
ولكي يحصل لنا الاقتناع بذلك يجب التسليم بأن التطورات الأخيرة التي شهدتها الظاهراتية هي وحدها التي ضمنت للتأويل مكانة محورية. فهذا هوسريل يرى أن تصور الشيء باعتباره شيئا وتقييمه ومعالجته بالرجوع إلى دلالته كان شكلا راقيا من النشاط الفكري المبني على صرح طبقة ظاهرية مؤسسة للإدراك الحسي.
وعلى هذا النحو فالبعد الهرمينوطيقي، في رأيه، عنصر تال يسبقه حضور ملموس (عيني) لموضوع الإدراك في الإدراك "الخالص". لا ريب في أن هوسريل استند في وصفه الدقيق إلى منهجية هرمنوطيقية مؤكدة، ولم يكرس جهوده إلا لتأويل الظواهر من منظورات رحبة دائما وبدقة أكبر دائما. بيد أن تفكيره لم يكن لصيقا بحميمية العلاقة الجامعة بين مفهوم الظاهرة و"التأويل". وقد بين لنا ما نفعله منذ هايدگر أن الترسانة الظاهراتية عند هوسريل كانت تخفي حكما مسبقا دوغمائيا. وقد كان ماكس شيلر- ذو الذهن الثاقب المستوعب موضوعات الذرائعية الأمريكية وموضوعات نيتشه ونتائج الأبحاث الحديثة في الحساسية سباقا إلى إبراز أن لا وجود للإدراك الخالص. فالإدراك "الخالص" "المطابق مطابقة تامة للإثارة" تجريد ترجمته الإشارة الى المستوى الذي تنمحي عنده المعرفة المعيشة للعالم. أما هايدگر فيعود إليه فضل تبيان أن تجريدنا الامتلاء المحسوس للحياة المعيشة -على الرغم من كونه أحد الافتراضات الأساسية في البحث العلمي- يسنده حكم أنطولوجي مسبق مكن تاريخ الميتافيزيقا من رفع النقاب عنه. وقد كانت الذرائعية الامريكية وسيكولوجيا الأشكال- وإن بطريقة مختلفة- متمسكتين سلفا بحقيقة مفادها أن نشاط الإدراك يقدم نفسه مندمجا في سياق نفعي للحياة، مما يعني أن الظاهرة الأولى هي على الدوام رؤية شيء باعتباره شيئا، لا الإدراك الحسي الذي قد يزعم إدراك الموضوع معطى خالصا. لا وجود لرؤية ليست مسبقا ودائما >تصور شيء باعتباره كذا<. ولكن كان علينا انتظار مجيء هايدگر كي نكتشف أن التراث الميتافيزيقي الإغريقي هو المسؤول عن دوغمائية "الإدراك الخالص"، وهو الذي ساق نظرية المعرفة عندنا، نحو أفق مغلق.
كان لقاء فريدا ذاك الذي مكن هايدگر من حدسه الثوري، أعني أنه كان في الوقت ذاته تلميذا في مدرستي هوسريل وأرسطو. فعلى خلاف الظاهراتيين الآخرين -وعلى وجه الخصوص الكانطية الجديدة التي كانت لها الصولة في ألمانيا أيام شبابي- تمكن هايدگر، بفضل أصوله وتربيته وصلابة وسلامة فكره وأستاذية بعض مدرسيه في كلية العلوم الدينية بفريبورغ، تمكن من تحقيق فهم مطلق الجدة والملموسية لأرسطو. أما أنا فخريج المدرسة الكانطية الجديدة بفاربورغ حيث يزدرى أرسطوا أيما ازدراء.