قراءة أية تجربة شعرية مغامرة من نوعٍ خاصّ موصولة باستراتيجيات منهجية متعدّدة التشكّلات، وبداءة لا بدّ من بسط المنطلق الذي يؤطّر هذه القراءة البسيطة، هذه التّقديمة ليست سوى تأويل تأملي للتدليل الشعري عند الأديب العربي الحميدي منطلقين من ديوانه الأبله، في محاولة منّا لتكثيف التدليل الرمزي الفني متابعين المعنى المتولّد غير الجاهز أو المعطى سلفا، والمتشكّل كنتيجة لتفاعل ثنائي بين المنتج والمستهلك في آن واحد، والوسيط هو المشترك الفني الأدبي الجمعي بيننا، أو الموسوعة كمصطلح مُستلهَم من السميائي إمبرتو إيكو.
فالقصيدة عند الشاعر العربي الحميدي لوحة سوريالية، كأنما هي وعاءٌ يتضمّن حيثيات التجربة الذاتية، منذ البدءِ يعلن الشاعر تمرّده على النسق الجاهز التّراثي، كمعطى ثقافي سابق في الوجود، حيث ثمّة تكسير لما ليس يمتّ بصلة لروح عصره، أي النّمط السائد في فعل الكتابة، وتوليد نظرة تختلف عن السالف الذكر جوهرا وعرضا، إنّه يعبّر عن ذاته بأدواتها هي كأداءٍ، مستثمرا نظراته هو للأداة التي يكتب بها من جهة، أقصد مادة السلوك الشعري بالضبط نسق اللسان بتعبير فردنان دي سوسير، ومنسجما مع ما يصوغه، وبالتالي من المناص باعتبارها كتدليل يظهر ذلك الأمر، في أولى الصفحات.
غير أننا سجلنا بضع ملاحظات، منها ميله إلى التعقيد المعنوي، والزخرفة اللفظية، في بعض المواطن، صحيح، إن ما يجعل القول الشعري مميّزا انزياحه عن لغة التداول العادية، ولكن في الوقت نفسه يؤدي الإفراط في الغموض إلى تضبيب الرؤية لدى المتلقي، إذ إنه قد يكون أيّ متلقٍ من الخواص ومن العوام، فليس التلقي حكرا على الفئة النوعية، وثمة علامات تصور العتمة المعنوية في مختلف قصائد الديوان، وهذا ينسجم مع غموض الشاعر نفسه، والديوان حينما نتلقاه كجمهور، يرغمنا صاحبه على الدخول في عوالمه بشكل فعلي على سبيل المشاركة والتعاون، يقتضي سياقه أن نكون مؤولين منخرطين في فعل البناء، ظروف التدليل تجعلنا نصطنع سياقاتٍ نسقيةً شعرية خاصة بنا، لعلنا نستطيع إدراك الفهم الذاتي، فالمقصود ميّت يحتاج إلى أن نقوم ببعثه.
وثمة علامات تنسجم وتصورنا، كقوله: " أيها الطيف الآتي من بعيد من عالم الضباب " والمعنى عنده يُبسط كحلم يحتاج تأويلا، فلا يقدمه على طبق الشعر جاهزا ظاهرا، إنه في عمله يعبر عن كلّ ما تختزله سنون حياته من تجارب، يكشف أوراقه ويعتمدها في بعض المواضع بصريح العبارة، فلا يشكل علينا فهمُه، ليس كمن يخفي عقده، ويدفن تجاربه، وإن كان يفعل الأديب العربي ذلك، ولكن بشكل غير ممتدٍ.
يقول: "خلقت ما منحت حق الاختيار" وبالتالي هو كأنه يشرع لنفسه من خلال أدبه ما حرم منه، إذن يصبح الشعر وسيلة لإصلاح ما أفسده كل معطى سابق، وفي الحب يكشف جوانب من تجربته الشعورية، والمقولات الصغرى التي يوظفها تعيننا تارة، وأخرى لا تسعفنا لإيجازها واختزالها على سبيل المجاز المسيطر تعبيرا، إن شعره قاصد ومقصود، والمرسل إليه متعدّد، على سبيل التخصيص هو مخاطًب غيرُ واضح الملامح، تكشف لنا العلاماتُ النصية على أنه واقعي، ولكنّه غيرُ مدرَك، في عالم بين الشهادة والغيب، يقول: "أيها القمر المخفي" فيجمع بين المتناقضين، كيف يخفى علينا القمر؟
هذا اللعب بالكلمات فيه بعد إيحائي، إنّه يظهر المحبوب بصورة مثالية أحيانا، فيجعلنا نسعى لاستحضار صورتها بجمع شتات كلماته، وهو يخشى عليها حتى من نفسه أن تعمل عملها فتفسد نظرته لها، يقول: "حتى أنت أيها الشاعر فيّ تغار من هواي لها" والهوى عنده تجربة حسية تمتزج فيها كل أطياف الأحاسيس، بين أمل وألم، ورضا وغضب، وقلق وأمن، وحين يخاطب نفسه أحيانا يوجّهها، وينزّلها منزلة الآخر "لا تنتظري شيئا من الحاضر الغائب" وهذا الحاضر الغائب امتداد لما أشرنا إليه من قبل، فهو لا حاضر له، وما دام غيرَ كائن، فلا مستقبل يتولد عنه من حيث لا معطيات قبلية، فالماضي المنفلت هو ما يعيشه الشاعر، في لحظة حضور الوعي وفي لحظة غيابه، فمن لا حاضر له لا مستقبل له.
وتفكيره متعلق بماض ممتدٍ على مستوى السلوك الإبداعي، "لم أعد يا ملهمتي سوى ظل الماضي تتقفاه الكلمات ويخشاه القلم ساكبا حبره الباكي" وفعل التشخيص واستعارة ما للإنسان وتفريغه في الشيء الخارجي أي القلم، ومحاولة إقحامه في معطيات طبيعية شعورية مهمة نجح فيها، كما أن ثمة تفاعلا بين ما هو نسقي وما هو معنوي، فنسقيا يتشكّل الفراغ الدالُّ عموما على محاولة إشراك المتلقي في التدليل، وقد يكون القصد غيرَ ذلك، وهو العكس، ولكنه عموما هو خطاب صامت يفتح باب التأويل على القراءة، وإن فعل التضمين كإجراء ليس بريئا، وهو على كثرته في الديوان، يوحي إلى رافد من روافد تجربة الشاعر القرائية، فينبغي أن يقودنا هذا إلى الربط بينها كخلفية معرفية سابقة في الوجود وما جاء به، لفهم مقصوده، لأن تلك الإحالاتِ وإن كانت ميتة فهي مدفونة في الديوان، وبذلك تأخذ حركة وشكلا.
الشعراء منهم الذي يكتب لنفسه، وثمة من يبدع لغيره، وصاحبنا يجمع بين الأمرين، كما يصرح في استهلال الديوان، إنه صمتٌ غيرُ ناطق، ولكنه في أية لحظة ينفجر إذ يشبّه نفسه بالبركان، والبركان يأخذ شكلا سرديا ووصفيا ترميزا إبداعيا، والمسجل هو سيطرة البعد السردي الأنطولوجي المفضي إلى بناء العوالم وتشكيل دراما شعرية مع استعارة عناصر الطبيعة للتدليل، منها عناصر طبيعية كزرقة البحر لبناء تيمة الغزل "أشتهيك أشتهي زرقة البحر في عينيك" والصمت عنده ليس على سبيل الاختيار وإنما كان اضطرارا، وهذا واقعه إذ قلما يبوح على قلة من هم حوله، كما سجلنا محاولة تثبيت إنسانيته من حيث الضعف، والخطأ، والوهن، والأبله هنا على خلاف المجنون، الذي فقد عقل المجتمع واكتسب عقله متأثرا بجبران خليل جبران.
إن له خصيصة يصنع حياته كما يشتهي، ولا يأس يحوم حوله، وهو الذي يساجل الممكن وغيره، "يسابق رياح التمني" كأنه يتوق ولو كان المنتظر غير آت. يقول: "ما التي بداخلي؟ الغواية أم لعنة الشعر" والشعر عند أغلب الشعراء نقمة، ولكن المفهوم هنا عنده مختلف عنهم، له رؤيته، ولكن لعنته في الملاحظ، تتجلى في الإثارة الشعورية، والاستجابة كذلك، فيكون بين مدّ وجزر، "تموت روحي شيئا فشيئا فيك " الموت عنده بطيء وهذا الذي يجعل من حزنه غير عادي، إنه ينتشي ألما في ظل هذه الوضعية، وليس يتردّد في ندائه بالوصف الذي يليق به، "يا قاتلي" فاللذة في فعل الموت عشقا، ومن يكره الاستشهاد في سبيل قضية عشقه؟
ومن جهة أخرى يعترف بضرورة القوانين الكونية، "لا حياة بدون موت" و "لا فرح بدون حزن". وإشكال التجربة مادي، على مستوى الزمن من حيث سرعته وكذلك امتداده، " الوقت لن يعود السنوات لن تعود" وهذا يترتب عنه منطقيا التردد بين مد الحقيقة وجزر الوهم، ولكنه على تعلقه لا يتردد في ملاحقة المجهول "منك لن أتوب" ولو كان ثقيلا عليه ذلك الحزن الممتدّ إلى وجدانه، "أحمل عبء ذكريات الماضي"
لعل تشكل الصورة عنده على نحو مختلف، لما تأخذه من شكل في القصيدة القديمة، "هي الأماني روح في منفى" إنه لا يوظف التقنية الفنية البلاغية للتزيين، ولا للتعبير، هو له مقصدية خاصة، فالأسلوب في كلية الديوان حجاجي على المستوى الإنشائي، لغة فلسفية من مقدمات ونتائج يصعب الحكم عليها، مع نزعة ميتافيزيقية تسيطر من دون أن يقبض على خيطها، إذ تكسّر منطق العقل والتجربة كليهما، مع تأثير قراءته للأدبين الروسي والإنجليزي، وغيرهما، والأطلال بلغة القدماء عنده تتخذ شكلا له فرادته، من حيث غياب الألوان، "صور بالأسود والأبيض تبت من بين الأطلال" أي أنها غيرُ قريبة منا زمنا. ونشير أن انتقاءنا عيّنات من الديوان كمقولات صغرى مرده إلى سياق كتابتنا، حيث لا يسمح المقام بتسليط المجهر على كل مواضعه.
صنع الشاعر للقارئ سياقا لبناء التجربة، حيث يدخله في النص، ليشاركه الفعل، والعالم المعبر عنه بعيد الإدراك، "هناك أنت أنت" من دون تعيين مسبق، لحيثيات الوجود، مثواك في"الحرف لعبة"
إن فعل التأويل يقود نحو الإبداعية الحرة، وهنا يحصل تفاعل إبداعي يغني التجربة، وذلك معطى لا بد من التأكيد عليه كي يستعين بآلياته القارئُ، "أنت قدري لعنة" "مغلوب على أمري حين مزمارك يلد ألحانا أركض خلفها" ومن مزايا السلوك الشعري في هذا الديوان هو قضية الإبداع، بما هو مبدأ من مبادئ روح الحداثة، إذ يحضر بشكل جليّ في الفن والأدب عند الغرب، وصار عندنا نحن العرب مستعملا على سبيل الممارسة والدراسة معا، والإبداع فيه نوع من الاستقلالية في النظر، يكون التعبير الشعري في ظل هذا الحال فيه انبناء لأقوال جديدة وأفعال ترتبط بالذات المبدعة، ينظر في هذا السياق كتاب روح الحداثة لطه عبد الرحمان، بالضبط المدخل التنظيري العام، هذه الميزة هي في حسب اعتقادنا موصولة بالتجريب عند صاحبنا، إذ يجرّب في الأشكال، وما دمنا هنا في صلة بالشكل التعبيري، فنشير إلى أن ثمة تسجيلا لجدلية السواد والبياض في التشكيل الطباعي للديوان، إذ على خلاف الظلمة والنور عند ابن عربي، فالبياض يدرك ولا يدرك به، بينما السواد يدرك ويدرك به، فالفن فيه حرية وابتكار وإبداع، وهلمّ جرا. لعل ما نسجله أن أداءه هنا هو نتيجة سجل قرائي طويل، وتكشف تجربة الشاعر أنه راكم قراءاتٍ عديدةً متأثرا برموز الحداثة وما بعد الحداثة، وتحضر بشكل جلي علاماتُ التأثر بشارل بودلير من خلال تجسد تجربة ثانية منسوخة كتناصٍّ تضارع مؤلف زهور الشر هنا في ديوان الأبله.
ونشير أيضا إلى أن الملاحظة الثانية التي نودّ في مقامنا هذا تسجيلها من باب التعاون كتفاعل مع المقروء هو عدم ارتباط الشاعر العربي بنمط موسيقي معيّن، فماذا لو كان ذلك حاضرا، أ لن يضفي على الديوان جمالية بسحر إيقاعي خاص؟
في الوقت الذي كنا ننتظر تصالحا، وسيادة اللين في التواصل الأدبي النقدي بين مختلف الاتجاهات صار التناحر، وغاب التحاور بين المتدخلين في العملية الأدبية، وهنا نشير إلى أنّ التحرر من أشكال السطوة والعداوة إلزامي، لا بد أن تحكم العمليةَ الأدبية الإبداعة التنظيرية قواعد تهذيبيةٌ إذ هذا السياق عندنا فوق كلّ ذلك، لأن دائرة الأدب قد تتّسع وقد تضيق، وما دمنا هنا من غير المجدي في نظرنا أن يدور مبدعٌ ما في حدود دائرة مغلقة، حيث في سلوكه تسقيف لحركة كائن غيرِ محدود في النّمو، ولا يموت فعلى حد اعتقادنا أيضا ثمة تقاطع وتعالق بين الأب العالمي كلّه، كل دائرة خاصة منه تشكّل إلى جانب غيرِها نسقا ثقافيا كونيا من سماته الشمول، وإذ نقول كلاما كهذا نلحّ على توافر شروط تقيّد كفاية تأهيل المبدع، لا بدّ له من مثاقفة خاصة في تضاريس جغرافيا الآداب الخاصة بلغته الأصل، وفق سيرورة خطية زمنية منطقية مركبية، هذا مع تفتيت بنيتها إن شاء المبدع طبعا عند لحظة ما وفق علاقة استبدالية غايتها التّجسير الثقافي والمعرفي مع نماذج محادية مجاورة، إذا ما افترضنا جدلا أن التواصل مع الأنا فقط فيه تقليد، أ ليس محاكاتنا للأنا الآخر فقط باسم الحداثة هو في حدّ ذاته تقليدٌ من نوع آخر؟
ولكن دعوانا التي ندافع عنها أن أي بديل تعبيري رمزي نسعى لتشكيله معبرين عنّا بشتى تشكلاته لو تحقّق تمثله بشكل سليم وفهمه بمنطق قويم كان سبيلَنا نحو تراكم ثقافي أغنى للتجربة الفنية، وفي الوقت نفسه لو أسقطنا نظرنا كهذا على هذه الأنساق الثقافية الكونية كلها ومنها ما هو حداثي رابطين بين خيوطها، ومركّزين رؤيتنا على الإبداع فحوار المبدع مع الأنا والأنا الآخر في آنٍ معا مُجدٍ يؤتي أكله، ويجعل الرؤى تنكشف، والأفكار تتناسل ففي الاجتماع إبداعنا يسمو نحو التثقيف النوعي لا الكمي طبعا، يكفينا ما تركم من كمّ لا يثقف ولا يسمن من جهل.
في الختام نبارك لأخينا العربي الحميدي هذا المولود الفني المميّز، وهنيئا للقارئ بهذا الينبوع الشعوري السائل.
في مراكش يومه 29 ماي 2020