شمل النقد الديني في القرن الثامن عشر السماء والأرض وكان نقداً للإله المسيحي، وقديسيه وشياطينه، ونقداً لكنائسه وقساوسته. كان هناك، من ناحية، نقد الدين كحقيقة موحاة ونص ثابت، ونقده كمؤسسة صنعها الإنسان، من ناحية أخرى. قوضت الفلسفة الصرح المفاهيمي للاهوت، وهاجمت مزاعم الكنيسة بالهيمنة والكونية. دمرت صورة الإله المسيحي، لا فكرة الله. وكانت الفلسفة معادية للمسيحية وربوبية، توقف الله عن كونه شخصاً وتحول إلى مفهوم. أصبح الفلاسفة حماسيين حين واجههم مشهد الكون: اعتقدوا أنهم اكتشفوا في حركاته نظاماً سرياً، إلهاماً مخبوءاً لا يمكن إلا أن يكون مقدساً وإلهياً. الكمال المزدوج: تحرك الكون خطة عقلانية وهي أيضاً خطة أخلاقية. حل الدين الطبيعي مكان الدين الموحى، وحلت الفلسفات مكان مجلس الكاردينالات. كانت فكرة النظام وفكرة العلة تجليين مرئيين، وبرهانين عقلانيين وحسيين على وجود خطة إلهية. لقد ألهمت حركة الكون غاية وهدف: الله غير مرئي، لا أعماله ولا النوايا التي تنفخ فيها الحياة. ولقد اشترك الماديون والملحدون، مع بعض الإستثناءات، في هذا المعتقد: الكون نظام ذكي منح هدفاً واضحاً، على الرغم من أننا لا نعرف ما الذي سيتمخض عنه في النهاية... كان ديفد هيوم هو أول من انتقد نقاد الدين، وبقي نقده متفوقاً وقابلاً للتطبيق على كثير من المعتقدات المعاصرة. أظهر في حوارات بخصوص الدين الطبيعي أن الفلاسفة وضعوا على مذابح الدين المسيحي الفارغة آلهة أخرى ليست أقل شبحية، ومفاهيم مؤلهة كالانسجام الكوني والهدف الذي ينفخ الروح في هذا الانسجام. إن فكرة الخطة أو الهدف هي جذر الفكرة الدينية، أينما ظهرت، دون إقصاء الفلسفات الإلحادية والمادية، يظهر الدين أيضاً، وعاجلاً أم آجلاً، كنيسة، وأسطورة، ومحكمة تفتيش. ويمكن أن يتنوع محتوى كل دين ـ إن عدد الآلهة والأفكار التي عبدها البشر لا نهائي تقريباً ـ ولكن وراء جميع هذه المعتقدات نجد النموذج نفسه: يعزى هدف إلى الكون، وحالاً بعد ذلك يماثل هذا الهدف مع الخير، والحرية، والقداسة، والأبدية أو فكرة ما مشابهة.
وليس صعباً أن نستنتج من نقد هيوم النتيجة التالية: أن أصل فكرة التاريخ كتقدم هو ديني والفكرة نفسها شبيهة جداً بالدين. إنها نتيجة استنتاج ناقص: الاعتقاد بأن الطبيعة لها خطة، ومماثلة هذه الخطة مع حركة التاريخ والمجتمع إلى الأمام. ويظهر خط التفكير نفسه في جميع الأديان والأديان الزائفة في مرحلتها الأولى، كما لوحظ الانتظام الحقيقي أو الظاهر. وأدخلت فكرة الغائية في نظام الطبيعة، بعد ذلك على الفور، عزيت التغييرات والاضطرابات الاجتماعية إلى فعل المبدأ نفسه الذي يدفع الطبيعة إلى العمل.
وإذا كان التاريخ يملك معنى، يصبح مرور الزمن حادثاً بسبب تدخل العناية الإلهية، رغم أن اسم هذه العناية يتغير بتغير المجتمع والثقافة:أحياناً يدعى الله، وفي أحيان أخرى النشوء، وطوراً جدل التاريخ. وأهمية التقويم في الصين القديمة أو أمريكا الوسطى هي نتيجة أخرى للفكرة نفسها: إن نموذج الزمن التاريخي هو زمن الطبيعة، الزمن الإلهي.
إن الدين هو تأويل للوضعية الأصلية للإنسان المرمي في عالم غريب يشعر إزاءه بالهجران، واليتم، والاستسلام. ونستطيع أن نحكم على معنى وقيمة التأويل الديني بطرق عديدة، مثلاً، نستطيع أن نقول، على سبيل المفارقة، إنه فعل نفاق لا واع، نخدع بواسطته، أنفسنا قبل أن نخدع أندادنا. أو نستطيع أن نقول إنه وسيلة معرفة، أو بالأحرى، اختراق الواقع الآخر، تلك المنطقة التي لا نراها أبداً وأعيننا مفتوحة. بوسعنا أن نقول أيضاً إنه على الأرجح ليس أكثر من تجل لميل كامن في الطبيعة الإنسانية. إذا كان الأمر هكذا، لن يكون لدينا أي ملجأ سوى أن نقبل بوجود "غريزة دينية". إن نقد هيوم حاسم لأنه، بإظهار أننا نتعامل مع السيرورة نفسها ـ مهما كان المجتمع، والحقبة، والمحتوى، وطبيعة التمثيل والمعتقدات ـ فهو يسمح لنا ضمنياً أن نشتبه بأنه تواجهنا بنية ذهنية مشتركة عند جميع البشر. في الوقت نفسه، ومن خلال تأكيد طبيعتها اللاواعية، فهو يبين أنها نتيجة حاجة نفسية، وإلى حد ما، غريزية. ولقد أكمل نقد هيوم بعد قرن ونصف على يد فرويد وهيدجر، لكننا لا نزال نفتقد إلى وصف كامل لـ"الغريزة الدينية".
إن الدين، مهما كان أصله، حاضر في جميع المجتمعات: في مجتمعات الزمن القديم البدائية والكبيرة، في صدور البشر الذين يؤمنون بالسحر، وفي المجتمعات الصناعية اليوم، بين المعتقدين بـمحمد وأولئك الذين يقسمون بـماركس. في جميع الأمكنة والحقب تحول "الغريزة الدينية" الأفكار إلى معتقدات، والمعتقدات إلى طقوس وأساطير. ولن يكون عادلاً أن ننسى أننا مدينون له بتجسيد الأفكار في صور قابلة للإدراك. ليس هناك شيء أكثر جمالاً من التمثال الذي يعود إلى القرن الثاني عشر في إقليم أوريسا الهندي الذي يمثل برانجا باراميتا، الحكمة البوذية المطلقة، المفهوم الميتافيزيقي المحوري لبوذيي ماهايانا، كفتاة عارية مزينة بالمجوهرات. وجها الدين: تجربة المتصوفين في العزلة وتحويل العامة إلى وحوش، الإشراق الروحي وجشع الإكليروس، المتعة المشاعية وحرق الهراطقة.
يمكن تطبيق نقد هيوم على الفلسفات والإيديولوجيات كلها التي ليست أكثر من أديان خجولة، دون آلهة ولكن بكهنة، وكتب مقدسة، ومجالس ومتعصبين، ومهرطقين وفاسدين. توقع هيوم ما سيأتي بعد ذلك: العقل يُعبَد كإله، والكائن المطلق للفلاسفة يتحول إلى يهوه لطوائف متحذلقة ومتعطشة للدماء. أزاح نقد الدين المسيحية وأسرع البشر كي يتوجوا مكانها إلهاً جديداً: السياسة. واعتمدت "الغريزة الدينية" على اشتراك الفلسفة في الجريمة. استبدال الفلاسفة معتقَداً بآخر: الدين الطبيعي بالدين الموحى، العقل بالنعمة الإلهية. جدف الفلسفة ضد السماء لكنها قدست الأرض، وكان تكريس الزمن التاريخي تكريساً للتغيير في شكله الأكثر توتراً وفورية: الفعل السياسي. توقفت الفلسفة عن كونها نظرية وانحدرت إلى البشر. دعي تجسيدها ثورة. وإذا كان التاريخ الإنساني هو تاريخ التـفاوت والظلم، فإن علاج التاريخ، القربان المقدس الذي يحوله إلى مساواة وحرية، هو الثورة.
وحولت التيمة الأسطورية للزمن الأصلي إلى التيمة المستقبلية لمجتمع المستقبل. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، وبشكل ملحوظ، منذ الثورة الفرنسية، صادرت الفلسفة السياسة الثورية، واحداً واحداً، المفاهيم، والقيم، والصور التي انتمت تقليدياً إلى الأديان. وأصبحت عملية الاستيلاء هذه أكثر ذكاء في القرن العشرين، قرن الأديان السياسية كما كان القرنان السادس عشر والسابع عشر قرني الحروب الدينية... عشنا مائتي عام، أولاً الأوربيون ثم الجميع، متوقعين حدثاً سيمتلك بالنسبة لنا الجدية والسحر اللذين امتلكهما المجيء الثاني للمسيح بالنسبة للمسيحيين الأوائل: الثورة. ويمتلك هذا الحدث الذي ينظر إليه البعض بأمل والبعض الآخر برعب، كما قلت، معنى مزدوجاً: إنه تأسيس مجتمع جديد واستعادة الزمن الأصلي، قبل أيام الملكية الخاصة، والدولة، والنص المقدس، وفكرة الله، والعبودية، واضطهاد النساء. والثورة التي هي تعبير عن العقل النقدي تضع نفسها داخل الزمن التاريخي، تضع مكان الحاضر الشرير المستقبل العادل والمحرر. وهذا التغيير عودة ـ إلى زمن البداية ـ إلى البراءة الأصلية. وهكذا الثورة هي فكرة وصورة، مفهوم يشترك في خصائص الأسطورة وأسطورة مؤسسة على سلطة العقل. امتلك الدين في المجتمعات السابقة وظيفتين حصريتين: تغيير الزمن، وتغيير الإنسان. لم تكن تغييرات التقويم ثورية وإنما دينية. تغيير التقويم، تغيير الله: كانت تغيرات العالم هي تغيرات العالم الآخر. الثورات، الانتفاضات، اغتصابات العروش، التنازل عن العروش، مجيء سلالات جديدة، التحولات الاجتماعية، تحولات نظام الملكية أو النظام القضائي، الابتكارات، الاكتشافات، الحروب، الفتوحات ـ كل قعقعة التاريخ هذه الشاملة واللامتماسكة، بتقلباتها التي لا تتوقف، لم تحدث أي تبديل في صورة الزمن وإحصاء الأعوام. ولا أعرف إن كان قد أشير إلى فكرة واحدة أو نوه بها: كان الفتح بالنسبة إلى الهنود المكسيكيين تغيير للتقاويم، تغيير الآلهة، تغيير الدين.
أزاحت الثورة الدين في العالم الحديث وبالتالي حاول الثوريون الفرنسيون أن يغيروا التقويم. واستناداً إلى قول ماركس المأثور والمعروف جيداً: ليست مهمة الفيلسوف تفسير العالم وإنما تغييره. يتضمن هذا التغيير تبنياً لنموذج أصلي زمني جديد: تغيير الأبدية المسيحية إلى الثورات المستقبلية. والوظيفة الدينية التي تتألف من خلق وتغيير التقويم هكذا تحول إلى وظيفة ثورية.
وحدث شيء مشابه مع الوظيفة الأخرى للأديان: تغيير الإنسان. وتتألف طقوس البدء وشعائر العبور من تحول حقيقي للطبيعة الإنسانية، وتشترك جميع هذه الطقوس في شيء واحد: إن القربان المقدس هو الجسر الذي يعبر عليه المعتنق الجديد ـ المبتدئ بالرهبنة ـ من العالم المدنس إلى العالم المقدس، من هذا الشاطئ إلى الآخر. عبور هو موت وانبعاث: يبزغ إنسان جديد من الطقس الديني. المعمودية تغيرنا، تمنحنا اسماً وتجعلنا آخر، العشاء الرباني هو أيضاً تحول، والشيء نفسه ينطبق على قربان الموت؛ كلمة غنية بالمعاني أكثر من معظم الكلمات الأخرى. إن الطقس المحوري في جميع الأديان هو طقس الدخول في جماعة المؤمنين، وفي كل حالة يتضمن هذا الطقس تغيير للطبيعة، ويشرح الاعتناق بوضوح ناصع هذا التحول الذي هو أيضاً عودة إلى الجماعة الأصلية. منذ ولادة العالم الحديث، وبشكل أكثر إلحاحاً أثناء السنوات الخمسين الأخيرة، أعلن الثوريون الحاكمون أن الهدف المطلق للثورة هو تغيير الإنسان: تحويل الفرد والجماعة. وأحياناً ارتدى هذا الادعاء أشكالاً أخرى ستكون غريبة لو لم تكن متوحشة، كما حين خلطت الخرافة بالتكنولوجيا والخرافة الأيديولوجية ودعي ستالين "مهندس البشر".
إن مثال ستالين مرعب، ومن الأمثلة الأخرى التي تؤثر بنا بعمق: سين ـ جست، وتروتسكي. حتى ولو أثرت بنا الطبيعة البرومثيوثية لمزاعمهم، ليس بوسعي إلا أن أرثي براعتهم وأشجب إفراطهم.