المحنــة:
يتسع مفهوم المحنة ، ليشمل الابتلاء الذي يصيب الفرد أو الجماعة ،وهو امتحان يجتازه المرء في الحياة ، وقد تكون المحنة عذابا يقاسيه الإنسان في الحياة . والمحنة في غالب الأحيان تترك أثرها الاجتماعي والنفسي على الفرد والجماعة، كما أن الانسان وبفعل مقاومته قد ينجح في التغلب على المحنة لتتحول إلى ذكرى، وقد يخفق في النجاح للقضاء عليها فيتم التعايش مع معها.الإبـــــداع
يعد الإبداع من المفاهيم الملتبسة لارتباطه بالإنسان ، فهذ الأخير دائم النشاط والتفكير ، يسعى دوما لتجاوز ذاته واختبار الواقع لينتج من خلال ما يتاح له من عناصر معنوية أو مادية، في كل الميادين الفنية والصناعية والفكرية، فالإنسان القديم عندما وعى ذاته انطلق مبدعا ومبتكرا، حاول أن يتغلب على الطبيعة ليطوّعها لصالحه، وقد أنتج مجموعة من الأدوات لتخدم أهدافه الحياتية ، كما يمكن أن نسجل بأن الابداع لم يكن لحظة يتميز بها زمان دون آخر، بل الابداع فعل وسم كل العصور وعند كل الأمم ، والابداع عموما يأتي بمعنى الاختراع و الابتكار والتشكيل كل المواد الموجودة في الطبيعة . زد على ذلك فهو تفكير دائم عبر العقل واللغة، فالإنسان كان ينظر للحياة في إطار التناغم والاندماج والنفعية. فهكذا ابدع فكان صانعا متميزا وأحس بالفرح فكان شاعرا ومغنيا وحاكى فكان رساما أو ممثلا وعندما حَلَم وفكّر كان فيلسوفا وهكذا...
هل يمكن اعتبار كورونا محنة؟
عرف تاريخ البشرية أوبئة كثيرة ، وعاش العالم العربي بعضا من هذه الجوائح ، فقد قاسى من الطاعون الفتاك ، ومن الكوليرا القاتلة . وقد أترث هذه الأوبئة على حياة العرب ولحق بهم الموت والكساد وانتابهم الهلع والفقر، ولتوثيق هذه المرحلة عبّر الكتاب والشعراء عن اثر هذه المحن ، ففي أيام(سيرة ذاتية) سطّر طه حسين إشارات قوية لجائحة الطاعون الذي ضرب مصر، وفي شعر نازك الملائكة قصيدة مفعمة بالاوجاع وسمتها بالكوليرا . بالضافة الى مجموعة من الإنجازات الإبداعية التي نحتها أصحابها زمن محن . وأرى ان كورونا لا تختلف عن هذه الجائحات و هذه الأوبئة التي أصابت العالم ، وحولت مجراه الاجتماعي والاقتصادي بل حولت تفكيرالبشر على مستوى المبدأ والطموح وطريقة العيش.
الإبداع الأدبي زمن كورونا :
يتحدد مستوى الإبداع وارتفاع منسوبه بكمية الحرية التي يعيشها الإنسان داخل محيطه، لكن في زمن كورونا ، فُرض الحجر الصحي على المبدع فأصبح منزويا مركونا، ينتابه الخوف والهلع من مرض يتربص به ، مرض لا علاج له ، المبدع مثله مثل جميع الناس، عليه أن يمتثل للحال الذي فرض على الناس العزلة، فهول اللحظة يخيم على العالم ، كلنا يعرف أن المبدع انسان ألف أن يعيش وسط الناس داخل المسارح ودور النشر والنوادي الثقافية ، والآن كل الأنشطة الثقافية المباشرة محاصرة. المبدع إنسان ذكي، قاوم عبر التاريخ وكسّر قيود المحن والعزلة ،يحكى في وسط العلماء أن إسحاق نيوتن توصل الى قانون الجاذبية في عزلته، عندما كانت لندن تعاني من وباء الطاعون . وفي حقل الآداب ألف فيكتور هوغو البؤساء وهو في عزلته عندما كان في منفاه ، حيث كان من أشد معارضي ومنتقدي نابليون الثالث.
ثبت أن الحجر الصحي لا يمثل حاجزا للإبداع . وعليه سنحاول أن نبحث عن بواعث الإبداع من داخل الحجر الصحي، إن الدوافع التي تحفّز المبدع في ميدان الأدب كثيرة ، وهي محاولة للتنفيس عن الألم و مقاومة المحن ، ولكن ومهما يكن من شيء لا يمكن أن يرتفع منسوب الإبداع إلا في ظل التشجيع والمثابرة ، ولهذا فيمكن اعتبار كورونا عاملا مشجعا على الابداع ، بل مزكيا لمفهوم العزلة ومرسخا لدلالتها الجمالية ، في أفق الابتعاد عن الهم ّوالضيم، اللذين يسيطران على المبدع في دوامة الوهم والنمطية ، وعليه فلابد من تجاوز السلوك والتفكير ونمط العيش الذي ألفه المبدع في الحالات العادية ، علما ان هذا الأخير ألف أن يعيش طليقا حرا كطائر البراري،
إن تخطّي الإحساس بالعزلة لصنع فعل تاريخي متعدد الرؤى بين الأدبي والفلسفي والثقافي عموما . إن فعل التجاوز في إطار الابداع الأدبي هو منعطف كبير، وعليه تكون كورونا لحظة تاريخية أحدثت منعطفا مهما في ميادين مختلفة ، ومعها سيصبح مفهوم العزلة مصطلحا مركزيا في الحقل الثقافي والإبداعي عموما، العزلة المتحدّث عنا ليست اختيارية إنها إقامة جبرية ، وليست سجنا ، إنها انفراد في مكان ما ، إن العزلة نافذة يطل منها المبدع على العالم، انها تواصل فعال بطعم الخيال والحلم ، عبر الكتابة الإبداعية والقراء والنقد ، من هنا نقول : يمكن للمبدع أن يتجاوز مفهوم العزلة لينخرط إيجابا في الحياة الجماعية في إطار التعايش والانسجام . يمكن أن تحولنا كورونا وتغير سلوكنا ، لكن لن تعقِل في المبدع روح الابداع والعطاء، وإذا كان المبدع ابن بيئته ، فحياة المبدع الآن حجر صحي وعزلة ، وجب أن يكون ابداعه تعبيرا عن واقعه المعيش ،وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن إبداع مرحلة الحجر والعزلة سيكون انعكاسا مرآويا للواقع ، بل سيكون الابداع محاكاة أدبية لواقع المبدع النفسي والاجتماعي . هذا الابداع المفعم بالجمالية والتخييل.
وعل هدي هذه المقاربة جاء إبداعي ، انطلاقا مما أعيشه داخل الحجر الصحي والعزلة الانفرادية:
كورونا
هو الخوف الراحل فينا
هو الموت المتربّص
الساكن، تحت الرّموش
هو الموت ثم الموت
يندلق في خفّة
على الأكف يرسم
الأحزان،
بلون الصّمت.
لا بكاءٌ... لا عزاءٌ
هو السكون الضارب
حصارهُ،
في كل بيت.
وجلٌ وانزواء...
وفي المُقل خوف وأنين
بين الموت والموت
موت .
وفي القلب ألف رعبٍ
ومخالب الوجع
تخنق الأحلام
متربّصةٌ،
بالمعنى والسؤال،
وباءٌ... وقيدُ ...وسؤال
أين المفر؟
يا صاح أين المفر؟
طوْقٌ عصيٌّ، وفخاخ...
على كل الطرقات،
رائحة الموت في كل الساحات،
تأجّل كل الحب ّ.
رحل اللقاء،
أهو حبّ البقاء؟
هل نعود يوما؟
سنعود....
لا كما كنّا،
لا ...وألف لا،
سكن الخوف كل ّ فؤادَ
ما عاد يكفي
ان نرحل
نداعبُ أحلامنا
سكن الخوف ،
كل ّ فؤاد،
غدا ...
أو بعد غد...
ترى من تقب السماء
ضوء جديد.
تداعبه ...
أنامل الصغار...