أخذت معطيات التراث القديم تعكس أصداءها مغذية ومعمقة للتيارات الفكرية الإسلامية منذ أواخر عصر الراشدين. ولم يكن بوسع الخلفاء مقاومة هذه التأثيرات طالما لم يستطيعوا وقف حركة التطور الاجتماعي الجانحة نحو «الدنيوية». بل أخذت الثقافة الدينية تفيد من تراث الأوائل في بلورة اتجاهاتها، وتباينت هذه الاتجاهات وفقاً لمعطيات الواقع السياسي والاجتماعي الذي أعيدت صياغته في العصر الأموي.
وتعبر نوعية الثقافة في المدن الإسلامية القديمة والمستحدثة عن خاصية التنوع والتباين تلك في جلاء تام، إذ ظهرت بواكير مدارس فكرية في دمشق والفسطاط والمدينة والبصرة والكوفة. كان لبعضها تأثيرات تالية على حواضر الغرب الإسلامي مثل القيروان وقرطبة. ويرى الأستاذ أحمد أمين أن هذا التباين والتخصص لم يكن جزافاً بل كان انعكاساً لأوضاع اجتماعية.
ففي المدينة ـ التي فقدت مركزها السياسي بانتقال الخلافة إلى دمشق ـ حيث استقرت فلول «الأرستقراطية الثيوقراطية» ـ ساد تياران يتمشيان مع الواقع الجديد، أولهما ديني قح ويتمثل في دراسة الفقه والحديث، ويعول على النص أكثر من التأويل. ومذهب مالك يقدم في هذا الصدد أقوى دليل. والثاني دنيوي ترفي مرح يتمثل في الشعر والغناء والطرب والملح والنوادر، ويعكس حالة الثراء لتلك الأرستقراطية المؤثرة للدعة المجترة أصداء زمن الجاهلية.
وفي دمشق ـ مركز الثقل الجديد ـ تلونت الثقافة بالوضعية المستحدثة مع تأثيرات من تراث السريان، في محاولة بلورة شخصية فكرية مميزة، وليس جزافاً أن يختص أهل الشام بمذهب في الفقه يختلف عن مذهب أهل العراق، أعني مذهب الأوزاعي الذي لا يخلو من بصمات «هللينستية». وازدهار الشعر السياسي والخطابة مرده خدمة القضية الأموية أو معارضتها. بل ليس جزافاً أن ينمو الفكر السياسي «الجبري» والإرجائي في أحضان دمشق الأموية. وكان رواج القصص والأخبار وسير القدماء تعبيراً عن الطابع الأرستقراطي لعقلية «النظام الأموي» وتنطق قصور الأمويين ومنشآتهم المعمارية ذات الطابع العسكري بتأثيرات يونانية تعبر عن خصائص نظام فرض وجده بالقوة بدلاً من الشرعية.
وفي الكوفة والبصرة ـ وهما مصران عربيان مستحدثان منافسان لدمشق ـ امتزجت الأرستقراطية العربية بالموالي، وكان عرب العراق في العصر الأموي دون عرب الشام من حيث المكانة الاقتصادية والاجتماعية، ولا غرو فقد كانوا إما مناصرين للأرستقراطية الثيوقراطية أو من «أنصار التيار الثوري» الذي انقسم إلى شيعة وخوارج. وقد أفضى انتقال السلطة للأمويين، وكذا اختلاطهم بالموالي، إلى تضييق الهوة الاجتماعية بينهم واتخاذهم معاً موقف المعارضة.
وعبرت ثقافة المصرين عن هذا الوضع أصدق تعبير، فمذهب أبي حنيفة في الفقه يعول على القياس والرأي، وذيوع «القدرية» في مواجهة «الجبرية» يتسق مع المنحى نفسه، وتضافر العرب والموالي على دراسة اللغة العربية ووضع أصول النحو يعبر عن عملية المزج السلالي والثقافي. وتبني الآراء السياسية الثورية ذات المغزى الاقتصادي الاجتماعي ـ والتي لا تخلو من بصمات «مزدكية» غصلاحية ـ لم يحدث عفواً، إنما نبتت هذه الأفكار بفعل المناخ الملائم الذي هيأته إرهاصات البورجوازية.