حنين ... حنين ... حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أين المفر؟ فعدوي ... وجودي، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، فعثرت عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر، وخز يجعلك تحس بالألم في البداية ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.
لكل منا ذكرياته، التي تنظم مواعيدها بشكل يومي مع خليلها الليلي، تدعوه ليقاسمها السرير في الهزيع الأخير من الليل، يجلس إلى جانبها يشاركها وسادتها، من دون حتى أبسط الحقوق وهي طلب الإذن بالدخول، تتسلل لتُدمر سلامك الداخلي إن قبلنا بهذا الاسم، فتُهب واقفا تستعد للمعركة الليلية إما طريح فراش المرض، أو تجلس قرفصاء في أحد أركان الغرفة تشهق مع شلالات الدموع، بشكل أولي تحسب مربعات الغرفة وتعد النجوم، ولو أنك لن تصل إلى عدها، يتهيأ لك أنك تفوقت على دونكشوط في عدها، وأخيرا تناورها و تناورك، لتتوصل إلى مفاوضة صلح لهذه الليلة، فتنام مثقل العينين، منكسر الخاطر.
في الصباح من الطبيعي أن تستقبل صباحك بالابتسامة مهداة إلى نفسك، لكنك تستقبلها بتنهيدة طويلة، ومع أول فنجان قهوة ترى الوجه المتناسي، أو من كنت تعتقد أنه نصفك، أو هكذا كان يسكت أنينك، ثم تشم رائحة سيجارته تفوح من المكان، أو رائحة عطره المخزونة في ذكرياتك، فتكره سلطة الذكريات و تهب فيها، لتنزوي عنك بعيدا، و هي تراقبك من بعيد، تتحين الفرصة لمهاجمتك كلما غفلت عن الواقع، وعندما تعود للواقع تُشغل حاسة المحقق، تنظر في كل الاتجاهات و قلبك كله متمنيات لو يصادفك الحنين في أحد الطرقات.
أنت الحاضر الغائب بين حشد من الناس تُحرك رأسك، أناملك كأنك "عروسة كراكيز"، أو وسط نقاش برلماني، و النتيجة أن الجسد حاضر و الفكر غائب، شغفك عري، ذكرياتك عري، أنينك الداخلي عري، فأين المفر من كل هذا؟ تمضي يومك كأنك إنسان آلي ، ثمة برمجته ليكون نقطة الهدف في ما ثم تحديده.
هيا بنا نستيقظ جميعاً، بدل البحث عن شخصية ورقية صنعناها في مخيلتنا، أو أحضرناها معنا من مخيلتنا الطفولية، التي تبحث عن الأمان و تهرب من إحساس الوحدة، تهرب من عري ذكرياتنا التي نزعت عنا لباسنا، ابتسامتنا، قهقهاتنا، صدقنا مع ذواتنا، لتُسلحنا بسياج من الشوك و العوسج، لنكتشف أن الواقع مُغاير وأن ذكرياتنا صنعناها من تهيآتنا بعيدا عن الشخصية الماثلة أمامنا، حُبنا كان مثل مجنون ليلى لم يجد حبه الحقيقي إلا في عالم الغياهب، وصدقنا أن الأمان في الذكورة في قميص و بدلة، في مفاتيح ومحفظة.
ما يجعنا عشاقا حقيقيين هي نشوتنا في تلك اللحظة، وثقتنا أن الآخر أصبح ضرورة لنا، و أن الافتراق عنه هو الافتراق عن روحنا، لكن هيهات بين أمانينا وواقعنا، الخوف ليس من هزة الذكريات، الخوف من الفراغ الذي بداخلنا والذي يستعير عمل الشيطان في أننا الوحيدين في هذا العالم منكوبي حرب الهوى، ومن الصقيع أن يجمد مشاعرنا، هو في الأخير لص صغير يبحث عن من يحتضن وحدته، عن من يمسح دموعه، من يربِت على كتفيه من عالم تركه لعزلته، لكن الأصل أن شخصا واحدا تركك لذكرياتك وليس العالم، تركك وحيدا لأنه في الأصل لم يكن لك.
قوتنا تكمن في مواجهة وهن شيخوخة مخيلتنا، التي صنعت لنا عالم الفراشات و العصافير مع العلم أننا نعيش في عالم الذئاب، وخلاله يمكن أن يتحول الشخص إلى جزء، ثم إلى كل الضوء الذي ينير عتمتنا الداخلية، يشبه حالة تيه بلا نهاية، عري الذكريات جلادي في مواجهتها، ومن تقبل الواقع و ليس الخيال، كلنا مجانيين الهوى، لكن لسنا ضعفاء لنستسلم لحنين ذكرياتنا، وفي شخصيتنا الدفينة المتمردة على الاستسلام كنهاية، وبدل ارتداء ملابس الحداد لنرتدي ملابسنا بمقاييسنا و بفخر، فأزمتنا أزمة روحية بالأساس ولا بديل للوسطية.