" أنا صديق سقراط وأفلاطون ولكن محبتي للحقيقة أكبر"
- شيشرون -
من سلبيات الديمقراطية، حسب إشارة أفلاطون في كتاب الجمهورية، أنها تجعلنا نرضى بالاعتقادات بدل المعارف ونتأثر بقوة الاقتناع لدى خطيب بدل نور الحقيقة لدى فيلسوف. لهذا ينبغي ألا نخشى من حيازتنا لأقل قدر من المعلومات التي تدخل في توجيه رأينا حول المعارف التي حصلنا عليها وتحديد قيمتها بغض النظر عن مخاطر التقنية وذنوب المتهم والنظام الاقتصادي الأكثر نجاعة وعدالة والسياسي الأكثر كفاءة.
بناء على ذلك نحن نتمسك بالاعتقادات الموروثة والآراء الجاهزة بدل عزمنا على الخوض في المسائل والبحث عن الحقائق ونقلل من شأن الشكاك ومجهود الحيارى وتردد المرتابين بينما نعظم من قدر من يدافع بحماسة عن وجاهة قناعاته وصواب مسلماته. في حين أن الحق يمتلك ميلا فريدا نحو مواجهة الاعتقاد الأكثر صلابة ويسعى إلى تغيير الفكر على الرغم من عناده واستبساله في الدفاع عن وجوده.
والحق أنه لا يوجد طاغية يفرض علينا التعامل مع الاعتقادات بوصفها حقائق وإنما نحن الذين نسلم بذلك لكونها دارجة في الحياة اليومية ومتعارف عليها في التفكير العمومي للبشر وتمثل قاعدة الحس المشترك. كما لا يتحلى المرء بالمرونة النقدية ولا يغادر الأرض الصلبة لليقين إلا إذا عزم يوما ما على تغيير القناعات الموروثة وتثوير الاعتقادات البالية والتخلي عن الآراء المتداولة والبحث الشخصي عن الحقيقة بممارسة التفكير واتخاذ قرار مضاد للسلطة المعرفية القائمة والذهاب في اتجاه معاكس لمتطلبات الرأي السائد.
من مفارقات الحقيقة يمكن ذكر ما يلي:
- من المتعارف علية أن الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولكن من بين الفلسفات من ينكرها والآية على أن المرء لا يدري إن كان الوجود موجودا أم لا، وان كان موجودا لا يدري أن كان العقل قادرا على معرفته أم لا، وان كان العقل قادرا لا يدري إن كانت اللغة قادرة على التعبير عن ذلك أم لا.
- يريد الإنسان إدراك الحقيقة ويسعى في سبيل ذلك ولكنه يقع فريسة الخطأ والكذب.
- يقضي كل حياته في الأوهام ويجد في ذلك متعته وسعادته ويشعر بأن الحقيقة قد تجلب له الألم والشقاء.
- ينظر المرء إلى عدة معطيات على أنها حقائق بالرغم من أنه لم يقم بامتحانها والتثبت منها.
- توجد هناك حقيقة واحدة والاختلاف يولد من تعدد الطرق المؤدية إليها.
- الحقيقة غاية العقل البشري ومطلوبة بشكل بديهي ولكن الطريق إليها وعر.
- أشد الناس ادعاء للحقيقة هو أبعدهم عنها وأقربهم إلى الجاهل الذي يجهل جهله.
- لا تمثل الحقيقة معطى جاهز قابل للاكتشاف بل تحولت إلى قيمة يجب ابتكارها.
- إذا كانت الحرية هي ماهية الحقيقة فإن نقيضها ليس الخطأ فقط بل العنف والعبودية والجهل.
هكذا يخوض الإنسان مغامرات الحقيقة متجولا بين الظن واليقين ومترددا بين الاعتقاد والمعرفة ومنتقلا بين الشك والطمأنينة ومراوحا بين النسبي والمطلق ومتأرجحا بين الجزئي والكلي وبين التجربة والعقل وتظل أحكامه معلقة بين الذاتية والموضوعية وبين التاريخ والنسق ويبقى فكره سائرا بين الانفتاح والانغلاق.
لكن كيف يمكن للمرء أن يعرف الحقيقة؟ وماهي العلامات المشيرة إليها والرموز الدالة عليها؟ هل أن ماهو حقيقي هو مشع ومتجلي دائما وأبدا؟ ألا يمكن أن يكون سرا محتجبا ومخفيا وموجودا في وضعية متكتمة؟ وهل القناعات الشخصية هي دائما في تعارض وعدائية مع الحقائق أم الخطر يأتي من الأوهام والأكاذيب؟ بأي معنى تستطيع المعرفة العلمية بلوغ إلى الحقيقة؟ كيف يشكل الإجماعUnanimité معيارا للحقيقة؟ هل يمكن الشك في ماهو نافع على صعيد المعرفة ولكن ضار في العمل؟
من الضروري أن توضع عملية النظر المعرفي ضمن السياق التاريخي وامتلاك الشروط التي من خلالها يأتي للمرء الذهاب إلى الحقيقة بدل الاعتقاد في إمكانية الاستحواذ عليها وامتلاكها من حيث الأصل وبصفة تامة ونهائية، والانتباه إلى أن الحقيقة لا توجد في الجوهر والماهية وإنما في العلاقة والحكم وتتغير بالابتعاد والاقتراب. كما يرنو المرء إلى الاقتدار على الفصل المفهومي بين الحقيقة واللاّحقيقة ورسم الحدود التي تباعد وتقرب بين الحق من ناحية أولى والخطأ والكذب والوهم ثانيا وتجاوز المراوحة بين النفي والإثبات من خلال اللاإحتجاب . لكن على ماذا يتأسس مطلب الحقيقة؟ ولماذا يبحث حينئذ الإنسان على الحقيقة؟ وماذا لو فضل البحث عن الخطأ؟ وهل يوجد إنسان يمكن أن يضحي بحياته من أجل الحقيقة؟ وما المقصود بالحقيقة الحقيقية؟ ألم تقع الريبية في الخطأ حينما وضعت كل قيم الحقيقة موضع شك؟ ووفق أي قيمة يمكن للمرء أن يقوم بالنفي والإثبات؟
كاتب فلسفي