من مقعدي الذي جلست عليه خارج المقهى، رحت أرشف بعضًا من الشاي الساخن الذي تصاعدت أبخرته وفاحت منها رائحة النعناع الأخضر المنعش، كان الجو وقتها تشوبه غيوم متقطعة والطقس ما بين برد لاسع ودفئ الشمس حين تتخلل أشعتها فتدمع من أثرها العين. علي خلفية من اللون الأزرق، رحت أتطلع إلى سحابتين كانتا تسيران خلف بعضهما البعض كأنهما في طابور صباح مدرسي، كانت إحداها تأخذ شكل بيضاوي فيما يشبه الخلجان المرسومة بالخرائط المدرسية باهتة اللون وكانت تعلو الأخرى بشئ يسير. بينما كانت السحابة السفلي كثيفة رمادية اللون بشكلها الدائري وقد برزت منها زوائد كأسنان المشط المكسور وكادت أن تسقط علي الأرض كبطن مترهل لرجل قصير القامة. دقِّقتُ النظر حين هبت فجأة نسائم باردة فأوشكت السحابتان أن تصطدما ببعضهما البعض حتى كادتا أن تلتصقا.
وبينما أتابع مسير السحابتين إذ لمحته، طفل صغير في الثامنة من عمره بالكاد كان يستطيع رفع قدميه عن الأرض من ثقل شنطته المدرسية المعلقة علي ظهره كأنها أخر زاده من الدنيا وهو يتنقل في ظل السحابتين فيما يشبه القفز داخل مربعات مرسومة بالطباشير علي الأرض، كانت تعلو وجهه ابتسامة الفائز بالظل والمرافق له كحيوان أليف يتبع صاحبه أينما ذهب. استمر الوضع هكذا جزء من الوقت والولد يراقب خط سير السحابتين في الهواء ثم يدقق النظر في موضع قدميه رافعهما وخافضهما عن الأرض بالتبادل فيما يشبه الرقصات.
وبينما الطقوس مستمرة، كانت أشعة الشمس قد اخترقت إحدى السحابتين فتقلصت مساحة الظل على الأرض، بدا الانزعاج واضحًا على وجه الولد الذي كانت تسيل منه وقتها قطرات من العرق اللامع وقد امتقع وجهه باللون الوردي من أثر المجهود ولهثه في محاولة مجاراة الظل. همّ يعدل شنطته المدرسية التي كانت على وشك أن تقع عن كتفيه وتمتم ببضع كلمات غير مفهومة ثم انعطف جهة اليسار حيث يقبع كُشْك صغير للبقالة.
***
عن المؤلف:
عضو هيئة تدريس بجامعة القاهرة، متخصص في حماية التراث الثقافي. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أرسطو- اليونان، ودراسات ما بعد الدكتوراه بمركز ترميم التراث بمرسيليا- فرنسا. منذ العام 2008، نُشرت له مجموعة متفرقة من القصص القصيرة على مواقع ثقافية إلكترونية، وفى أواخر العام 2017، صدرت مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان "مقعد قرب النافذة".