عندما تفلس أمة، وتفقد قيمها تلك المعاني الحضارية الجميلة المتوهجة التي توارثتها جيلا بعد جيل، فانه يتسلط عليها من هم دون مستوى تلك القيم الروحية والفكرية والجمالية بدعواتهم المتغابية ورداءتهم الطموحة، الى إعادة النظر في تاريخ الشعوب والأمم، وتشكيل رموزه عن طريق استنساخه من الخلايا الحية باستغلال منهج الهندسة الوراثية، أو استعارة منهج اعترافي يساعدهم على تعرية مشاعرهم وأفكارهم التي ورثوها عن عصاب اجتماعي موغل في التعصب، مولع بركب أمواج الموضة والدعوة إلى الانسلاخ دون أي مبرر أخلاقي أو فلسفي أو ديني أو تاريخي.
إن معارضة التاريخ وحشره في مناهج تعسفية على حد تعبير شبنجلر:<< ومعارضة لكل هذه المناهج التعسفية والمنشقة من التقليد والاختيار الشخصي والتي حشر فيها التاريخ حشرا لهو ضرب من الجنون والتعبير عن نيات سيئة ونظريات واهية تبدو في عيون أصحابها سليمة، وتبدو لغيرهم ممن أمعنوا النظر في لوحات هيرودوت وكتابات أفلاطون وأرسطو وشيشرون وأوغسطين وابن رشد وتوما الأكويني بأنها سطحية ومتعارضة >>..وهذا ما وصفهم به أيضا واحد من كبار مفكري هذا العصر الذين أوغلوا بعيدا في الفلسفات والحضارات والديانات محاورا ومجادلا وناقدا ومفندا: <<وهذه النظرية لا تجد إلى اليوم شراحا يحرصون على الغلو في مداها، وعلى نسيان الروابط الكثيرة التي ربطت جميع ثقافات البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى بعضها ببعض>>.
نعم إن هذه القراءات التي تستمد قوتها، وتستلهم حججها من مثل هذه النظريات التي يلجأ أصحابها إلى التسلح بجميع الأساليب والحيل لإقامة نظرية في علم الاجتماع الثقافي، تقوم أساسا على تنفيذ الأوامر وانتظار المكافآت قد دحضها سارتر مرتين، مرة عندما كتب قائلا:<< إن حكام المستعمرات لا يؤجرون لكي يقرؤوا هيغل، وهم لهذا قلما يقرؤونه، ولكنهم ليسوا بحاجة إلى هذا الفيلسوف ليعرفوا إن الضمائر الشقية كانت تتشوش بمتناقضاتها">>؛ ومرة عندما راح يشرح فكرة الاستعمار كنظام متخذا من الجزائر نموذجا فكتب قائلا:<< تلك هي الحجة؛ وقد أجاب عليها زعماء جبهة التحرير الوطني بقولهم: إننا سنحارب حتى ولو كنا سعداء في ظل الحراب الفرنسية>>.
نعم إننا لسنا قي حاجة إلى قراءة القديس أوغسطين لكي نكتشف تاريخ أمتنا من جديد، أو نصلح اعوجاجا في حضارتنا، أو كأن نباعد بين حلقاتنا الثلاث بقدر ما نحن في حاجة إلى قراءة هذا القديس الفيلسوف قراءة ابستمولوجية متأنية، أو قراءة بنيوية تفكيكية انثروبولوجية بعيدة عن المسخ الأيديولوجي, أو كأن نطبق عليه منهجا مقارنا يسمح لنا باكتشاف ذواتنا فيه, بدلا من الأحكام التوتولوجية المتواطئة التي تنطلق من خلفيات يتحكم فيها وضع أمني متسلط, وآخر سياسوي متعفن يريد أن يوهم الناس بأن لهم في التاريخ أسماء كبيرة غير ماسينيسا ويوغرطا والأب دونات الذي أخذ مكانه القديس أوغسطين ..
العـولمة: تعـايش الإختـلافـات *- علاء فوزي أبو طه
إذا كان العالم يعرف شكلا من إشكال العولمة يتمثل في وجود قوى دولية تشارك بصورة مباشرة في السياسات العالمية، عبر قنوات متعددة تصل المجتمعات بعضها ببعض، وفي شكل علاقات غير رسمية تقوم بين النخب الحكومية والغير حكومية، وبواسطة منظمات عابرة للقوميات كالمنظمات الدولية والشركات والبنوك متعدية الجنسيات، تلعب دورا مهما في تلك العلاقات.
ويكتمل هذا الشكل من أشكال العولمة مع النظام العالمي الذي استقر في إعقاب الحرب العالمية الثانية بإنشاء منظمة الأمم المتحدة وشبكة المنظمات والمؤسسات والوكالات المتخصصة المتفرعة عنها والعاملة في إطارها.
فهذان النمطان للعولمة، يخلوان من الهيمنة والسيطرة، وفرض النفوذ الواسع بدعوى الانفراد بالقوة المتفردة. وقد عاش المجتمع الدولي في ظل هذين النظامين ما يزيد عن أربعة عقود, إلي أن تغيرت الخريطة السياسية العالمية, واخذ بالتبلور والتشكيل في إعقاب انتهاء الحرب الباردة، قد انتهى إلى إيجاد آلية للتعامل على المستوى العالمي تقضى بإخضاع العلاقات الدولية في مجالات التجارة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا إلى نظام ذو طابع عالمي موحد, والى إكساب العلاقات الدولية طابع العالمية, وهو ما يصطلح عليه "العولمة"، فان المصالح المشتركة للشعوب والحكومات لن تتحقق في إطار هذا النظام بتجاوز هويات الأمم والشعوب، أو بمحو خصوصيتهم الثقافية والحضارية، وآيا كانت الأسباب وراء طبيعة العلاقات الدولية، فان هناك اتفاق بين الدارسين والباحثين والمفكرين بأن هذه العلاقات تنطوي على (صراع لا ينتهي على القوة من اجل المصالح)، ولكن على أساس ما يعرف بنموذج" الاعتماد المتبادل" ، فالعولمة تعني كما يقول "جوزيف س.ناي الابن" (زيادة في نمو شبكات من الاعتماد المتبادل بين الدول والجماعات على صعيد العالم كله)، الذي يؤكد على الأبعاد التعاونية في الطبيعة الإنسانية وفي العلاقات بين الدول، (كما سنرى لاحقا انه لا يمكن للولايات المتحدة أن تحكم العالم وحدها دون التعاون مع باقي الدول والشعوب) وهذا النموذج "الاعتماد المتبادل" يستند إلى قوى روابط التعليم والتفاعلات الثقافية والتنمية الاقتصادية والتجارة الدولية، والتقدم التكنولوجي، ويعزز بذلك إمكانيات السلام الدولي، والكرامة والحريات الإنسانية الأساسية، وهذا النموذج للعولمة يرى العالم على انه يمثل (مجتمعا) من الدول (المجتمع الدولي) التي تتفاعل فيما بينها على مستوى عالٍ له ديناميكيته الذاتية في مجالات التبادل الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
لذلك فان العولمة لا يمكن أن تكون مجالا نقيضا للهوية دائما، ولن تكون بديلة عنها، والعولمة بهذا المفهوم وفي هذه الحدود، وفي إطار "التنوع الثقافي" وازدهار هويات الشعوب، وفي ظل الحوار الراقي الهادف بين الحضارات، هي الخيار الإنساني المتاح والمفتوح أمام مستقبل البشرية، وهو الأمر الذي سيؤدي وبالتتابع وبتراكم التجارب إلى تعميق الاحترام المتبادل بين الجميع.
العـولـمة: مصـادرة الخصـوصـيات* - علاء فوزي أبو طه
العولمة ظاهرة متعددة، سياسية، اقتصادية، ثقافية،...الخ، وما يهمنا هو البعد الثقافي للعولمة، فعندما نتطرق لمفهوم العولمة نقصد به "العولمة الثقافية"، فماذا نقصد بالعولمة الثقافية؟.
إن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة، نظرا إلى تعدد تعاريفها والتي تتأثر أساسا باتجاهات الباحثين أو الأحكام التي يبثونها رفضا أو قبولا، فضلا على أن العولمة ظاهرة غير مكتملة الملامح كما يدعي كثير من الباحثين.
والعولمة في أصلها اقتصادي، قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة، وإتاحة حرية تنقل السلع والخدمات. مع أن الاقتصاد والتجارة مقصودتان لذاتهما في العولمة، إلا أنها لا تقتصر عليهما وحدهما وإنما تتجاوزهما إلى المجال السياسي والثقافي والاجتماعي بما يتضمنه ذلك من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية ومواقف سياسية، وكل ذلك هو الذي يصوغ هوية الشعوب. والعولمة ليست مركب متجانس ظهرت كل أبعاده فجأة، بل هناك مجالات سبقت الأخرى.
أما بالنسبة لتأريخ ظاهرة العولمة، فهناك اتجاهان بارزان يطرحان العولمة إما أنها وليدة حقبة التسعينات وما رافقها من انهيار المنظومة الاشتراكية وتغيرات بنيوية على مختلف الأصعدة التي واكبت نهاية القرن العشرين والمتسمة بالهيمنة الأمريكية وبقيم الثقافة الغربية، وهنا تبدو العولمة نتيجة مسببات راهنة، تخدم الوضع الدولي القائم الآن. في مقابل هذه المقاربة التاريخية الإختزالية، هناك وجهة نظر تذهب إلى القول بتاريخية العولمة، فالعولمة الراهنة ما هي إلا صورة منفتحة ومتطورة لعولمة تعود إلى بداية التاريخ. وكما يقول د.إبراهيم أبراش: "بأن العولمة كفكر وتطلع إنساني يتجاوز قيود الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية الموهومة والتطلع نحو عالم يعترف بإنسانية الإنسان ككائن ينتمي إلى وطن عالمي وقانون عالمي، تقترب بجذورها إلى ما قبل وجود الولايات المتحدة على الخريطة السياسية الدولية، بل قبل وجود الرأسمالية كنظام اقتصادي والليبرالية كنظام سياسي. ويمكن القول أن الفلسفة الرواقية أول من بشر ودعا إلى العولمة دون أن تسميها عولمة، وذلك من خلال مبدأين الدولة العالمية والمواطنة العالمية أو مدينة العالم، ..كذلك لا تخلو الديانة الإسلامية من شكل من العولمة، فدعوة الإسلام للتوحيد وعدم التفرقة بين الناس على أساس العرق أو المكانة الاجتماعية، وكونه رسالة لكل البشر في كل زمان ومكان، وحيث أنه عبادات ومعاملات تحدد للبشر المبادئ العامة لأسلوب حياتهم، فهذا يعني أنه دعوة مبكرة للعولمة. والعولمة متضمنة أيضا في الدعوات المبكرة في عصر التنوير في أوروبا، لوضع قانون دولي عام أو قانون للأمم كما سماه"جيرمي بيتنام" وفكرة تأسيس منظمات دولية لا تخلو من فكر معولم.
الهوية بين ضرورات الذات وتطورات العصر - محمد محفوظ
دائما ولدى كل الشعوب والمجتمعات، تشكل الهوية والمنظومة المعرفية الذاتية، بعناصرها العقدية والثقافية، عنصر أساس لتوازن الكيان المجتمعي.. بحيث ان وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية الأفول والتقهقر الحضاري.
فالعالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، بدأ بالتفكك والضعف والدخول في نفق السيطرة الأجنبية كنتيجة طبيعية لما حدث للأمة، على مستوى الهوية والمنظومة المعرفية. وبالتالي فإن خيارات النهوض على الصعيدين الثقافي والحضاري وتجاوز المآزق الراهنة، التي تعاني منها الأمة، لا تتم إلا على قاعدة إنسجام هذه الخيارات مع هوية الأمة ومعادلتها الذاتية، أو منبثقة من مضمون الهوية والذات الحضارية.. ودائما حسن العلاقة مع الهوية بمكوناتها الأصلية، كفيل بأن يعيد للأمة حيويتها الحضارية، ويقوي من إمكانات قيامها بدورها التاريخي تجاه العالم.. لأن الهوية ليست كياناً ثابتاً جامداً، بل هي متحركة ومتطورة، بحيث نجد هذه الهوية كمفاهيم وقيم وأطر تتمدد في الوسط الاجتماعي، وتُلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل وتفاصيل الحركة الاجتماعية، وهذه الحركة الاجتماعية المعتمدة في علائقها وحراكها وتدافعها على هذه الهوية الحضارية، تقوم بدورها بعملية معكوسة حيث تغذي الذات الحضارية، وتزيد من شموليتها، وتعمق أبعادها؛ وتصبغ كل شيء بلونها.
لماذا التأكيد على مسألة الهوية؟
تنبع أهمية التأكيد على مسألة الهوية بعناصرها الثقافية والحضارية والتنموية من النقاط التالية:
1_ وعي التطور
التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود، وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض، حتى أضحت (قرية كبيرة)، حسب تعبير (ماك لوهان)، كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاوي سحيقة، أو في أحسن التقادير، تحوله إلى لاهث وراء الجديد في التكنولوجيا وصناعة المعلومات. وهذا ما يفسر لنا عملية الخلط الموجود في الفضاء العربي والإسلامي، بين المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، وبين تاريخية المفاهيم والقيم النهضوية.
إن غياب تاريخية المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، جعلنا نقوم بعملية ابتسار لقيم التقدم ومفاهيم النهضة والتطور، وانتزاعها انتزاعاً من سياقها المعرفي الغربي بشكل مجرد، متغافلين عن حركة تطورها الطبيعية وسياقها الاجتماعي والحضاري.
شجاعة مؤرّخ يهودي - عز الدّين عناية*
سُحب من المكتبات الإيطالية خلال الأيّام القليلة الماضية كتاب "أعياد فصح دامية: يهود أوروبا والقتل الشّعائري"، الذي نشرته دار "مولينو" بمدينة بولونيا، لما أثاره من انتقادات بين يهود إيطاليا. والمؤلَّف للمؤرّخ اليهودي أرييل طُوَاف، أستاذ التّاريخ الوسيط وتاريخ عصر النّهضة في جامعة بار إيلان، معقل الأرثوذكسية بإسرائيل. المؤرّخ إيطالي الأصل، ابن حاخام روما الأسبق ورئيس اتحاد الجاليات اليهوديّة الإيطالية، إيليو طواف.
تتمثّل أطروحة صاحب الكتاب في إعادة النّظر في حيثيات التّهم والمحاكمات والاعترافات، ذات الصّلة بالقتل الشّعائري للأطفال، الذي نسب لأفراد وجماعات يهودية، من طرف محاكم التّفتيش، في أوروبا في العصر الوسيط، ما بين 1100 و 1500م، في المنطقة النّاطقة بالألمانية، الممتدّة بين رينو والدّانوب وآديجي، والتي ضمّت دويلة ترنتو التابعة، لإيطاليا في الوقت الحالي. وهي منطقة، جرّاء ما خلّفته المجازر والتّنصير القسري فيها، صارت مغلقة على يهودها، يميزهم التوجّس والعنف تجاه الخارج.
أصالة المؤرّخ في شهادته على الذّات الحضارية والدّينية التي ينحدر منها بالخطأ، فقد خلص إلى التورّط الفعلي لبعض أبناء ملّته في ممارسات قتل شعائري، بغرض إضافة دم الضّحايا للفطير المقدّس. وتصريحه بذلك يعبّر عن أمانة علمية قلّ نظيرها اليوم، في التعامل مع مسألة طالما صنِّفت من جملة الافتراءات التي ألحقت باليهود، لما لفّ الموضوع من أسطرة مما أخرجه من حيز الواقعية.
الخطير كما يقول المؤرّخ أن تابو اللاسامية صار يهدّد ويعوق أي بحث حرّ وأمين. رغم ذلك لم يحسب حسابات ضيّقة لما سيخلّفه مقوله من أثر عليه، وعلى طائفته، وعلى دينه، ووالده كان بالأمس القريب النّاطق الرّسمي والزّعيم الأوحد للجاليات اليهودية في إيطاليا.
يخلص المؤرّخ أرييل طُوَاف إلى أنّ مجموعة من الأشكناز، من غُلاة اليهود الأوروبيين، لا عامة اليهود، ممن لم يلتزموا بتعاليم التّوراة بتحريم سفك الدّماء، مارست هذه الشّعائر واستباحت دماء أبرياء. بغرض استعماله للأزيم، الخبز غير المخمّر، الذي يتناول أثناء الفصح اليهودي، كما يضاف إلى الخمرة في ذكرى الخروج والخلاص من مصر الفرعونية.
حضرت إيطاليا بشكل بارز في الكتاب، عبر حادثة مقتل الطّفل سيمون بترنتو خلال 1475، وهو ما قاد لاحقا إلى التهجير شبه الكامل للجالية اليهودية من تلك الدويلة عصرئذ.
الجذور التاريخية ـ الحضارية للظاهرة التوفيقية - د. محمد عابد الجابري
1ـ في الشرق الأدنى القديم:
التوفيقية الفكرية والمجتمعية التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هل هي مجرد استجابة آنية لظروف وقتية عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمرارية التاريخية ـ الحضارية للمنطقة، أم إنها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمرارية؟
إذا كانت الظاهرات الفكرية والمجتمعية لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضية المعاصرة لاكتشاف حفائر التكون الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخية المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكرية التوفيقية التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس، وذلك ليكون بحثنا في مناحي التوفيقية المعاصرة مستنداً إلى جذوره التاريخية القديمة، بعد أن رأينا مدى صلتها بالبيئة الاجتماعية السياسية الحديثة التي تولدت فيها.
تبدو (الظاهرة التوفيقية) على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. ويمكن إيجاز أبرز معالمها وأدلها، وتبيان طبقاتها المتعاقبة وصورها المتكررة المستعادة في تتبع التشكلات الحضارية التاريخية التالية بشكل وجيز ومكثف.
أولاً: عندما حدثت المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية نشأت الحاجة لأول مرة في الشرق الأدنى ـ وربما في تاريخ العالم ـ إلى إقامة التوفيق بين العقل والإيمان وبين المنطق الانساني والوحي الإلهي، وشهدت الديانة الموسوية جهداً عقلياً ونشاطاً دينياً متفلسفاً كان أبرز مفكريه (فيلون) الذي عاش بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وجاء بالمفهومين المزدوجين القائلين: إن النص الديني (التوراة) وحي إلهي، وإن الفلسفة اليونانية تمثل الحقيقة الكونية، وعليه فقد وجد نفسه في مواجهة مشكلة (إقامة التوفيق reconciliation) بين الفلسفة والشريعة، بين أفلاطون وموسى. ويرى أرنولد توينبي ان هذه المجابهة المبكرة بين التأثير الإغريقي (الهيليني) الوافد مع النفوذ الروماني، وبين التراث الديني الإيماني للمشرق السوري لم تقف عند حدود إقامة توفيقية دينية فلسفية في اليهودية، بل مثلت ـ حسب تعبيره ـ الجدلية الخلاقة التي أثمرت المسيحية.
الـدِيـن والـتـأويـل - أوكـتافـيو بـاث

وليس صعباً أن نستنتج من نقد هيوم النتيجة التالية: أن أصل فكرة التاريخ كتقدم هو ديني والفكرة نفسها شبيهة جداً بالدين. إنها نتيجة استنتاج ناقص: الاعتقاد بأن الطبيعة لها خطة، ومماثلة هذه الخطة مع حركة التاريخ والمجتمع إلى الأمام. ويظهر خط التفكير نفسه في جميع الأديان والأديان الزائفة في مرحلتها الأولى، كما لوحظ الانتظام الحقيقي أو الظاهر. وأدخلت فكرة الغائية في نظام الطبيعة، بعد ذلك على الفور، عزيت التغييرات والاضطرابات الاجتماعية إلى فعل المبدأ نفسه الذي يدفع الطبيعة إلى العمل.
تحقيب التاريخ الاسلامي – د.عبد الله العروي
لم يميز المؤلفون المسلمون بين التحقيب والتأريخ كما يدل على ذلك التعريف الذي يقول: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع وقيل إنه مدّة معلومة بين حدوث أمر ظاهر وبين أوقات حوادث أخر. التعريف الثاني، النسبي، هو الذي يفيد فكرة التحقيب.
يلجأ المؤرخون الذين كتبوا بالعربية، أكانوا مسلمين أو لا، إلى تقسيم تقليدي نلخصه في النقاط التالية:
1- يسوقون في قسم تمهيدي الملاحم والأساطير على صورتها الشائعة بين أصحابها، في غياب قياس برهاني يمكن من تمحيصها. يحشرون المرويات المتعلقة ببداية الكون والأرض والإنسان وكذلك أخبار الأمم البائدة أو النائية مثل الصين والهند والزنوج وسكان المناطق الشمالية. فهذا القسم هو بمثابة وصف _كوني (كوسموغرافيا)، وصف _جنسي (اثنوغرافيا ووصف _ أرضي (جيوغرافيا).
2- ثم ينتقلون، في قسم لاحق، إلى أخبار الأنبياء والرسل معتمدين على ما جاء في التوراة، وبالمناسبة يذكرون أخبار الأمم التي كانت لها علاقة ببني إسرائيل كالكلدانيين والسريانيين وغيرهم.
3 - ثم يروون، في قسم ثالث، أخبار الملوك، أي وقائع الامبراطوريات القديمة، الفارسية واليونانية والرومانية، ويذكرون بالمناسبة أيام العرب الأولين.
4 - ثم يقصّون، في قسم رابع، تاريخ العرب بعد ظهور الإسلام ويلحقون بهذا التاريخ ما يعرفون عن الروم والإفرنج وملوك الهند وغيرهم.
5 - ثم يسوقون، في قسم خاص، أخبار العجم من أتراك وبربر، إلخ. وبما أن هذا التاريخ لا يزال في تطور، فإن الرواية تنحلّ تدريجياً في حوليات قابلة للوصل والتكملة.
وهكذا نلاحظ نفس الاتجاه العام في التأليفين، العربي والغربي، من أخبار الأمم والدول (الحقبيات والتجارب) إلى أحداث السنوات وربما الشهور (الحوليات واليوميات). لا يوجد إذاً فرق جوهري بين الاسطوغرافيتين، اللهم ان الإسلامية أوسع مادة وأكثر دقة فيما يتعلق بأخبار الشرق والمناطق المجاورة له وأكثر خلطاً وإيجازاً عندما تتعرض لأخبار اليونان والرومان.
يوجد إذاً توافق ضمني بين التحقيبين التقليديين، الإسلامي والغربي، ويدخل في هذا الإطار اقتراح المؤرخ الامريكي مارشال هودجسُن الذي يميز داخل التاريخ الإسلامي الفترات التالية: