أنفاس بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة، بدأت صحيفة  »العمل«  الشيوعية الأسبوعية تحقيقًا في موضوع مفاجئ لم يكن متوقعًا. هل ينبغي إحراق كافكا؟ تساءل المحررون. كان السؤال من أكثر الأسئلة التي ليست في محلها على الإطلاق نظرًا لأنه لم يكن مسبوقًا بأي شيء كان من المحتمل أن يمهد أو يؤدي إليه: هل ينبغي إحراق الكتب؟ أو، أي نوع من الكتب يجب أن يحرق؟ ومع ذلك ربما كان اختيار المحررين ماكرًا ودقيقًا. فمؤلف المحاكمة هو، كما يقولون، »واحد من أعظم عباقرة زماننا«. ومع ذلك أثبت عدد كبير من الردود أن الوضوح قد آتى ثماره. بالإضافة إلى ذلك، وحتى قبل أن تتم صياغة كل سؤال أو استنباطه، تلقى التحقيق إجابة حذفها المحررون من النشر - إجابة كافكا نفسه. لأنه على أية حال أثناء حياته، و إلى أن مات، كان كافكا قد تعذّب بالرغبة في أن يحرق كتبه.
 في رأيي أن كافكا ظلّ مترددًا حتى النهاية. في البداية، قام بتأليف كتبه، ويجب أن نتخيل فترة زمنية بين اليوم الذي يشرع فيه المرء في تأليف شيء ما واليوم الذي يقرر فيه إحراق ما قام بكتابته. علاوة على ذلك يبقى قراره ملتبسًا وغير حاسم: يمنح مهمة إحراق أعماله إلى صديقه الوحيد الذي أخبره بالفعل أنه لن يتمكن أبدًا من القيام بهذا. ومع ذلك، وقبل موته، عبّر بالفعل عن رغبة قاطعة في أن كل ما قد تركه وراءه يجب أن يلقى في النار. على كل حال، كان لفكرة إحراق كافكا، حتى لو لم تكن أكثر من تحريض، منطق بعينه لدى الشيوعيين. فتلك النيران المتخيلة تساهم في فهم واستيعاب كتبه. إنها كتب محكوم عليها أو مقدر لها أن تلتهمها النيران: إنها موجودة هناك، لكنها موجودة لكي تختفي، كما لو أنها بالفعل قد تم إهلاكها.
كافكا الأرض الموعودة والمجتمع الثوري: من المحتمل أن كافكا كان من بين جميع الكتاب هو الأكثر مكرًا: هو، على الأقل، لم يكن ساذجًا مخدوعًا أبدًا! في البداية، على عكس العديد من الكتاب العصريين، أراد أن يكون كاتبًا. أدرك أن الأدب، الأمر الذي كان يريده، قد أنكر عليه الرضا أو الاشباع الذي كان يتوقعه، إلا أنه لم يتوقف عن الكتابة أبدًا. حتى أننا لا نستطيع أن نقول أن الأدب قد أصابه بخيبة الأمل. لم يخيّب الأدب أمله - لم يخيب أمله، على أية حال، بالمقارنة بأهداف أخرى كانت ممكنة. كان الأدب، بالنسبة له، كالأرض المفقودة بالنسبة لموسى. »حقيقة أنه لم يتمكن من رؤية الأرض المفقودة إلا قبل موته مباشرة تبدو غير معقولة»، كتب كافكا عن موسى في يومياته، » المعنى الوحيد لهذه الرؤية أو النظرة الأخيرة هو إظهار إلى أية درجة تبدو حياة البشر ناقصة -  ناقصة، لأن هذا الجانب من الحياة ( توقع الأرض المفقودة ) يمكن أن يستمر بشكل غير محدد دون أي ظهور يدوم لأكثر من لحظة. لم يفشل موسى في الوصول إلى كنعان ليس لأن حياته كانت قصيرة جدًا، بل لأنه كان بشرًا».(١) لم يعد هذا مجرد شجب لتفاهة أو بطلان » منظور واحد للحياة»، بل لبطلان توهم كل المساعي والمحاولات، التي هي في نفس الوقت لا معنى لها: السعي ميؤوس منه إن آجلاً أو عاجلاً، مثل السمك في الماء. إنه مجرد نقطة في حركة الكون، مادمنا نتعامل مع حياة بشر.

أنفاس إذا لم تكن الثقافة معطى وميراثاً ينتقل على حاله من جيل لجيل فذلك لأنها إنتاج تاريخي، أي أنها بناء يندرج في سجل التاريخ، وبشكل أدق، في تاريخ المجموعات الاجتماعية فيما بينها.ولكي يتسنى لنا تحليل منظومة ثقافية معينة، لا بد من تحليل الوضع الاجتماعي-التاريخي الذي ينتج هذه المنظومة كما هو عليه حالها[ بالاندييه، 1955].‏
إن ما يعدّ أولياً، من الناحية التاريخية، هو الاحتكاك contact، أما الثانوي فهو عملية التمييز التي تنتج عنها الاختلافات الثقافية.يمكن أن يخطر ببال أية مجموعة بشرية في حالة معينة، الدفاع عن خصوصيتها من خلال محاولتها (الاقتناع) وإقناع الآخرين بأن نموذجها الثقافي هو نموذج أصيل وخاص بها.وأن عملية التمييز تدفع إلى تقويم وتقوية مثل هذه المجموعة من الاختلافات الثقافية أكثر من مجموعة أخرى تنشأ من طبيعة الحالة.‏
تنشأ الثقافات من علاقات اجتماعية تكون دائماً غير متكافئة.هناك إذا منذ البداية تراتب فعلي بين الثقافات ناتج عن التراتب الاجتماعي.والظن بعدم وجود تراتب بين الثقافات يعني افتراض أنها توجد بمعزل عن بعضها بعض، لاعلاقة بينها، وهو أمر غير واقعي.إذا كانت الثقافات كلها جديرة بالأهمية نفسها وبالاهتمام نفسه بالنسبة للباحث أو المراقب فهذا لا يسمح باستنتاج أن الثقافات كلها معترف بها اجتماعياًً وتنطوي على القيمة نفسها.بهذا يمكننا الانتقال من المبدأ المنهجي إلى حكم القيمة.‏
لا بد إذاً من اللجوء إلى تحليل حربي polémologique للثقافات، لأنها تنبئ عن صراعات وتتطور في حالات التوتر وأحياناً في حالات العنف.ومع ذلك، فلا بد من الابتعاد في هذا النوع من التحليل، عن التأويلات الاختزالية كتلك التي تفترض أن الأقوى يستطيع دائماً فرض نظامه الثقافي ببساطة على الأضعف.وطالما أنه لا توجد ثقافة حقيقية سوى تلك التي ينتجها الأفراد أو المجموعات التي تحتل مواقع غير متكافئة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فإن ثقافات مختلف المجموعات تجد نفسها، إلى حد ما، في وضع قوة (أو ضعف) إزاء بعضها بعضا.لكن، حتى الأضعف، لا يجد نفسه دائماً، أعزلاً تماماً في اللعبة الثقافية.‏
الثقافة المهيمنة والثقافة الخاضعة‏
القول بأنه حتى المجموعات الخاضعة اجتماعياً ليست مجردة من الموارد الثقافية الخاصة بها، لاسيما من قدرتها على إعادة تأويل الانتاجات الثقافية التي تفرض نفسها عليها إلى حد ما، لا يعني العودة إلى تأكيد أن المجموعات كلها متساوية وأن ثقافاتها متكافئة.‏
في فضاء اجتماعي معين، هناك دائماً تراتب ثقافي.

أنفاس دراسة في الفكر السياسي عند المهدي بن بركة
1 - أشكال الكفاح في إفريقيا.
-تحالف العمال والفلاحين
-العنف
- أخطاء الحركة الوطنية.
"... نعلم أن الاستغلال الاستعماري قام عندنا على اغتصاب المعمرين للأراضي الزراعية الذي نتج عنه استفحال البطالة في القرى، وهجرة الفلاحين للمدن. وهم الذين دخلوا أفواجا في الحركة الوطنية، بينما منبع سخطهم ومصدر قوتهم الثورية خارج هذه المدن وفي وسط الأرياف. ولذلك فبمجرد ما تصل حركة التحرير الوطني إلى هذه الأرياف نكون قد أقفلنا الحلقة، وتصبح الطاقة الثورية المتجمعة في كلا القطبين الحضري والبدوي قوة لا مرد لها...".
(بن بركة)
لم تكن القارة الإفريقية، عند انتقال الاستعمار الأوروبي إلى مرحلته الإمبريالية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، غير بلاد فلاحين يعيشون على الفلاحة المعاشية، وكانت هذه الميزة مسيطرة على حقيقة مركبة –حسب كاتب إنجليزي- لو كانت هذه الدول اتبعت تطورا طبيعيا دون تدخل العنصر الأجنبي، كان سينتج عن هذه الاقتصاديات المعاشية بنيات اقتصادية عصرية. غير أن دخول العنصر الأجنبي الأوروبي أفلس الفلاحة المعاشية ومعها أفلس الفلاح الإفريقي، الذي سلبت منه الأرض وسلمت للمعمرين الأوروبيين، وأصبح الإفريقي صاحب الأرض مجندا في خدمة المالك الجديد للأرض أو مجندا للبحث عن المناجم في قلب أفريقيا، وهكذا وجدت الأشغال الشاقة وظاهرة العامل المهاجر، كما عرفت المدن الإفريقية نموا مدهشا، خاصة في فترة ما بين الحربين العالميتين.
في سنة 1931، كان عدد سكان مدينة "داكار" (السينغال) 54 ألف نسمة، وبعد ثلاثين سنة ارتفع إلى 383 ألف نسمة، وفي نفس الفترة، ارتفع عدد سكان "أبيدجان" من 10.200 إلى 180 ألف نسمة، و"باماكو" (مالي) من 19.400 إلى 180 ألف نسمة، و"أكرا" من 60.700 إلى 325.000 نسمة، و"ليوبولد فيل" من 30.200 إلى 389.500 نسمة و"نيروبي" من 29.800 إلى 250.800 نسمة و"سالسيبوري" من 20.100 إلى 192.800 نسمة إلخ ....

أنفاس في الاهتمام الفلسفي المتخصص, وفي مرحلة متقدمة نسبيا من ممارسة البحث الدراسي او الاكاديمي, التقليدي يشعر بعض المشتغلين بالضيق من قيود وحدود هذا البحث فتراودهم المغامرة على تخطيه نحو نمط جديد من التأمل ينزع تدريجيا وتلقائيا, انما بقوة اكثر فاكثر وثوقا, الى التسامي التام والجذري على القواعد الاكاديمية ذاتها والميل الى اغواء <<الضياع>> في الهواء الطلق. وهي حالة او مرحلة يشعر فيها المرء بأمان طوعي مع نفسه وحدها دون العالم الخارجي, اذ تبدو اشبه بالوقوف على ضفاف نهر عذب وثر  في آن, يغوى لحظتها المتأمل تلقائيا بإدارة ظهره للموجودات الاخرى, متماهيا مع بهجة فطرية تجعله خلاقا بذاته, ولا أهمية عندئذ لصدقانية هذا الادراك او وهميته.
هذا <<الاغواء>> يقود في الفلسفة الى مرحلة متميزة في الكتابة هي <<المحاولة>>. وهذه كانت بين اغنى وأنشط مجالات الإبداع في فترات ازدهار سابقة لثقافتنا, الا اننا نلاحظ غيابها النسبي في مرحلتها الراهنة. فثمة قطيعة بين تلك الفترات وفترتها المعاصرة تتقلص تدريجيا بلا شك, بيد انها لن تزول مما يعني ان الانطلاق فيها غير ممكن الا على اساس تواصل مع المعطى الماضي (ولنقل ما قبل العثماني مؤقتا), انما على أساس جديد يتصل بالضرورة بالمنجز العالمي والغربي خاصة ويتفاعل معه لأن الفلسفة كونية بالطبع وبالطبيعة.
من هنا تأتي الأهمية الاستثنائية للترجمة الدقيقة لذلك المعطى العالمي الذي نأمل الاستفادة منه واللحاق به وربما تجاوزه. والحال ان الترجمات العربية للنصوص الفلسفية الغربية الكبرى مثلا لا تزال ضعيفة بشكل مثير برغم التلاقيات المتعاظمة بين الثقافات العالمية التي تحققت في العقود العشرة الماضية لأسباب عديدة معروفة في مقدمتها الثورة الكونية في مجال الاتصالات والمواصلات. والاخطر من ذلك ان بعض المفاهيم الفلسفية الجوهرية السائدة تتضاد مع الاصل المترجم, مما يجعل التأسيس عليها خاطئا منذ البدء مع كل ما يترتب على ذلك من أوهام ومغالطات. 
تناقضات الترجمة الفلسفية الى العربية
فعلى سبيل المثال, قادتني نزوة في مرة سابقة الى تأمل مفهوم الذات لدى ديكارت, فوجدت نفسي ازعم ان عبارة <<انا افكر اذن انا موجود>>, هذه الصياغة العربية المعتمدة من قبل الجميع كما يبدو, مضطربة قطعا  وعقيمة, كترجمة لما يعرف بـ <<الكوجيتو>> الديكارتي.
فـ (Sum Cogito Ergo( , لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تعني, بنظرنا المتواضع, مجرد <<انا افكر اذن انا موجود>>. بل تعني, حرفيا, (افكر اذن أنا). او كما نقترح <<افكر اذن ذات  أنا>>.

أنفاسلقد تم إلغاء الصمت من حياتنا بشكل كامل. وتمت عملية الإلغاء هذه بشكل تدريجي، بحيث لم يستطع أحد الانتباه إلى خطورة هذه العملية وما أدت إليه من فقدان وخسارة، إلا في وقت متأخر جداً.‏ وكانت إمكانيات التأمل، القدرة على التمييز، الهدوء وإمكانية الإحساس العميق بالجهات، أول ضحايا الضجيج الذي اقتحم وسيطر على مشهد حياتنا المعاصرة. ولكن من أكثر الخسارات فداحة في هذا المشهد غياب الموسيقى من عالمنا. نعم، غابت الموسيقى، رغم ما قد يظهر في هذا الحكم من تناقض مع واقع حياتنا اليومية والثقافية. كيف يمكن لنا القول إن الموسيقى غابت بينما هي موجودة في كل مكان، متوافرة بكل الأنماط والأشكال الممكنة ومتاحة للجميع بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية! يكفي اليوم أن تدخل إلى موقع ما على الإنترنت لتحصل على أشكال وأنماط موسيقية متنوعة من كل أنحاء العالم وثقافاته لم يكن بإمكانك أن تحلم بالحصول عليها أو الاستماع لها بهذه السهولة من قبل.‏
هل هذا التوافر الكثيف والمتواصل للموسيقى في كل زمان ومكان أمر جيد؟ لم يعد هناك فسحة صامتة واحدة في فضاء حياتنا بلا موسيقى! لقد تحول الفضاء الذي نعيش فيه إلى ما يشبه السجن الصوتي حيث تنتهك الأصوات الموسيقية بشكل عشوائي كل نشاطاتنا وفعالياتنا اليومية. علينا أن نستمع لأشكال موسيقية لم نخترها في كل مكان ومناسبة، في كل محل للتسوق، في المصعد، عند استخدام الهاتف، من كل سيارة عابرة، في كل ما نستخدمه من وسائط النقل،‏
من كل بيت في جوارنا، في أي مطعم أو مقهى، أثناء المشي أو النوم أو العمل وفي كل ما نختار وما لا نختار من لحظات وجودنا الفردي أو الاجتماعي. لقد فقدنا الموسيقى في هذا المناخ لأن وجودها تحول إلى نوع من الانتهاك النفسي والحميمية القسرية المفروضة على الإنسان من قبل المصادر الصوتية المجاورة له بشكل دائم. عندما تكون الموسيقى في كل مكان تصبح غير موجودة في أي مكان، وعندما يصبح كل شيء موسيقى نفقد القدرة على تمييزها وتذوقها. إن الصمت شرط جوهري لتحقق التجربة الموسيقية، ولا يقل أهمية وجوهرية عن أي عنصر من عناصرها الصوتية. إنه ليس مجرد فراغ صوتي حيادي. الصمت في التجربة الموسيقية ليس عدماً صوتياً. إن الصمت يلد ويغذي ويكتسب في النهاية شكل الأصوات الموسيقية، وهو بذلك يرسم تفاصيل هذه الأصوات ومسار وجودها وتطورها في الزمن. ولأن الصمت هنا ليس مطلقاً أو عدمياً، فإن حضوره وتعبيراته تمكننا من تمييز ما هو موسيقي أو غير موسيقي من الأصوات. لهذا فإن فرادة التجربة الموسيقية وروعتها الغامضة تنتقل إلينا صوتياً عبر الصمت الذي يحاول دائماً أن يقول لنا شيئاً ما. إن ما يمكن للصمت أن يقوله لنا في تجربة موسيقية راقية له دلالات عميقة ووظائف تعبيرية يمكن قراءتها وتقصيها، ليس في خصائص وبنية العمل الموسيقي فقط، بل أيضاً في عملية تحقق تجربة التذوق الموسيقي في الزمان والمكان.

أنفاس للعمل الفني الأدبي -من بين جميع تجليات اللغة -صلة امتيازية بالتأويل، ومن ثمة فهو قريب من الفلسفة، ويخيل إلي أن الاستعانة بأدوات مستعارة من الظاهراتية تمكننا من تبيان هذا الأمر.
ولكي يحصل لنا الاقتناع بذلك يجب التسليم بأن التطورات الأخيرة التي شهدتها الظاهراتية هي وحدها التي ضمنت للتأويل مكانة محورية. فهذا هوسريل يرى أن تصور الشيء باعتباره شيئا وتقييمه ومعالجته بالرجوع إلى دلالته كان شكلا راقيا من النشاط الفكري المبني على صرح طبقة ظاهرية مؤسسة للإدراك الحسي.
وعلى هذا النحو فالبعد الهرمينوطيقي، في رأيه، عنصر تال يسبقه حضور ملموس (عيني) لموضوع الإدراك في الإدراك "الخالص". لا ريب في أن هوسريل استند في وصفه الدقيق إلى منهجية هرمنوطيقية مؤكدة، ولم يكرس جهوده إلا لتأويل الظواهر من منظورات رحبة دائما وبدقة أكبر دائما. بيد أن تفكيره لم يكن لصيقا بحميمية العلاقة الجامعة بين مفهوم الظاهرة و"التأويل". وقد بين لنا ما نفعله منذ هايدگر أن الترسانة الظاهراتية عند هوسريل كانت تخفي حكما مسبقا دوغمائيا. وقد كان ماكس شيلر- ذو الذهن الثاقب المستوعب موضوعات الذرائعية الأمريكية وموضوعات نيتشه ونتائج الأبحاث الحديثة في الحساسية سباقا إلى إبراز أن لا وجود للإدراك الخالص. فالإدراك "الخالص" "المطابق مطابقة تامة للإثارة" تجريد ترجمته الإشارة الى المستوى الذي تنمحي عنده المعرفة المعيشة للعالم. أما هايدگر فيعود إليه فضل تبيان أن تجريدنا الامتلاء المحسوس للحياة المعيشة -على الرغم من كونه أحد الافتراضات الأساسية في البحث العلمي- يسنده حكم أنطولوجي مسبق مكن تاريخ الميتافيزيقا من رفع النقاب عنه. وقد كانت الذرائعية الامريكية وسيكولوجيا الأشكال- وإن بطريقة مختلفة- متمسكتين سلفا بحقيقة مفادها أن نشاط الإدراك يقدم نفسه مندمجا في سياق نفعي للحياة، مما يعني أن الظاهرة الأولى هي على الدوام رؤية شيء باعتباره شيئا، لا الإدراك الحسي الذي قد يزعم إدراك الموضوع معطى خالصا. لا وجود لرؤية ليست مسبقا ودائما >تصور شيء باعتباره كذا<. ولكن كان علينا انتظار مجيء هايدگر كي نكتشف أن التراث الميتافيزيقي الإغريقي هو المسؤول عن دوغمائية "الإدراك الخالص"، وهو الذي ساق نظرية المعرفة عندنا، نحو أفق مغلق.
كان لقاء فريدا ذاك الذي مكن هايدگر من حدسه الثوري، أعني أنه كان في الوقت ذاته تلميذا في مدرستي هوسريل وأرسطو. فعلى خلاف الظاهراتيين الآخرين -وعلى وجه الخصوص الكانطية الجديدة التي كانت لها الصولة في ألمانيا أيام شبابي- تمكن هايدگر، بفضل أصوله وتربيته وصلابة وسلامة فكره وأستاذية بعض مدرسيه في كلية العلوم الدينية بفريبورغ، تمكن من تحقيق فهم مطلق الجدة والملموسية لأرسطو. أما أنا فخريج المدرسة الكانطية الجديدة بفاربورغ حيث يزدرى أرسطوا أيما ازدراء.

أنفاس- مدخل:
من الحدود ما وضع كأنما ليخرق. كالفاصل المعروف الذي يفصل، في خوارزمية صوسير، الدال عن المدلول، والذي سيستأثر بمعظم اهتمامنا، هو الذي أصبح، في هذه الأيام، ينطوي عليه من التباسات، ويعرف من خلخلة. وليس مفهوم الفضاء، يقينا، هو آخر مفهوم تنعكس عليه آثار هذا الاضطراب الدائم، الذي يطال المعجم والفكر على حد سواء.
لذلك نرى من اللازم، قبل الشروع في تحليل ملموس لـ"فضاء" أثر أدبي، أن نحدد، بوضوح، مستوى الدال في النص الذي نروم دراسته. ويطيب لنا أن نؤكد أننا نسعى، بغاية نريدها تدميرية، أن نعود بمفهوم "الفضاء" إلى دلالته الأولى: سيكون فضاء النص، عندنا، هو البيت، والمزرعة، والعمق، والدائرية-الموصوفة والمسرودة والمشخصة لفظيا. كما نؤكد، فضلا عن ذلك، أن هذا المستوى من المعنى، المعتبر بمثابة كنه منطقي، ملتحم ودال، يبدو لنا ذا أولوية، ولو في نطاق شكل أدبي بعينه على الأقل.
وهذا أمر لا يبدو أن الجميع قد استوعبه. فنحن نرى أن غالبية الأعمال المكرسة لدراسة "الفضاء الأدبي" يمكن تصنيفها إلى فئتين: تجهد الفئة الأولى في إعطاء مفهوم الفضاء ألف دلالة ودلالة، ما عدا دلالته البدهية. ويغيب عن الفئة الثانية أننا لا ندرك الفضاء إلا من خلال نص، من جمل وكلمات، مع كل ما يكون لهذا الأمر من استتباعات على صعيد بنية هذا الفضاء وفهمه.

وعليه، فإن مقاربة الفضاء الأدبي تشكو من نقص يلزم تداركه. وسوف نسعى إلى تدارك بعض من ذلك النقص، من خلال دراسة ما نسميه فضاء المحكي. وكما لاحظنا توا، فإن هذا الأمر يستدعي تفسيرا تمهيديا: إلى أي عالم ينتمي هذا "المنزل في المزرعة"؟ وكيف نفهم دلالته، من دون أن يغيب عن بالنا أن الأمر لا يتعلق بغير كلمات ثلاث، مكتوبة على صفحة؟ ثم كيف نبرز خصوصية هذه الكلمات داخل الخطاب؛ من حيث هو شكل تشخيصي خاص، بالمقارنة إلى خصوصية الصورة التشكيلية، على سبيل التمثيل؟

1.1 - الخطاب ومرجعه:

يبدو أن خير ما نفتتح به بحثنا هذا هو مؤلف جون فرونسوا ليوطار الخطاب والصورة. فالمؤلف يطمح إلى التدليل على اشتمال الخطاب على العنصر الصوري؛ أي تلك التجربة التي تعيشها الذات وتتعذر عن التعبير. ولقد شرع، على نحو منطقي تماما، في تحديد علاقات الخطاب بما هو بصري.

معنيان ممكنان على الأقل بالنسبة لتعبير فلسفة اللغة. يمكن أن يتعلق الأول بفلسفة حول اللغة، أي بدراسة خارجية، تعتبر اللغة كموضوع معروف مسبقا وتبحث عن علاقاته مع موضوعات أخرى، مختلفة عنه، على الأقل في بداية البحث. سنتساءل على سبيل المثال حول العلاقات بين الفكر واللغة (هل لأحدهما الأسبقية على الآخر؟ كيف يتفاعلان؟) هكذا حاول تيار مثالي، في الفلسفة الفرنسية في بداية القرن العشرين أن يبين أن تبلور المعنى في كلمات مسكوكة هو أحد أسباب الوهم الجوهري للاعتقاد بوجود أشياء معطاة وحالات ثابتة. سؤال آخر كثيرا ما نوقش في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، يتعلق بدور اللغة في تاريخ الإنسانية: حاول اللسانيون المقارنون إثبات تحول اللغة عبر مرور الزمن، وحاول فلاسفة مثل هيجل، أو لغويون هيجليون مثل شليشر Scheleicher تفسير هذا الفعل المزعوم بقولهم إن الإنسان التاريخي ينزع إلى تبني موقف المستعمل إزاء اللغة: تمنح اللغة إمكانية مزدوجة للتأثير على الآخرين، ولتخليد ذكرى هذا الأثر، وهي الإمكانية التي يتأسس عليها التاريخ نفسه. فقط في المرحلة الأولى من تاريخ الإنسانية استطاع الإنسان الاهتمام باللغة في ذاتها وأن ينحو بها نحو كمالها الباطني.
غير أنه يوجد موقف آخر ممكن بالنسبة للفيلسوف المهتم باللغة، وهو إخضاع هذه الأخيرة لدراسة "داخلية" واعتبارها هي نفسها موضوع بحث. وقد انساقت الفلسفة منذ نشأتها إلى هذا النمط من البحث، إلى درجة تتقدم كتفكير. وإذا كانت في الواقع المقاربة الفلسفية لمشكلة ما هي أولا توضيح المفاهيم المضمنة في صياغة المشكل، مفاهيم تمثل عادة من خلال كلمات اللغة اليومية، فإن الفيلسوف يسعى إلى تحليل، يمكن تسميته تحليل لغوي، لمعنى الكلمات. إن بداية حوار لاسيش L'achès بداية دالة. حيث يتناقش المتحاوران لمعرفة هل المبارزة تؤدي إلى الشجاعة أم لا. يتدخل سقراط، فيعطي للمشكلة في الوقت نفسه بعدا فلسفيا كما يحولها إلى قضية لغوية "ما معنى كلمة شجاعة؟". والبحث عن دلالة عامة حيث يمكن أن نستنتج منها كل الاستعمالات الخاصة للكلمة. غير أن البحث اللغوي في حوارات أفلاطون ينتهي دائما إلى الخيبة والإحراج، ولا يصلح سوى لتهيئ الأرضية لفهم مباشر وحدسي للمفهوم (الفهم الذي لا ينتج من جهة أخرى إلا في بعض الحوارات "المكتملة"). لقد تم تطبيق التحليل اللغوي، الذي يحضر في كل فلسفة نظرية، بشكل نسقي –واعتبروا التحليل اللغوي في الغالب الدراسة الفلسفية المشروعة الوحيدة- من قبل أغلب الفلاسفة الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين الذين ينعتون أنفسهم بـ"فلاسفة اللغة" ويسمون دراساتهم بالفلسفة التحليلية. حيث طوروا بعض أفكار المناطقة الوضعيين الجدد، مثل كارناب Carnap واستلهموا أعمال مور More وراسل Russel وفتجنشتاين Wittgenstein مؤكدين أن أكبر جزء من الفلسفة المكتوبة، ليس خطأ، بل عديم المعنى، ولا يستمد عمقه الظاهري إلا من الاستعمال السيء للغة العامة.