" لقد رأيت ألم شعبي المتواجد في بلاد مصر، وسمعت أيضا الصراخ الذي يدل على اضطهادهم، ما دمت على دراية بآلامهم"
ـ الكتاب المقدس ـ
" على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله (...) فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله فاستحق العقاب"
ـ الإنجيل ـ
" الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدرن وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب"
ـ القرآن الكريم ـ
عندما نعود اليوم إلى عديد الدراسات المقامة حولنا نحس بامتعاض كبير جراء النتائج التي تقولها، بغض النظر عن صحة هاته النتائج من خطئها، بيد أنه من الواجب الوقوف برهة حولها، والحال أن واقعنا ينذر بما ألفناه في هاته الدراسات، التي لا يهمنا فيها دواعيها ومدى حيادها، بقدر ما أنها تتفق اتفاقا بليغا حول وضعنا في الذيل، أي احتلالنا لمراتب جد متأخرة في ما يجب أن نكون فيه على قدر كبير من الريادة، في مقابل ذلك نجد أنفسنا في مراتب جد متقدمة في ما يجب تجنبه، ولكي نقترب أكثر من المراد فإنه لا شك أننا نحتل أولى المراتب في ارتفاع نسبة الفساد بشتى أنواعه، والرشوة، والتحرش الجنسي، واضطهاد الأقليات، والعنف ضد المرأة، والتعصب، وحوادث السير، والاكتئاب، والجريمة غير المنظمة... في حين أننا نحتل أذل المراتب عندما نتحدث على البحث العلمي، ونسبة الأمية، والهدر المدرسي، وجودة الخدمات، والصحة، والسكن...
في التراجع عن المواقف الخاطئة : جان جاك روسو نموذجا ـ فتحي الحبّوبي
لا جدال في أنّ هناك جدليّة قائمة بين الموقف من حدث ما- بما هو ردّة فعل في علاقة بإعجاب الإنسان أو مقته لهذا الحدث- والصورة الإيجابية أو السلبية التي يخلّفها لدينا هذا الحدث في علاقة بالزمان والمكان. ذلك أن إختلاف الزمان أو المكان- بما هو اختلاف للظروف- قد يجعل الإنسان يغيّر موقفه من النقيض إلى النقيض، أو على الأقلّ يعدّله ليكون أكثر عقلانيّة و موضوعيّة ورصانة. ومعلوم أنّه خارج إطار الدين، لا أحد بإمكانه الإدّعاء بأنّه يمتلك الحقيقة المطلقة. لأنّ الثابت أنّ هناك حقيقة متعدّدة ونسبيّة لا حقيقة واحدة ومطلقة. لذلك إختلف الفلاسفة في تعريف الحقيقة فنظر إليها "أفلاطون" كواقع مفارق لعالمنا الحسّي، واعتبرها "أرسطو" كواقع محايث -أي أنّها موجودة في العالم الحسّي وليست مفارقة له- ونظر إليها "ديكارت" باعتبارها مطابقة الفكر لمبادئه الذاتية. ( أنظر المعجم الفلسفي لأندري لالاند(André Lalande ).
الحقيقة المتوحشة ـ حميد مجدي
قد يكون مستحيلا أن أعود أدراجي إلى الوراء عبر ماضيي الذي مع ذلك أقبع فيه و يشكلني، و عبر التاريخ و الزمن الذي يلتهم في طريقه كل شيء، حيث أبدأ من بداياتي و أتنبه بيقظة شديدة لكل المنعرجات و الدروب و الأماكن و الأغوار و السلط، و أرهن روحي و فكري و جسدي لمعرفة الحقيقة و تلمسها و القبض عليها حتى لا تنفلت منا، و أخلص نفسي و العالم، من مآسي الأوهام و التيه الذي يكتسحنا و يقض مضجعنا و الجهل المطبق بما نحن فيه و عليه و بمن نكون و لماذا نحن كذلك و ما السر في الوجود و الموجود بهذا الشكل..
كل الآلام و الحروب و الأمراض و المصائب التي تنخر جسد العالم،لا توازي في شيء ألم وجراح جهلنا بالحقيقة، بل إن هذه الآلام ستكف عن أن تكون كذلك إذا علمنا سر الوجود و سببه و العوالم المحيطة بنا و الأهداف المتوخاة من كل ما نعيشه..
لماذا هي الحقيقة عصية عن الظهور.. !؟ ما الذي يجعلها خفية.. !؟ و لأي سبب.. !؟ لماذا هذا العبث.. !؟ و لماذا هذا التحدي.. !؟
إن أبسط شروط العيش و الحياة هو أن نعرف عن أنفسنا و عن العالم كل شيء.. أن تكف الأسئلة عن أن تكون..
الذكورة والأنوثة: جدل المساواة والاختلاف بين فلسفة الوجود وفلسفة السياسة عند ابن رشد ـ محمد مصباحي
من الصعب استخلاص موقف منسجم واضح لابن رشد من القضية النسوية لأنه، أولا، لم يكتب في هذا الموضوع رسالة أو مقالة خاصة، شأنه في ذلك شأن جل الفلاسفة السابقين واللاحقين عليه. وهذا يدل على أن موضوع المرأة، أو الأنوثية، لم يرق إلى مرتبة الموضوع الفلسفي بعدته المنهجية والمفهومية والإشكالية. وهذا التقليد استمر حتى لدى الفلاسفة المعاصرين الذين سكتوا عن المرأة بالرغم من الثورات الجذرية التي قاموا بها والتي بوأت الإنسان مكان الصدارة في الكون.
وتعود صعوبة فرز موقف صريح لابن رشد من قضية المرأة من ناحية ثانية، إلى كونه لم يتطرق إليها بالقصد الأول، أي مباشرة وبالذات، ولكن بالقصد الثاني، أي عرَضا أثناء تناوله لقضايا قريبة أو بعيدة عن قضية المرأة، يمكن إحصاؤها في أربع قضايا تنتمي إلى مجالات أربعة: (1) قضية تعريف الإنسان بعامة، التي تنتمي إلى سياق ميتافيزيقي-منطقي (2) قضية تخيل بناء دولة عادلة فاضلة تحظى فيها المرأة بأهمية خاصة، وهي قضية تنتمي كما هو واضح إلى سياق الفلسفة السياسية، (3) مسألة الإنجاب، وهو سياق بيولوجي واجتماعي، (4) وأخيرا مسائل الحقوق والواجبات الدينية المتعلقة بالجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية (العقود والرق والتجارة والشهادة والإرث الخ)، وهي مسائل تنتمي إلى المجال الفقهي.
أسطورة البطل المأساوي ـ هادي معزوز
" من صفد إلى بغداد ثم دمشق أخيرا. رحلة شقاء محفوفة بالخطر وثقل الماضي المهين، كل هذا كان محمولا على كاهل النفس التي تدمَّت يوما وما اندمل الجرح بعد، وكان ختامها الطرد."
حيدر حيدر ـ الزمن الموحش ـ
" كل إنسان عظيم يمارس تأثيرا زمنيا: بسببه يعاد النظر في كل التاريخ، وآلاف أسرار الماضي تنبثق من مختبآتها وتعرض لشمسه."
نيتشه ـ العلم المرح ـ
" كانت الإشارات المكتوبة بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيرا أقف وجها لوجه مع الوطن، وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات العربية."
أحلام مستغانمي ـ ذاكرة الجسد ـ
عندما نعود لذكريات كل حضارة عظيمة، وعندما نعود لتاريخها المعلن عنه والخفي، يمكن حينئذ أن نحكم على عظمتها أو فشلها، لا ُلخصُّ حضارة الأمم القوية ت فقط في معمارها وأدبها وعلومها، بقدر ما أنها تُستنبط بناءً على طبيعة هذا المعمار وهذا العلم وهذا الأدب، أي أن كل تجسس واقعي على قيمة حضارة ما، يفترض منا انغماسا وسفرا في بنية المعمار ودلالاته سواء مع الطبيعة أو مع الإنسان، فلنتأمل مثلا أهرامات مصر التي تشعر كل زائر بعظمة الحضارة الفرعونية، لكن داخل هاته العظمة تسكن العبودية في أرقى صورها، حيث تطلب بناؤها أرواح مئات ومئات الأشخاص، أما كبرها بتلك الطريقة الفظة فإن في تلك إشارة إلى ذلك الضعف الخفي أمام الطبيعة والذي تم تعويضه بشيء ضخم تبريرا وكذبا ليس إلا.
أولانية دراسة الوضع البشري ـ د.زهير الخويلدي
"إن إرادة التوصل إلى معرفة أكيدة ترتفع فوق الرأي الذاتي ليست كافية لوصف ما نفهمه بالمعرفة العلمية." [1]
جرت العادة أن يتم تناول الإنسان من زاوية الحد والرسم والتعريف والمفهوم والمقولة وأن يخوض الفكر في عملية البحث عن الجوهر والماهية والطبيعة وأن تكون النتيجة العثور على تعريف نهائي وبناء حد جامع مانع وإيجاد مفهوم موحد ، وصار من بداهة الفكر الفلسفي أن يجتهد في وصف المكونات والعناصر والمرتكزات والأسس والخصائص والأبعاد والمميزات والكليات ويطرح الأسئلة الميتافيزيقية عن الأصل والمصير والغائية ويسقط من حسابه الاهتمام بالجزئيات والمظاهر والتفاصيل والتحولات والمنعطفات والتغيرات والقوى والدوافع والميكانيزمات ويتغافل عن طرح سؤال من؟Qui وعن الانتباه إلى المسارات والأحداث والصيرورات. على هذا النحو ارتأت الفلسفة المعاصرة أن تقوم بتشريح الكائن البشري من جهة التَّعَرِّفِ على وضعه الأنطولوجي في العالم والتحقيق والتدقيق في منزلته الثقافية بالنسبة إلى الجماعة التاريخية التي ينتمي إليها وتقدير وضعيته المادية ومكانته السياسية والقانونية في المدينة وقدراته على الفعل التواصلي والترميز. لذلك ربما تثار الإشكالية المركزية لهذا الدرس من خلال الاستفهامات التالية: أي وضع يوجد فيه الكائن البشري الآن وهنا؟ بأي معنى يكون الوضع البشري واحدا ومتعددا في ذات الوقت؟ وهل هو وضع مستقر وملائم يسمح للكائن بالمصالحة مع ذاته وحسن تقديرها أم هو وضع مستعصي يحول دون لقاء الذات وارتقائها؟ وما العمل للرد على حالات الضياع والاغتراب والانبتات؟ وكيف السبيل لكي يستعيد للكائن ذاته ويوقع حضوره في وضعه المتعدد الأبعاد؟ لماذا يخفق الإنسان في أن يكون سعيدا؟ وهل الإنسان سجين وضعياتهم المادية ومحدود بشروط وجوده أم بإمكانه الإنعتاق والتأثير والتجاوز والتغيير وصناعة ماهو مختلف وجديد؟ كيف يضع الكائن شروط وجوده؟ هل بالقصص والحكاية والتشكيل وإعادة التشكيل والوساطة الرمزية أم بالالتزام والمسؤولية والمشاركة في الفعل؟ولماذا كان الإنسان ولا يزال غير راض عن حاله بماهو كائن بيو- ثقافي ؟
الأنا والآخر : الأمل الذي قد يصبح مأساة ـ حمودة إسماعيلي
في الآنا يسكن الآخر ـ محمولا في اللغة التاريخية التي تتلقّنها ـ ذلك ما يجعل الآنا تدرك/تؤسس/تحدّد علاقاتها الوجودية. علاقة الآنا غير محكومة بالآخر، إنما انفتاح باستمرار نحو الآخر، تتجاوزه إجرائياً كل مرة، وتشمل أبعادها الوجودية المفتوحة في اللغة والحب والعيش وما سواه. حيث لا يصبح الآخر مرحلة انغلاق، وتظل الآنا قادرة على صنع اختيار.
السعادة هي كوب قهوة، كتاب، أريكة، تديّن، أخلاق، مال، عمل... كل ذلك كلام فارغ. السعادة شخص، السعادة مرتبطة بالآخر. كل ما نقوم به حول سعادتنا يصب في مصلحتنا مع ذاك، الآخر.
حينما تُحب أنت لا تنتظر أن تُحب، إنما تنتظر أن يُجمَع شتاتُك.. بين الإعجاب والكبرياء والحب والكره والقُرب والنفور. تنتظر أن تجد نفسك، لأنك لم تعد تعرف نفسك بعدما انفصلت عن نفسك نحو ذاك: الآخر، الذي يُشتِّتك، والقادر على جمعك.
ميتافيزيقا الفلسفة الماركسية ـ هادي معزوز
" إن المبدأ التفسيري لحركة جميع الكائنات الحية هو الروح، فإذا قرر إنسان ما أن يجلس أو أن يقف، فإن مرد ذلك إلى الروح، من ثمة فالروح هي علة هاته الحركة." ـ أرسطو ـ
" ليس وعي الناس هو من يحدد وجودهم الإجنماعي، بل إن وجودهم الاجتماعي هو من يحدد وعيهم." ـ ماركس ـ
" لقد عمل الفلاسفة على تفسير العالم، في حين أنه يجب تغييره." ـ ماركس ـ
إذا حدث أن قلت للعديد من الماركسيين أنك ميتافيزيقي، وأن الميتافيزيقا أساس كل تفكير مهما كانت نوعيته، من العلوم إلى الطب مرورا بالفلسفة والفن... فإنه سينظر إليك بعين الارتياب، وسيصنفك ضمن التيار المثالي الذي أرست دعائمه فلسفة أرسطو إلى حدود المثالية الألمانية، وعندما ستطرح عليه علة هذا التصنيف، سيجيبك بطريقة ميكانيكية كون أن الصراع الفلسفي منذ مدة طويلة، هو صراع بين المادية والمثالية، بين من يعطي الأسبقية للفكر وبين من يعتبر الواقع أساس كل تفكير وإدراك، بين العقل والمادة، وبين الواقع والروح "l’esprit" وأن الحقيقي في هاته المعادلة الطويلة، هو الانتصار لكل ما هو مادي، أي انتصار للواقع أولا، بما أننا نوجد بداية، حيث تعمل آلة الواقع على تحديد وصنع وعينا، ثم بعد ذلك نفكر انطلاقا من واقعنا الاجتماعي والاقتصادي، أما المثالية فإنها ستقف معدومة أمام هذا القول، لأنه يستحيل أن تُصنع قبليا كي توجد، كلا إذ ما تؤخذ هذه الأمور بهاته البساطة الساذجة، أي أن حقيقة الأمر هي أننا نوجد بعديا "a postériori".
والحاصل مما تقدم في هذا الحكم، هو أن الميتافيزيقا تفكر قبليا، وبما أنها على هاته الشاكلة فإنها مثالية بطبيعة الحال، بل إن هناك مثاليات مادية أيضا أرست دعائمها فلسفة فويرباخ الساذجة، حيث كل الأشياء تلبس معطفا ماديا ثقيلا إلى درجة الإفراط... إن أول هفوة سيسقط فيها صاحب هذا الجواب المفترض، هو عندما ستطلب منه أن يقدم لك تعريفا للميتافيزيقا، حيث ينحو أغلبنا تجاه حكم شائع، مفاده أن الميتافيزيقا هي "ما وراء الطبيعة" ثم ينتهي الأمر، أي أنها تفكر في الأشياء التي لا يمكن إدراكها بواسطة التجربة الحسية، صحيح أن هناك جانبا مهما من الصواب في هذا الشأن، بيد أنه ليس هو التعريف الرئيسي للميتافيزيقا، من ثمة فإننا سنعمل في هذا المقام على الحديث عن الميتافيزيقا، ثم أسس الفلسفة الماركسية، حيث سنحصل على نتيجة معكوسة، وهي أن الماركسية خاصة من جانبيها الفلسفي أو السياسي لم تستطع الانفلات من قوة الميتافيزيقا، بل إنها كلما ابتغت لنفسها التخلص منها، إلا واتسع نطاق خضوعها لها شاءت لذلك أو لم تشأ.
كونية الفن في حضارة إقرأ ـ د.زهير الخويلدي
" إن أمر الحسن أدق وأرق من أن يدركه كل من أبصره"1[1]
لقد اهتم الفنانون في الإسلام بمختلف المهن والحرف وأتقنوا التصوير والنحت والرسم والتزويق والهندسة المعمارية والعزف والغناء ولكنهم برعوا في الشعر والخطابة وفن القول والخط والزخرفة والمنمنمات والفسيفساء وتذوقوا الطبيعة واعتبروا آيات الله في مخلوقاته وما تضمنته من تصميم بديع وجمال خلاب. لقد غادر الفن الإسلامي مساحة الخصوصية العربية وعانق رحاب الكونية وذلك حينما تم الاختلاط مع الثقافات الوافدة من الهنود والإغريق والرومان والفرس وعكس نظرات المسلم المنفتحة على العالم2[2].
كما أظهر الفنانون عناية خاصة بالطبيعة وحاولوا الاعتبار من مظاهرها الجميلة وما تكنزه من عجيب ومدهش وأسرار وتعاملوا مع عوالم الجماد والنبات والحيوان بوصفها ظاهر إعجاز وقرائن عظمة الله.
لقد ابتعد الفنانون عن فن الصورة وفن النحت وذلك لتفادي شبه مشاركة الله في صفة المصور وتحاشيا لاستعادة مظاهر الوثنية وعبادة الأصنام التي كانت سائدة في الجاهلية وتم التضييق على الشعراء والمغنين صيانة للأخلاق الحميدة وتحصينا للشباب من الفسوق ولكنهم اعتنوا في المقابل بالخط والعمارة والزخرفة للتعبير عن أفكارهم وتخطى الرسام مضمون الخط العربي وسافر به نقشا وحفرا ورميا وتخييطا وبني به أشكالا جميلة أنيقة وعناصر زخرفية طيعة واشتغل على الكتابة في الجداريات والمصاحف والقصور.
الحداثة وما بعد الحداثة : تثبيت الأصول أم كسر النماذج؟ ـ سعيد المتدين
… كما أنه طالما وجدت كلمة "حداثة Modernisme" والبادئة التي تعني (ما بعد) "post" فمن الممكن أن يتحدث البعض عن "ما بعد الحداثة postmodernisme" كمفهوم جديد يعقب الحداثة في الزمان والمكان ويبحث عن كل ما يناقضها ليعلن صراحة عن أطروحته المركزية الضامنة لشرعيته الفلسفية، ألا وهي "موت الحداثة.
ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم فضفاض وكمشروع ضخم ارتباطا بانطلاق العقلانية الغربية وتفاؤلها ونزعتها المركزية، فاقترنت بالتجليات الأساسية لانتصار العقل الأداتي وسلطته، مما أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة.
إن التأمل في ثوابت الحداثة من داخل إطارها المرجعي يفتح مجالا واسعا وخصبا من التساؤلات والإثارات النقدية التي تقف بوضوح شديد على مواضع الأزمة والقصور، وهذا ما يفسر كون الفكر الغربي عاد في المرحلة الثانية وهي مرحلة المراجعة والتصحيح إلى إخضاع المطلقات السابقة للنقد.
يعتبر التوجه النقدي جزءا من الوعي الحداثي وجانبا مهما من تفكير الحداثة، لذلك كانت الحداثة نقدا ذاتيا يسهم من زوايا متعددة في تصحيح المسار وتثبيت الأصول، ومن ثم فإن هذا النقد الذي تمارسه الحداثة على ذاتها ينطوي على خلفية أساسية تكمن في الدفاع عن مشروعها والوصول به إلى نقطة التوازن.
معضلة الدين وتماسك القانون ـ هادي معزوز
"إن المعرفة المطلقة حدسيا، هي المعرفة التجريبية بما أنها عِلَّةُ جميع الموضوعات الكونية، حيث يمكن تلخيصها في الفن والعلم"
ـ كيوم دوكام ـ
هل يجب أن نحكم بالدين، أم بالقانون، أم بِهِما معا؟ كيف سننخرط في العالم والحياة اليومية عندما نلخص الإنسان في بعده الثيولوجي فقط؟ وهل يعتبر الحكم بالقانون تملصاً من الدين كمرجعية؟ هل يجب حصر الدين في جانبه الروحاني فقط، أم أن أنه حاضر في كل علاقاتنا؟ سنحاول قراءة ما تم ذكره في هذا المقام قراءة رياضية، أي أننا سنبني قولنا في هذا الشأن عن طريق البرهان بالخلف، سنفترض كل جواب على حدة، ثم بعدها سنرى مالذي سيحصل، بناءً أولا على معطيات واقعنا الحالي، وأيضا انطلاقا من خصوصياتنا التاريخية، على الأقل ما أحوجنا اليوم إلى مناقشة هذا الموضوع مطولا، والشاهد على ذلك هو الأحداث المتسارعة التي بات يعرفها عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه.
لا شك أن هذا الذي تم ذكره آنفا خيض فيه مطولا منذ فجر الإسلام وإن باحتشام مبالغ فيه، ثم سلك طريقه الواضح منذ القرن الثاني الهجري، حيث لبس معطف التسيير والتخيير، أي هل يحكم الخليفة كخليفة أي كإنسان على غرار الجميع؟ أم أن أقدارنا تمت كتابتها قبل انبثاقنا في الوجود؟ بعبارة أخرى: هل ما يحصل لنا هو بمعزل وبمنأى عن إرادتنا؟ ومنه فإننا نحكم بالدين، أم أن لنا جانبا كبيرا من المسؤولية على أفعالنا؟ كلنا نعرف القصة الشهيرة التي حدثت للمعتزلة عندما أخرجوا هذا النقاش إلى العلن، صحيح أنه نقاش فلسفي بامتياز بيد أنه يتأسس على تربة سياسية محضة، شكلت الفتنة الكبرى والحروب بين الصحابة من أجل السلطة ديدنها الرئيسي، وبما أن الفكر الاعتزالي عاش نزرا من الدهر ثم أُقبر بعدئذ، فإن هذا النقاش بدوره عرف أفوله ليؤجل إلى موعد لاحق، والحق أننا بِتنا اليوم نعيش تَبِعاتِ كَبْتِهِ، مما جعلنا نعيش في عصر جديد لكن بعقلية العصور الوسطى، نخلط بين الديني والدنيوي، نفرض على الآخر ما نريد، ونسمح له بما نريد، مما جعلنا أمة معلقة بين السماء والأرض.