انفاس نتكان وحيدا ، سعيدا وهو ينتظر اطلالتها هذا المساء .بيد أن شعورا غامضا انتابه فجأة فغفى ...
ما كاد يستفيق من غفوته ويتبين ما حوله ، حتى غمس سبابته في جرح ضلعه الأيسر النازف ثم شرع في كتابة أول قصائده على ظهر العارية المستلقاة بجانبه !
تنبهت على دغدغة السبابة فوق ظهرها ..رفعت عينيها فصادف نظرها تفاحة ناضجة .. حدقت فيها برهة ثم ابتسمت في خبث وأغمضت عينيها تتحسس حركة سبابته وتتلذذ بايقاع بوحه الشجي !
توقف عن الكتابة مسحورا بحسن حرف ( الحاء ) المرح .. الفرِح ..حدق فيه ..حملق .. حرارة بدأت تحرقه .. حركة حرنت في حناياه .. حمى .. حواها في حضنه بقوة وحنان وفي حلقه تحمحم حشرجة ثم حلق بها مبحرا في سماء أول حب !
اندست داخل الضلع الدافئ من جديد .. موسقت أو ل ألحانها على وقع دقات قلبه .. ورقصت على ايقاع حشرجاته القادمة من أرهف وتر حساس في أعماقه ..لكنها كلما فتحت عينيها ، بين شهقة وأخرى ، يصطدم نظرها بالتفاحة الطازجة فتبتسم في خبث !

anfasse.orgأنا تمثال سومري افقده التاريخ رأسه ولم يبق سوى كتلة حجر جيري . ولمنامي دستور نصته علي آلهة العشق أن لا اغمض عيني فالمساحات بين جفني حافلة بحقائب العشق الأزلي .
فلكل القلوب شبابيك تطل منها حور للعشق امتلأت بها حروف تلمع من ذهب وفضة تداولتها المناديل لتزيد بريقها . إلا أنا ساد الصدأ فضتي وتآكلت من قحط . وفي كل ربيع ابحث عن حروفي التي لم يبق منها سوى الألف  .
 أدور في باحات قلبي كالطواحين العتيقة افقد في كل حين ذراع . ويَِِِِِهرمُ قلبي على قارعة الطريق متكأ على أعوام طفولتي. حتى باتت السماء تمطر نجوما ماسية ترمي بها في كل الاتجاهات لتضمر حينا أعمدة الرخام وتنهار علي قباب قلبي وأتناثر متشظيا وافقد ما كرست طوال أعوامي من شموع وأصوات وزغاريد وأفواه قابلة للتهنئة ولون ابيض كنت لطالما أخشى النظر إليه .

anfasse.orgخرجَ إلى تراس المنزل يستنشق عبير الصباح . تلفت حوله ، فرأى الذئب والحملَ ، يسيران متشابكي الأيدي ، بودًّ ووئام . رأى القط والفأر يتسامران ، ويتبادلان النكات بألفة ، وحميمية. رأى الدجاجة تبيض في وكر الثعلب . رأى نمراً يحمل بين ذراعية غزالة جريحة ، ويسرع بها إلى الطبيب ، والدموع تنهمر من عينيه ، لمنظر جرحها النازف . رأى الأفاعي تخرج من جحورها ، وتدعو الناس إلى النوم في العراء مطمئنين . رأى كلابا تزأر ، وغربانا تشدو .
وقف مسطولاً يرقب ما يجرى حوله . عادَ إلى غرفة نومه يتصبب عرقاً ، ويتأرجح على حافة الهذيان . صُدمت الزوجة ، وسألته مفزوعة عمّا حل به . توسل إليها بنبرة حزينة ، أن تتركه وشأنه . اختلى بنفسه ، وقلّبَ الأمور في كل الاتجاهات . اتخذ قراراً لا رجعة عنه ، بالاعتكاف في المنزل ، وعدم الخروجإلا متنكراً ، وللضرورات القصوى ، مثل شراء احتياجات المنزل ، وتوصيل الأولاد إلى المدرسة ، والعودة بهم منها . طَلّق الندوات،واللقاءَات، والمحاضرات ، وورش العمل ، التي كان مهووساً بها بالثلاث . أما المناسبات ، فقد اختصر حضورها على اقرب المقربين إليه ، ولساعات محدودة . أخطرَ الزوجة ، والأولاد بقراراته الفجائية ، وألا يأتوا لأي كان على ذكر ما عقد العزم عليه ، تحت طائلة الحرمان من المصروف ، وربما الطرد من المنزل .

anfasse.orgأيها الحُبُّ أنتَ الذي بكَ أعتصمُ
وإلاّ فمَن مُبعِدي عن زماني
وضيقِ كياني ؟
ولأيِّ النبوءاتِ يُنتَدَبُ القلمُ !؟
----------------------
حين نزلتُ من قطار المدينة الداخلي ( المترو ) قادماً من وسط المدينة باتجاه البيت شعرتُ وأنا أسير في الزقاق الأول أنَّ رجلاً يتعقبني .
الطريق من محطة المترو الى بيتي عبارة عن ثمانية أزقة فرعية تارة تتصل ببعضها وتارة تتقاطع مع أزقة أخرى ومع الشارع العام , مشيتُ في الزقاق الثاني فرأيته ورائي على بعد خمسة أمتار , غضضتُ النظر فمثل هذه الحالات تحدث , سلكتُ الزقاق الثالث فظل ورائي ومحافظاً على نفس المسافة ... لم أتكلم معه ,

anfasse.orgفي يوم كان يبدو من أوله أنه عادي كباقي الأيام التي تروح وتغدو حاملة معها أثقالا من الخطايا، دون أن يشعر بها أحد من الناس حين تمضي بهم مسرعة في هدوء أو مبطئة في صخب. في عصر ذلك اليوم العادي خرجت أسمهان في مشوار مهم، لتتفرج على سباق الجري لمسافات قصيرة.. الذي سيقام في أوسع ساحة في وسط البلد. وانتعش وجه أسمهان لمّا نفخت الفرحة خديها وصار لونهما أحمر بلون الكاتشب. وغلّف قلبها مرح كثيف فصار يدق في ثقة ويخفق، ثم صار يعزف في سرور ويترنم وكان لحظتها لا يزال بين ضلوعها في شغف يرفرف. وشعرت أن أمرا جديدا سيحدث في البلد، وما أندر ما يحدث في البلد من جديد. ولم تنس أسمهان في أوج فرحتها أن تصطحب معها زوجها شعبان النائم على ظهره، الغارق في قيلولته ومنهمك في شخير عميق فيه طرقعات متوالية لا تخمد، وقصف متواصل لا يخبو يصدره أنفه وفيه من القوة ما جعله يهزّ ستائر غرفة النوم. فمدّت المرأة أصابعها الأرفع من أصابع الفنانات، ومشت بها كلها صاعدة على جسده لتقرص بخفة قمة بطنه العالي لتوقظه. فاستيقظ شعبان مرتاعا بعد عدّة قرصات، ثم نهض عند آخر قرصة وكان باله مشدوها وهو يقوم في فزع والسرير يئزّ تحت ثقل جسده الكسلان.
 ثم خرجت أسمهان من البيت.. فخرج وراءها شعبان.

أنفاسليلة القبض على حلمي:
تتداعى الأصوات صاخبة، خافتة أحيانا. أصوات أليفة لكنها صارمة.. قف.. قف. لكن الحلم لا يتوقف.. تتناهى أصوات أخرى. بنفس الألفة ونفس الصرامة.. دعه يمر.
أمر أنا وحلمي.
قف.. قف. تتناهى أصوات خافتة مغمغمة. أصوات معركة شرسة داخل الحلم، خارج المعنى.. قف.. قف.. دعه يمر.. قف.. قف..
أتوقف.. لكن الحلم يمر..

anfasse.orgنامت تتوسده. لم يكن معها لكنه يعيش في مخدتها، ويضع كل يوم زهرا، و نوارا، و نيلوفرا، ونيرولي، و قشور برتقال، ...عطور الشرق ... بخورا......
فتحت درجها، و أخرجت لفائف الرسائل التي وصلتها الأسبوع الماضي، بعد أن وضعت صورتها  وعنوانها في ركن التعارف و الصداقة على جريدة اليوم.... كانت الرسائل من كل مكان .الجزائر،...مصر،...قطر،...عمان،......كانت أختها الصغرى تسخر منها . كانت تقول لها أنت من زمن الورق القديم ....ألا زلت تستعملين الرسائل العادية....تنفقين مما يعطيك أبوك الطوابع و الأوراق ....أما تزالين في زمن الحفر بالفؤوس؟....كانت تضحك ولا ترد....كانت تحب أن تكتب على الورق
و تحب القلم....كانت تمضي الساعات الطويلة في كتابة رسالة واحدة إلى أصدقاء كثيرين يحبون التعارف. ظلَّ ساعي البريد يمر كل صباح، وهو يكاد يسقط من الدراجة. كان المنزل في أعلى الهضبة الشمالية للقرية ... كانت تبعد حوالي خمسة أميال عن مركز البريد...كان شابا قويا ، حسن الملمح ،مغرما بتصفيف شعره .... كان لا يتكلم إلا لِمامًا و يده تمر على التصفيف يتعهد زواياه و يسوِّيه.... كانت تراه ينظر إلى المرآة العاكسة ليرى ماذا فعلت الريح بشعره.اعتادت أن تنتظِره كل صباح و تعد له بعض الحلْوى و عصير برتقال .كان يأخذه على عجل .وهو يسلمها الرسائل .كان يصيح في لعب هذه الجزائر ..هذه السودان ..هذه سوريا.. وبلاد أخرى كثيرة لا تعلميها....كان يضحك ثم يمضي.

anfasse.orgجال ببصره في أطراف الحديقة قبل أن يسترسل قائلا : لو علمت سلفا أن مآل هذه البلدة سيكون إلى خراب لوافقت "مسيو جون" على الهجرة إلى فرنسا قبل أربعين سنة .. كانت هذه الحديقة فردوسا يشتهي الوافد إليها أن يُدفن فيها.. أجل ! جداول الماء تنساب في صمت وتؤدة لتروي كل نبتة وشجيرة .. والحشيش الأخضر الزاهي يُغنيك عن الفرش و السجاجيد .. أما صنوف الأزهار الملونة فتسحر العين وتخلب اللب ..رحم الله زمان الفرنسيس !
كان  السي علال من الرعيل الذي فتح عينيه ذات صباح على  عساكر "المارشال ليوطي" وهم يذرعون أزقة البلدة ..توجس شرا في الأيام الأولى.. فجذوة المقاومة والرفض توشك أن تتقد تحت رماد الصمت .. لكن سرعان ما استتب الأمن وخلا له الجو ليقدم فروض الولاء !
عُين في باديء الأمر سائسا لأحصنة الثكنة العسكرية ..أبدى همة عالية وأدبا جما .. فلم تمض سوى اسابيع قليلة حتى صار الجنود ينادونه ب " مسيو علال" ..لم ينم ليلتها من الغبطة.. قرر أن يتفانى في عمله ويتودد لكبار الضباط عسى أن ينال  حظوة العمل في إحدى  " الفيلات " .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة