مقدمة:
يبدو أن المراجعات النقدية والتقويمية التي تتم اليوم لبعض المفاهيم وحمولاتها المعرفية داخل "مطبخ" العلوم الإنسانية، لا زالت لم تتخلص بعد من شحنتها الإيديولوجية، ولم يتحقق لها بعد شرط الحياد والانفصال عن تلك الشحنة لإعادة تقويمها تقويما موضوعيا ومعقولا، وينطبق هذا القول على مفهوم التاريخ، وبشكل أكثر حدة على مفهوم الحضارة. فالبحث عن تحديد دقيق لدلالة هذين المفهومين يبقى صعبا وشائكا، وغير مانع في نفس الآن وذلك لعدة أسباب منها: أولها أن الحديث في موضوع تحديد مفهوم التاريخ ومفهوم الحضارة يجرنا، وبالضرورة إلى الحديث عن فلسفتهما، ثانيها وجود مقاربات منهجية وحقول معرفية متعددة تستعمل وتهتم بمفهومي الحضارة والتاريخ وموضوعهما، وثالثها تعدد التعاريف وتناقضاتها أحيانا التي أعطيت لهذين المفهومين يحول دون إعطائهما تعريفا دقيقا، شاملا ومانعا. لكن رغم هذه الصعوبات المذكورة وغيرها، فهذا لا يمنعنا من تجديد طرح الأسئلة التالية:
ما هو التاريخ وما هي الحضارة؟ وما هو إطارهما المنهجي والمعرفي؟ وأية علاقة يمكن أن توجد بينهما حاليا؟ هل من نماذج لكتابات قاربت مفهوم وموضوعة "تيمة" الحضارة من خلال الدراسات التاريخية؟
1 – إشكالية تعريف المفاهيم المركزية الثلاثة: تاريخ، حضارة، جدلية:
1-1-مفهوم التاريخ: أي تعريف؟
يقول عبد الله العروي إن ".. التساؤل حول مفهوم التاريخ أمر جوهري وتافه في آن. هذا ما قاله ابن خلدون وهذا ما نؤكده اليوم.. جوهري لأنه قائم أينما اتجه الفكر، وتافه لأن منفعته غير واضحة لكل فرد متخصص، الخطاب موجه في ظاهره إلى المؤرخ، لكنه في العمق يستهدف كل مفكر..". هكذا يؤكد العروي على أهمية البعد الإبستمولوجي لمفهوم التاريخ بالنسبة للمفكر قبل المؤرخ ما دام التاريخ في حقيقته هو المجال المفضل للفكر والتفكير العامين.