كان أول لقاء في باحة نضرة مزهرة، متأبطة كتاب "اللامنتمي" كولن ويلسون...
انتظرتُها هناك لغرض يَهُمها ويهمني...لا فرق.
أثرنا انشغالات كثيرة: هواجس العمل، الدين، السياسة، العلاقات الإنسانية...
أثارَني صوتُها الرخيم: نظراتها التائهة، حزنها الدفين المهيمن على عينيها النائمتين السوداوين الجميلتين...
امتد الوصال والتواصل؛ كشفنا واكتشفنا كثيرا من طباعنا وخبايانا...سافرنا إلى العاصمة، قضينا فترة ممتعة بمذاق المراهقة، في المكتبة العامة، على شاطئ المحيط، في سينما الفن السابع...تبادلنا الاعترافات وحب شعر السياب، والموسيقى الأندلسية...
قرأت لها "ضجة العاصمة"، وبعض قصصي/همومي، اندمجت بشكل لافت يَنْضَح حرارة ونضجا وعشقا للفن الجميل...وقرأتْ لي بعض إبداعاتها ومذكراتها؛ رسخت في ذهني: مذكرة " أواني الطبخ"...
تلونت الدنيا، احمر الشفق، ورقص المحيط...
أصيبتْ بوعكة صحية مفاجئة، زرتها في المصحة على عجل، ممددة على سرير أبيض، ملفوفة في ثوب المصحة الأخضر...تزامنت مع عثور "المارينز" على "صدام حسين" في حفرة شمال بغداد، أشعث أغبر تدلت لحيته المبعثرة وشعر رأسه الكثيف المتسخ، على وجهه علامات الرعب والهلع والذل والخنوع، جحظت عيناه، وفغر فمه مستكينا مستسلما لعسكري أميركي مسلح من قدميه حتى قنة رأسه، لبس قفازيه، يحصي أسنانه ليتأكد من هويته...
جلست على كرسي بضع دقائق أُوَاسيها وأتألم، سقطت دمعتان كالبَرَد على وجنتيها المحمرتين، خرجتُ مسرعا مضغوطا من شدة الألم والتأثر، وقفت أمام باب العيادة لا أدري إلى أين أتجه؟
رفعت عيني إلى السماء؛ قطفت سحابة بيضاء، كانت تَعْدو وراء سحب مبعثرة تتسابق نحو الغروب...
صعدت وفي كفي تلك السحابة الهاربة، وضعت نصفها بحَدَب وحذَر في حضنها...
هبطت سلم العيادة مترنحا إلى الخارج، همستُ لنصف السحابة في يدي أن تسافر إلى بغداد، وتخبر "هارون الرشيد" باغتصاب ريع السحب قبل وصولها إلى سماء بغداد...