثقيلة ، لولا أنه بعد مرور أيام قليلة ، تفاجأ الجميع بشخص آخر مختلف كليا ينتصب في المكان الشاغر ، كان شعره طويلا و لحيته كثة غزيرة و كانت ملابسه ممزقة و تكاد لا تستر بعض المناطق في جسده .
لم يسب أحدا و لم ينبس بكلمة واحدة ،كان صامتا كالأموات و عيناه تدوران بلا توقف ، يده فقط كانت تمتد بين الفينة و الأخرى لتطلب عطية دون أن يتكلم .
كان كائنا آخر يستعد لكسب غطاء الإهمال حتى يتسنى له العيش على حساب آخرين .