" الإشتياق إلى الجارة " رواية للأديب التونسي الحبيب السالمي، صادرة عن دار الآداب للنشر و التوزيع ببيروت في طبعة أولى عام 2020 و هي تقع في مائتين و ست صفحات.
لعلّ ما يشدّ القارئ في كتابات الحبيب السالمي، السلاسة و بساطة السرد، فالرواية عند السالمي تتدفّق دون تكلّف كأنّها نهر يجري في مساره دون معوقات لذلك من الطبيعي أن يشعر القارئ براحة الكاتب في الرواية، هذه الراحة التي سرعان ما تمرّ للقارئ نفسه فتجعله مشدودا للأحداث، مصرّا على تقصّيها حتى نهايتها.
فالسالمي كاتب هادئ ينجح نجاحا باهرا في تمرير هذا الهدوء للقارئ فيستلبه برصانة الكلمة و متانة الأسلوب.كما ينجح أيضا في الحفر عميقا في نفوس شخصياته فرغم محدودية الفضاء المكاني للرواية ( عمارة سكنية ) إلاّ أنّ كثافة الوصف و دقّة التعبير عمّا يعتمل دواخل الشخصيات، يجعل القارئ يتجوّل داخل التقلّبات النفسية التي يعيشها أبطال الرواية و العلاقة فيما بينهم و كأنّ الكاتب يستدرج قارئه فيجعله شريكا في الأحداث لا مجرّد متابع لها.
1 - الغريب، المرأة و الوطن
يستهلّ الكاتب روايته بـ « الآن صرت أراها عدّة مرّات في اليوم »، معلنا بذلك عن زمنها، هذا الحاضر المتوسّط بين الماضي و المستقبل.فبين الزمن و الرؤية يفصح الكاتب عن راوِيه، حيث يستعمل الراوي البطل كاشفا عن الشخصيّتي ن الرئيسيتين في الرواية، هو و زهرة.
من الصفحة الأولى للرواية يطرح الكاتب جدليّة « صورة المهاجر في المخيال الفرنسي »، فزهرة بطلة الرواية هي « الخادمة » أو « التونسية » و مدام رودريكس هي « البرتغالية » و السيّد غونزاليس هو « الإسباني »، هكذا ينظر الفرنسيون سكّان العمارة لغيرهم من الجيران، كما ينادونهم بأسماء بلدانهم و كأنّهم بلا أسماء.
هذه الجدليّة القديمة الجديدة، مازالت تعيشها الجاليات المهاجرة في فرنسا حيث تعاني من النظرة الفرنسية الدونيّة لها رغم كلّ ما تقدّمه لهذا البلد، و لعلّ الكاتب بإشارته لها في بداية الرواية إشارة منه بأنّها أمّ الإشكاليات التي يعاني منها المهاجر مهما كانت طبقته الإجتماعية فهو في النهاية سيبقى محاصرا بهذه النظرة من قبل الفرنسيين.
تنشأ علاقة الراوي البطل بالبطلة بمجرّد معرفة الأخيرة أنّه من نفس أصولها، فكلاهما تونسي ليبدآ أوّل الأمر التخاطب بلغتهم الأمّ، فهذا أوّل عقد خفيّ تمّ بين الطرفين، فاللغة وعاء جامع يسهّل انتقال العلاقة من بعيدة ( مجرّد جيران ) إلى قريبة ( أكثر قليلا من الجيران ) في بيئة تستوعبها لغة أخرى، فأن يتحدّث البطلان نفس اللغة و نفس اللهجة في بلد غير بلدهم يدفعهما حتما لتقارب أكبر، لتفاهم أكثر، لنشوء حبل سرّي يجذبهما نحو بعضهما دون شعور منهما في أحيان كثيرة و دون إرادة حتّى و كأنّ الحديث باللغة الأمّ يصبح عامل أمان و اطمئنان و سور يحيط هذه العلاقة الوليدة بشيء من الحماية.
يقول الكاتب « إلاّ أنني لم أتخلّ عن اللغة العربية، و لم يخطر ببالي أبدا أن أفعل هذا.....صار تعلّقي بها قويّا إلى درجة أنني بدأت أطالع بها روايات عربية حين اكتشفت قيمة المطالعة. لكنّ القراءة شيء، و الحديث خاصة بالتونسيّة شيء آخر. كنت أشعر برغبة جامحة في نطق الحروف و سماع أصواتها تخرج من فمي. و قد كنت أفعل هذا بين الحين و الآخر حين أكون وحدي في الحمّام أو المرحاض أو المطبخ......انتبهت إلى أنّ زهرة تحسّ هي أيضا بمتعة عندما تتكلّم معي باللهجة التونسية » ص 21.
البطلة زهرة التي تحيا حياة صعبة مع زوج سيّء المزاج و ابن محدود الحركة، و البطل كمال الذي يعيش مع زوجة فرنسية بعادات و طباع مختلفة، جعلا منهما باحثين عن ملجئ خارج هاتين الدائرتين اللتين تبدوان مستقرتين لكن صوريّا فقط، فكلاهما يعاني في صمت و إن لم يقرّا بذلك في البداية.
تتطوّر العلاقة بين الإثنين، فيجد كمال الأستاذ الجامعي في زهرة المعينة المنزلية ما فقده في سنين غربته الطويلة، تذكّره بحنينه للمرأة العربيّة، للجلسة الدافئة، للعادات الغذائية التي نسيها مع زوجته الفرنسية، للغة كاد ينسى التخاطب بها، فكأنّه يحنّ من وراء كلّ ذلك لوطنه الذي نسيه مع وفاة والديه و علاقته الغير جيّدة بأخيه و زوجته و أيضا عدم تحمّس بريجيت زوجته الفرنسية و ابنه للذهاب لتونس خلال العطل.
مع تطوّر هذه العلاقة، يعيش البطل صراعا داخليا بينه و بين نفسه و كأنّه يصارع أَنَاهُ، فهو يعتقد بأنّ الفوارق الإجتماعية بينه و بين زهرة كبيرة، بين الأستاذ الجامعي و الخادمة، هوّة سحيقة لا يمكن القفز فوقها لأنّ الوقوع سيكون حتميّا و هو ما سيحصل بتطوّر أحداث الرواية حيث سيجد نفسه مضطرّا للتساؤل، هل فعلا وقع في حبّها؟ و رغم أنّ الإجابة لم تكن واضحة على السؤال و بقيت ضبابية مع القلق الكبير الذي عاشه البطل إلاّ إنّه سيعود في نهاية الرواية للعيش على الحنين و الشوق.
العلاقة بين كمال و زهرة، تحيل على العلاقة بين الغريب و و طنه الأمّ، علاقة غير واضحة، مكتضّة بالمشاعر دون حسمٍ فيها، مملوءة بالتردد و التوتّر و الخوف الأزلي من العودة للوراء، فالغريب الذي رحل عن وطنه يقلق دائما عند التفكير في العودة و الإستقرار رغم الرغبة الدائمة في ذلك، هكذا كان حال بطل الرواية كمال الذي ظنّ أنّه أحبّ زهرة، فهو بذلك يخطو للوراء، للعودة للإستقرار بعد أن عاش سنينا طويلة بين أحضان زوجة ( وطنا ) أجنبيّة، لكن كما هو حال الغريب دوما يتركه الوطن في لحظة غفلة، ترحل في النهاية زهرة تاركة كمال يتعقب خبرها من خلال جار يخبره بذلك و بأنّها أودعته السلام للجميع، فيقف في شرفة بيته ينظر لشجرة كانت تحبّ الجلوس تحتها.
2 - حنين الأحضان و الأوطان
تطرح الرواية عددا من الإشكاليات من بينها، مشكلة الإندماج عند المهاجرين حيث يفضّل أغلبهم السكن في الضواحي أين يكثر الغرباء مبتعدين عن أحياء الفرنسيين الذين بدورهم لديهم مشكلة كبيرة في قبول الآخر بثقافته المختلفة و هذه إشكالية أخرى تثيرها الرواية.
يقول الكاتب " إنهم يؤثرون الإقامة في بلدات الضواحي و مدنا حيث يتواجد العرب بكثرة، مما يخفف من إحساسهم بالغربة و العنصرية، و حيث تتكاثر محلاّت اللّحم الحلال و المواد الغذائية و الخضار و الفاكهة التي يفضلونها، و حيث الأسعار أقلّ ارتفاعا مما هي في باريس" ص9.
تطرح الرواية أيضا إشكالية الزواج المختلط من خلال حديث البطل عن التقلّبات التي يعيشها مع زوجته الفرنسية التي حاولت فرض نظامها في العيش و لم تقبل أن يكون مختلفا بعاداته و ثقافته.
إذ يقول الكاتب « لم أكن أتردد على هذه المحلات و المخابز؛ لا لأنّني أعتقد أنّ بعض العرب يغشون في الأسعار فحسب، و إنّما أيضا لأنّ بريجيت ترى أنّها غير نظيفة كما ينبغي و تفتقر إلى شروط الصحة. و مع ذلك، أشتري منها أحيانا بعض الحلويّات الشرقية. و بالطبع لا آكلها في البيت و إنّما في الشارع، خوفا من انتقادات بريجيت » ص 19.
كما تتطرق الرواية لقضيّة الرعاية الإجتماعية و ما توفّره فرنسا من خدمات إجتماعية تجعل من المهاجرين رهائن بطريقة ناعمة فلا يجازفون بالعودة لبلدانهم و الإستقرار فيها خوفا من فقدانهم لتلك المنافع.
حيث يقول الكاتب « أمّا لماذا لم يعودوا لتونس بعد تقاعد منصور، فهذا يعود أساسا إلى إعاقة الإبن، و التي تستوجب علاجا مستمرا يتلقّاه في أكبر المستشفيات الفرنسية مجانا. و لأنّه معاق و عاطل عن العمل، فإنّ صناديق الرعاية الإجتماعية تمنحه تعويضات و معونات. كما تحصل أمّه زهرة زهرة أيضا على إعانة بطالة. و بالطبع، حين يعودون لتونس، سيحرمون من كلّ هذا » ص 11.
و لعلّ الطرح الأكبر للرواية هو تيه المغترب، تشتّته حتى إن بدا أنّه يحيا حياة سعيدة ظاهريا لكنّه بمجرّد أن يطرأ طارئ على حياته حتى يعيد تحريكها من جديد.
يقول الكاتب « لقد أفلحت في تجاوز محنتي إلى حدّ بعيد. و ها أنا الآن مثل ملك. لي امرأتان رائعتان أحبّهما؛ إحداهما فرنسية و الأخرى عربية. لم يخطر ببالي قطّ أنّي سأجد نفسي، و أنا في الستين في وضع ممتاز كهذا. لا يهمّ إن كان حبّي للثانية سريّا أفلاطونيا. بل يجب أن يبقى هكذا. من مصلحتي و من مصلحة زهرة، بل و من مصلحة أسرتينا أيضا، ألاّ يتطوّر هذا الحبّ و أن يبقى عذريّا و سريّا » ص 71.
هذا ما حدث مع البطل كمال الذي تبدو حياته مثالية، فهو أستاذ جامعي يقيم بدولة من أرقى الدول، متزوّج من امرأة مثقفة تعمل ببنك و لديه إبن، لكن هذه المثالية ليست إلاّ ساترا يخفي وراءه رجلا غريبا تائها يبحث عن الحنين بين الوجع و الأنين، فرأيناه يتخلّى عن أبّهته حين التقى بالبطلة التي لم تكن إلاّ خادمة و مع ذلك سار وراءها يتبعها لكن في الحقيقة كان يقتفي أثر نفسه الضائعة و حنينه للوطن الذي هجره، فكأنّه بهذه العلاقة المحرّمة بينه و بين البطلة المتزوجة و هذا الحضن الذي ليس له و لا من حقّه، يستذكر علاقته بوطنه و علاقته المحرّمة به بسبب الغربة و حضنه الذي لم يعد له و لا لأمثاله من الغرباء الذين ارتموا في أحضان أخرى غريبة، فباعدت بينهم و بين أوطانهم و قطعت حبال الودّ بينهم.
يقول الكاتب « تابعت و هي تخطو صوب الباب للمغادرة : لابدّ أن يكون لك بيت في بلدك...لا يجوز ألاّ يكون لك بيت في تونس..كلّ ما تملكه خارج بلدك لا يساوي شيئا أمام ما تملكه في بلدك » ص 109.
3 - الإشتياق للجارة
الإشتياق للجارة هو إشتياق للوطن، إشتياق للأرض و للعودة للماضي التليد. فالمرأة بما تمثّله من رمزيّة صنع الكاتب من الإشتياق لها و حبّها حتّى المحرّم منه، بحثا عمّا يفقده الإنسان في غربته من علاقة بوطنه الأمّ. فحبّها في النهاية هو حبّ للوطن و كأنّ المرأة هي الوطن، و هي كذلك عند الحبيب السالمي.
*كاتب تونسي