أنفاسالعولمة ظاهرة متعددة، سياسية، اقتصادية، ثقافية،...الخ، وما يهمنا هو البعد الثقافي للعولمة، فعندما نتطرق لمفهوم العولمة نقصد به "العولمة الثقافية"، فماذا نقصد بالعولمة الثقافية؟.
إن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة، نظرا إلى تعدد تعاريفها والتي تتأثر أساسا باتجاهات الباحثين أو الأحكام التي يبثونها رفضا أو قبولا، فضلا على أن العولمة ظاهرة غير مكتملة الملامح كما يدعي كثير من الباحثين.
والعولمة في أصلها اقتصادي، قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة، وإتاحة حرية تنقل السلع والخدمات. مع أن الاقتصاد والتجارة مقصودتان لذاتهما في العولمة، إلا أنها لا تقتصر عليهما وحدهما وإنما تتجاوزهما إلى المجال السياسي والثقافي والاجتماعي بما يتضمنه ذلك من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية ومواقف سياسية، وكل ذلك هو الذي يصوغ هوية الشعوب. والعولمة ليست مركب متجانس ظهرت كل أبعاده فجأة، بل هناك مجالات سبقت الأخرى.
أما بالنسبة لتأريخ ظاهرة العولمة، فهناك اتجاهان بارزان يطرحان العولمة إما أنها وليدة حقبة التسعينات وما رافقها من انهيار المنظومة الاشتراكية وتغيرات بنيوية على مختلف الأصعدة التي واكبت نهاية القرن العشرين والمتسمة بالهيمنة الأمريكية وبقيم الثقافة الغربية، وهنا تبدو العولمة نتيجة مسببات راهنة، تخدم الوضع الدولي القائم الآن. في مقابل هذه المقاربة التاريخية الإختزالية، هناك وجهة نظر تذهب إلى القول بتاريخية العولمة، فالعولمة الراهنة ما هي إلا صورة منفتحة ومتطورة لعولمة تعود إلى بداية التاريخ. وكما يقول د.إبراهيم أبراش: "بأن العولمة كفكر وتطلع إنساني يتجاوز قيود الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية الموهومة والتطلع نحو عالم يعترف بإنسانية الإنسان ككائن ينتمي إلى وطن عالمي وقانون عالمي، تقترب بجذورها إلى ما قبل وجود الولايات المتحدة على الخريطة السياسية الدولية، بل قبل وجود الرأسمالية كنظام اقتصادي والليبرالية كنظام سياسي. ويمكن القول أن الفلسفة الرواقية أول من بشر ودعا إلى العولمة دون أن تسميها عولمة، وذلك من خلال مبدأين الدولة العالمية والمواطنة العالمية أو مدينة العالم، ..كذلك لا تخلو الديانة الإسلامية من شكل من العولمة، فدعوة الإسلام للتوحيد وعدم التفرقة بين الناس على أساس العرق أو المكانة الاجتماعية، وكونه رسالة لكل البشر في كل زمان ومكان، وحيث أنه عبادات ومعاملات تحدد للبشر المبادئ العامة لأسلوب حياتهم، فهذا يعني أنه دعوة مبكرة للعولمة. والعولمة متضمنة أيضا في الدعوات المبكرة في عصر التنوير في أوروبا، لوضع قانون دولي عام أو قانون للأمم كما سماه"جيرمي بيتنام" وفكرة تأسيس منظمات دولية لا تخلو من فكر معولم.

أنفاسدائما ولدى كل الشعوب والمجتمعات، تشكل الهوية والمنظومة المعرفية الذاتية، بعناصرها العقدية والثقافية، عنصر أساس لتوازن الكيان المجتمعي.. بحيث ان وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية الأفول والتقهقر الحضاري.
فالعالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، بدأ بالتفكك والضعف والدخول في نفق السيطرة الأجنبية كنتيجة طبيعية لما حدث للأمة، على مستوى الهوية والمنظومة المعرفية. وبالتالي فإن خيارات النهوض على الصعيدين الثقافي والحضاري وتجاوز المآزق الراهنة، التي تعاني منها الأمة، لا تتم إلا على قاعدة إنسجام هذه الخيارات مع هوية الأمة ومعادلتها الذاتية، أو منبثقة من مضمون الهوية والذات الحضارية.. ودائما حسن العلاقة مع الهوية بمكوناتها الأصلية، كفيل بأن يعيد للأمة حيويتها الحضارية، ويقوي من إمكانات قيامها بدورها التاريخي تجاه العالم.. لأن الهوية ليست كياناً ثابتاً جامداً، بل هي متحركة ومتطورة، بحيث نجد هذه الهوية كمفاهيم وقيم وأطر تتمدد في الوسط الاجتماعي، وتُلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل وتفاصيل الحركة الاجتماعية، وهذه الحركة الاجتماعية المعتمدة في علائقها وحراكها وتدافعها على هذه الهوية الحضارية، تقوم بدورها بعملية معكوسة حيث تغذي الذات الحضارية، وتزيد من شموليتها، وتعمق أبعادها؛ وتصبغ كل شيء بلونها.
لماذا التأكيد على مسألة الهوية؟
تنبع أهمية التأكيد على مسألة الهوية بعناصرها الثقافية والحضارية والتنموية من النقاط التالية:
1_ وعي التطور
التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود، وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض، حتى أضحت (قرية كبيرة)، حسب تعبير (ماك لوهان)، كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاوي سحيقة، أو في أحسن التقادير، تحوله إلى لاهث وراء الجديد في التكنولوجيا وصناعة المعلومات. وهذا ما يفسر لنا عملية الخلط الموجود في الفضاء العربي والإسلامي، بين المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، وبين تاريخية المفاهيم والقيم النهضوية.
إن غياب تاريخية المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، جعلنا نقوم بعملية ابتسار لقيم التقدم ومفاهيم النهضة والتطور، وانتزاعها انتزاعاً من سياقها المعرفي الغربي بشكل مجرد، متغافلين عن حركة تطورها الطبيعية وسياقها الاجتماعي والحضاري.

أنفاسسُحب من المكتبات الإيطالية خلال الأيّام القليلة الماضية كتاب "أعياد فصح دامية: يهود أوروبا والقتل الشّعائري"، الذي نشرته دار "مولينو" بمدينة بولونيا، لما أثاره من انتقادات بين يهود إيطاليا. والمؤلَّف للمؤرّخ اليهودي أرييل طُوَاف، أستاذ التّاريخ الوسيط وتاريخ عصر النّهضة في جامعة بار إيلان، معقل الأرثوذكسية بإسرائيل. المؤرّخ إيطالي الأصل، ابن حاخام روما الأسبق ورئيس اتحاد الجاليات اليهوديّة الإيطالية، إيليو طواف.
تتمثّل أطروحة صاحب الكتاب في إعادة النّظر في حيثيات التّهم والمحاكمات والاعترافات، ذات الصّلة بالقتل الشّعائري للأطفال، الذي نسب لأفراد وجماعات يهودية، من طرف محاكم التّفتيش، في أوروبا في العصر الوسيط، ما بين 1100 و 1500م، في المنطقة النّاطقة بالألمانية، الممتدّة بين رينو والدّانوب وآديجي، والتي ضمّت دويلة ترنتو التابعة، لإيطاليا في الوقت الحالي. وهي منطقة، جرّاء ما خلّفته المجازر والتّنصير القسري فيها، صارت مغلقة على يهودها، يميزهم التوجّس والعنف تجاه الخارج.
أصالة المؤرّخ في شهادته على الذّات الحضارية والدّينية التي ينحدر منها بالخطأ، فقد خلص إلى التورّط الفعلي لبعض أبناء ملّته في ممارسات قتل شعائري، بغرض إضافة دم الضّحايا للفطير المقدّس. وتصريحه بذلك يعبّر عن أمانة علمية قلّ نظيرها اليوم، في التعامل مع مسألة طالما صنِّفت من جملة الافتراءات التي ألحقت باليهود، لما لفّ الموضوع من أسطرة مما أخرجه من حيز الواقعية.
الخطير كما يقول المؤرّخ أن تابو اللاسامية صار يهدّد ويعوق أي بحث حرّ وأمين. رغم ذلك لم يحسب حسابات ضيّقة لما سيخلّفه مقوله من أثر عليه، وعلى طائفته، وعلى دينه، ووالده كان بالأمس القريب النّاطق الرّسمي والزّعيم الأوحد للجاليات اليهودية في إيطاليا.
يخلص المؤرّخ أرييل طُوَاف إلى أنّ مجموعة من الأشكناز، من غُلاة اليهود الأوروبيين، لا عامة اليهود، ممن لم يلتزموا بتعاليم التّوراة بتحريم سفك الدّماء، مارست هذه الشّعائر واستباحت دماء أبرياء. بغرض استعماله للأزيم، الخبز غير المخمّر، الذي يتناول أثناء الفصح اليهودي، كما يضاف إلى الخمرة في ذكرى الخروج والخلاص من مصر الفرعونية.
حضرت إيطاليا بشكل بارز في الكتاب، عبر حادثة مقتل الطّفل سيمون بترنتو خلال 1475، وهو ما قاد لاحقا إلى التهجير شبه الكامل للجالية اليهودية من تلك الدويلة عصرئذ.

أنفاس1ـ في الشرق الأدنى القديم:
التوفيقية الفكرية والمجتمعية التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هل هي مجرد استجابة آنية لظروف وقتية عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمرارية التاريخية ـ الحضارية للمنطقة، أم إنها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمرارية؟
إذا كانت الظاهرات الفكرية والمجتمعية لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضية المعاصرة لاكتشاف حفائر التكون الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخية المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكرية التوفيقية التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس، وذلك ليكون بحثنا في مناحي التوفيقية المعاصرة مستنداً إلى جذوره التاريخية القديمة، بعد أن رأينا مدى صلتها بالبيئة الاجتماعية السياسية الحديثة التي تولدت فيها.
تبدو (الظاهرة التوفيقية) على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. ويمكن إيجاز أبرز معالمها وأدلها، وتبيان طبقاتها المتعاقبة وصورها المتكررة المستعادة في تتبع التشكلات الحضارية التاريخية التالية بشكل وجيز ومكثف.
أولاً: عندما حدثت المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية نشأت الحاجة لأول مرة في الشرق الأدنى ـ وربما في تاريخ العالم ـ إلى إقامة التوفيق بين العقل والإيمان وبين المنطق الانساني والوحي الإلهي، وشهدت الديانة الموسوية جهداً عقلياً ونشاطاً دينياً متفلسفاً كان أبرز مفكريه (فيلون) الذي عاش بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وجاء بالمفهومين المزدوجين القائلين: إن النص الديني (التوراة) وحي إلهي، وإن الفلسفة اليونانية تمثل الحقيقة الكونية، وعليه فقد وجد نفسه في مواجهة مشكلة (إقامة التوفيق reconciliation) بين الفلسفة والشريعة، بين أفلاطون وموسى. ويرى أرنولد توينبي ان هذه المجابهة المبكرة بين التأثير الإغريقي (الهيليني) الوافد مع النفوذ الروماني، وبين التراث الديني الإيماني للمشرق السوري لم تقف عند حدود إقامة توفيقية دينية فلسفية في اليهودية، بل مثلت ـ حسب تعبيره ـ الجدلية الخلاقة التي أثمرت المسيحية.

أنفاس شمل النقد الديني في القرن الثامن عشر السماء والأرض وكان نقداً للإله المسيحي، وقديسيه وشياطينه، ونقداً لكنائسه وقساوسته. كان هناك، من ناحية، نقد الدين كحقيقة موحاة ونص ثابت، ونقده كمؤسسة صنعها الإنسان، من ناحية أخرى. قوضت الفلسفة الصرح المفاهيمي للاهوت، وهاجمت مزاعم الكنيسة بالهيمنة والكونية. دمرت صورة الإله المسيحي، لا فكرة الله. وكانت الفلسفة معادية للمسيحية وربوبية، توقف الله عن كونه شخصاً وتحول إلى مفهوم. أصبح الفلاسفة حماسيين حين واجههم مشهد الكون: اعتقدوا أنهم اكتشفوا في حركاته نظاماً سرياً، إلهاماً مخبوءاً لا يمكن إلا أن يكون مقدساً وإلهياً. الكمال المزدوج: تحرك الكون خطة عقلانية وهي أيضاً خطة أخلاقية. حل الدين الطبيعي مكان الدين الموحى، وحلت الفلسفات مكان مجلس الكاردينالات. كانت فكرة النظام وفكرة العلة تجليين مرئيين، وبرهانين عقلانيين وحسيين على وجود خطة إلهية. لقد ألهمت حركة الكون غاية وهدف: الله غير مرئي، لا أعماله ولا النوايا التي تنفخ فيها الحياة. ولقد اشترك الماديون والملحدون، مع بعض الإستثناءات، في هذا المعتقد: الكون نظام ذكي منح هدفاً واضحاً، على الرغم من أننا لا نعرف ما الذي سيتمخض عنه في النهاية... كان ديفد هيوم هو أول من انتقد نقاد الدين، وبقي نقده متفوقاً وقابلاً للتطبيق على كثير من المعتقدات المعاصرة. أظهر في حوارات بخصوص الدين الطبيعي أن الفلاسفة وضعوا على مذابح الدين المسيحي الفارغة آلهة أخرى ليست أقل شبحية، ومفاهيم مؤلهة كالانسجام الكوني والهدف الذي ينفخ الروح في هذا الانسجام. إن فكرة الخطة أو الهدف هي جذر الفكرة الدينية، أينما ظهرت، دون إقصاء الفلسفات الإلحادية والمادية، يظهر الدين أيضاً، وعاجلاً أم آجلاً، كنيسة، وأسطورة، ومحكمة تفتيش. ويمكن أن يتنوع محتوى كل دين ـ إن عدد الآلهة والأفكار التي عبدها البشر لا نهائي تقريباً ـ ولكن وراء جميع هذه المعتقدات نجد النموذج نفسه: يعزى هدف إلى الكون، وحالاً بعد ذلك يماثل هذا الهدف مع الخير، والحرية، والقداسة، والأبدية أو فكرة ما مشابهة.
  وليس صعباً أن نستنتج من نقد هيوم النتيجة التالية: أن أصل فكرة التاريخ كتقدم هو ديني والفكرة نفسها شبيهة جداً بالدين. إنها نتيجة استنتاج ناقص: الاعتقاد بأن الطبيعة لها خطة، ومماثلة هذه الخطة مع حركة التاريخ والمجتمع إلى الأمام. ويظهر خط التفكير نفسه في جميع الأديان والأديان الزائفة في مرحلتها الأولى، كما لوحظ الانتظام الحقيقي أو الظاهر. وأدخلت فكرة الغائية في نظام الطبيعة، بعد ذلك على الفور، عزيت التغييرات والاضطرابات الاجتماعية إلى فعل المبدأ نفسه الذي يدفع الطبيعة إلى العمل.

أنفاسلم يميز المؤلفون المسلمون بين التحقيب والتأريخ كما يدل على ذلك التعريف الذي يقول: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع وقيل إنه مدّة معلومة بين حدوث أمر ظاهر وبين أوقات حوادث أخر. التعريف الثاني، النسبي، هو الذي يفيد فكرة التحقيب.
يلجأ المؤرخون الذين كتبوا بالعربية، أكانوا مسلمين أو لا، إلى تقسيم تقليدي نلخصه في النقاط التالية:
1- يسوقون في قسم تمهيدي الملاحم والأساطير على صورتها الشائعة بين أصحابها، في غياب قياس برهاني يمكن من تمحيصها. يحشرون المرويات المتعلقة ببداية الكون والأرض والإنسان وكذلك أخبار الأمم البائدة أو النائية مثل الصين والهند والزنوج وسكان المناطق الشمالية. فهذا القسم هو بمثابة وصف _كوني (كوسموغرافيا)، وصف _جنسي (اثنوغرافيا ووصف _ أرضي (جيوغرافيا).
2- ثم ينتقلون، في قسم لاحق، إلى أخبار الأنبياء والرسل معتمدين على ما جاء في التوراة، وبالمناسبة يذكرون أخبار الأمم التي كانت لها علاقة ببني إسرائيل كالكلدانيين والسريانيين وغيرهم.
3 -  ثم يروون، في قسم ثالث، أخبار الملوك، أي وقائع الامبراطوريات القديمة، الفارسية واليونانية والرومانية، ويذكرون بالمناسبة أيام العرب الأولين.
4 - ثم يقصّون، في قسم رابع، تاريخ العرب بعد ظهور الإسلام ويلحقون بهذا التاريخ ما يعرفون عن الروم والإفرنج وملوك الهند وغيرهم.
5 - ثم يسوقون، في قسم خاص، أخبار العجم من أتراك وبربر، إلخ. وبما أن هذا التاريخ لا يزال في تطور، فإن الرواية تنحلّ تدريجياً في حوليات قابلة للوصل والتكملة.
وهكذا نلاحظ نفس الاتجاه العام في التأليفين، العربي والغربي، من أخبار الأمم والدول (الحقبيات والتجارب) إلى أحداث السنوات وربما الشهور (الحوليات واليوميات). لا يوجد إذاً فرق جوهري بين الاسطوغرافيتين، اللهم ان الإسلامية أوسع مادة وأكثر دقة فيما يتعلق بأخبار الشرق والمناطق المجاورة له وأكثر خلطاً وإيجازاً عندما تتعرض لأخبار اليونان والرومان.
يوجد إذاً توافق ضمني بين التحقيبين التقليديين، الإسلامي والغربي، ويدخل في هذا الإطار اقتراح المؤرخ الامريكي مارشال هودجسُن الذي يميز داخل التاريخ الإسلامي الفترات التالية:

انفاسليس أدل على نقلة الفكر التاريخي _بفضل الإسلام _ مما حدث بالفعل في عصر الراشدين من الاهتمام بالتاريخ كموضوع وتطور تقنية تناوله. فمن حيث الموضوع ظهرت مباحث ثلاثة؛ الأول منها يتعلق بدراسة سيرة الرسول ومغازيه، والآخران يختصان بدراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي. ويخطىء بعض الدارسين حين يتصور أن الفكر التاريخي آنئذ كان فكرا دينيا قحا غايته خدمة الحديث والفقه، بل لا يخفف من الخطأ تصنيف البعض الآخر هذا الفكر صنفين: الأول ديني، كما هو الحال بالنسبة للسيرة والمغازي، والثاني دنيوي متمثل في القصص العربي القديم والتراث القبلي.
والصواب _فيما نرى _ أن كل موضوعات التاريخ _وبالتالي فكرة التاريخ_ كانت ذات طابع دنيوي؛ فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثا ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلا عن أن الاهتمام بدراستها ودراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثين والفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز _التي كانت من وراء النشاط الفكري عموما _ في محاولة الخلافة _وخاصة في عهد عمر _ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت كافة المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابع دنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية، والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام... الخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلك المشكلات. حيث أقر الخليفة عمر كافة التنظيمات الموجودة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقة بالعرب أنفسهم؛ كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تيارات حزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول _إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعا للتاريخ الإسلامي، فاتسعت دائرة مباحثه باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوبا أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلا عن تراث العرب؛ تراث الشعوب الأخرى التي دخلت في نطاق الإسلام.

انفاسحقيقة مصطلح الأمازيغ
في المقابل، إذا كانت دلالة مصطلح أمازيغ اللغوية تعني الرجل/الإنسان الحر، فإن الدلالة التاريخية والسياقية تحيل على أن أمازيغ هو الأب الروحي للبربر أو الأمازيغيين، وذلك اعتمادا على ما ذهب إليه ابن خلدون في تحديده لنسب الأمازيغ. فهو يقول في المقدمة:" والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ". فابن خلدون يحاول هنا الفصل في أمرين مهمين: أولهما يتعلق بأصل الأمازيغ وثانيهما يرتبط باسم أبيهم.
بخصوص الأمر الأول الذي يقترن بأصل الأمازيغ، نشب جدال ساخن انقسم فيه المتجادلون إلى تيارات ثلاث
1- دعاة التيار الأول تأثروا بالفكر الاستعماري الغربي، حيث يرون أن أصل سكان المغرب الأقدمون إنما يتأصل في أوروبا، إذ ثمة معطيات لغوية وبشرية كثيرة تشير إلى أن الإنسان الأمازيغي يمت بشكل أو بآخر بصلة إلى الجنس الوندالي المنحدر من ألمانيا (حاليا)، والذي سبق له وأن استعمر شمال أفريقيا. هذا التفسير ينطوي على مؤشرات بمقدورها أن تغالط وتخادع البعض، خصوصا وأنها تركز أولا على الناحية اللغوية، فتدعي أن ثمة تماثلا لغويا بين الأمازيغية ولغة الوندال التي هي الجرمانية، لكن هذا لا يعدو الجانب المعجمي حيث هناك بعض الكلمات الأمازيغية المعدودة، التي لها مقابلات لفظية وليس دلالية في الجرمانية، وهذا أمر جد طبيعي، حيث تمكن علم اللسانيات الحديث من اكتشاف الكثير من مثل هذه الظواهر اللغوية الناشئة، إما عن طريق الاقتراض اللغوي أو بالصدفة. وتستند ثانيا إلى ذلك التشابه الكائن بين ملامح البربر والأوروبيين كلون العينين الأزرق، ولون الشعر الأشقر وغير ذلك، غير أن هذا الدليل يظل نسبيا مادام الأوروبيون قد استعمروا بلاد الشمال الأفريقي غير ما مرة، لذلك ليس ببعيد أن يكون قد تم التزاوج والتمازج بين هذين الجنسين، مما نتج عنه ظهور أجيال أمازيغية تحمل ملامح أوروبية.
2- أما أصحاب التيار الثاني فهم حديثو العهد، حيث تنبني وجهة نظرهم على بعض الكشوفات الأركيولوجية والأنثروبولوجية؛ إذ تم العثور على أول إنسان في التاريخ في بعض مناطق أفريقيا(بوتسوانا بجنوب أفريقيا، غرب أفريقيا وكينيا)، بل فقد أوضحت بعض الدلائل والاكتشافات العلمية الجديدة، أن أصل الإنسان الحديث ربما لا يعود فقط إلى أفريقيا، وإنما يرجع إليها ظهور أقدم دلائل السلوك الحضاري للإنسان. لذلك يعتقدون أن الإنسان الأمازيغي لم يهاجر إلى شمال أفريقيا من منطقة ما، وإنما كان فيها منذ بداية تاريخ الإنسانية.