هذا المنعطف الذي يشعرك أنك ترتقي، تصعد، تترك الأسفل وتمضي إلى الأعلى بعيدا عن الوادي، وربما بعيدا عن الخطر، هذا المنعطف الذي يغير اتجاه الطريق، اتجاه الأرجل والخطى، يبدو أنه تصحيح لشيء ما، استدراك لخطأ تم الوقوع فيه، أو هو في أحسن الأحوال تحايل على الطبيعة، على شدة الانحدار أساسا. لو كنا، نحن أهل هذه القرية نتمتع بقدرات خارقة، كأن لا نتعب ونتعرق عند صعودنا من الوادي محملين بالأثقال وبدونها، مثلا، لو كان الأمر كذلك، لما كنا ربما بحاجة لهذا المنعطف.
قد يخيل إليك أيضا، إن كنت ممن يسرح خيالهم بعيدا وتستغرقهم بعض الشطحات الروحية، أن هذا الصعود تسلق وتقرب للسماء وبُعد عن كل ما يشدك إلى الأرض ومستنقعاتها. سلوك هذه الطريق طقس كان يكرره أهلي بخشوع وتركيز دون تدمر أو يأس.
تجول في نفسي مثل هذه الأفكار عندما كنت اسلك هذه الطريق صعودا إلى القرية، وأما عندما أهم بالنزول، فقلما فكرت في المنعطف. أرفض دوما اعتبار هذا التمرين اليومي الشاق مجرد شيء بدني صرف، ألا تطهرنا هذه الطريق الشاقة من شيء ما؟ ولكن ماذا سيكون هذا الشيء؟ أنا أقول، ولكن قد لا يوافقن أهلي في هذا القول، رغم ذلك سأرمي به هكذا جزافا وليحاسبوني بعد ذلك إن شاءوا، هذا الصعود الشاق والمتكرر هو ضريبة شيء واحد لا غير، هو في سبيل الرؤية من أعلى، لا يستقيم المقام لأهلي إلا إذا سيطروا على الوادي من فوق، من فوق أسطحهم، كأن بهم نسور لا يرضيهم السهل ولا الأرض المنبسطة.
أحسب أن هذا يريحهم ويشدهم أكثر من أي شيء آخر. إن صعود سطح الدار وإلقاء نظرة على الأفق الذي تغلقه الجبال من كل جانب، طقس قد يلخص كل معنى الحياة بالنسبة لأهلي، وفي سبيل ذلك، كانت لا تتعبهم الطريق الصاعدة ولا منعرجاتها، لا بل وكيفوا مشيتهم مع ميلان الطريق حتى ألفت أجسادهم ذلك السير المائل.
قد يكون الشقاء والجهد، التعب والعرق هو ما يدفع بي إلى مثل هذه التأملات الفضفاضة محاولا القبض على حكمة ما، قد تكون مجرد وهم أداري به ثقل الأيام. في الحقيقة لم تكن هذه الخواطر إلا جُماع ما استحصدته من حلق دقن دا الحسين.
أثناء محادثة طويلة أمس مع "دا الحسين" مارست جميع الحيل لأجره لكلام عن الطريق القديمة، ولكن دون أن أكون مباشرا، لا لشيء سوى لكي أتركه يتكلم بتلقائية ولا يحسني أوجه الكلام وجهة أريدها.
بدأ كلامه بانحباس المطر وأثر الجفاف، كنت واقفا والشفرة بيدي وهو جالس يمرر يده المبللة فوق دقنه، في لحظة بدا وكأنه يحاول أن يتذكر شيئا بعيدا، يداه المبللتان تقطران ماء، الظل بدأ يقترب منا في ركن قصي من سطح منزله، ما يعني أن الشمس بدأت تميل نحو المغيب. معززا كلامه بخصوص الجفاف قلتُ، بأن الأثر واضح على أوراق الأشجار التي بدأت تصفر قبل أوان الخريف، فحتى تلك الأشجار المعمرة المتراصة بجانب الطريق القديمة لم تسلم من أثر الجفاف.
هكذا عرجت إلى الحديث عن عمر أشجار الجوز التي تظلل الطريق القديمة الصاعدة للقرية، فقد كنت أمرر الشفرة ببطء على أطراف شاربه ولم تتح له الفرصة لمواصلة الكلام حول الجفاف مخافة أن أجرحه، الحقيقة أني انتهزت تلك الفرصة كي لا يعود لذكر الجفاف، أعرف أن أهل قريتي، الشيوخ منهم بالخصوص، يسرحون كثيرا كلما دار الحديث حول الجفاف والمطر، يُجرون تلك المقارنات المتكررة بين الأعوام، العجاف منها والسمان. رفعت الشفرة وتراجعت لكي ألقي نظرة شاملة على دقنه وشاربه، وبثقة من لديه جواب قديم لسؤال لم يُطرح قال:
ـ " وجدت تلك الأشجار كما هي لم تتغير، ولكن المرجح لدي أنني أنا الذي تغيرت معها، ولم انتبه لتحولات جذوعها وأغصانها، واكب تغيرها تقدمي في السن ولم انتبه، لم يسبق وأن اصفرت أوراقها في هذا الأوان".
يلذ ل"دا الحسين" في لحظات روقانه أن يصدح بمثل هذه الأفكار التي يريد منها أن تكون غير سطحية، يريدها أن تكون أفكار رجل خبير، عمر ما يقرب من خمسة وثمانين سنة كما يؤكد. أثناء المحادثة ذكر لي، وقد كنت قريبا من الانتهاء من حلق دقنه، أن الصبر وحده والتقدم ببطء ينجي من المزالق ويفضي إلى المنشود.
ـ " إنني أكره حلاقي اليوم، هم دائما مستعجلون، يفكرون في عدد الرؤوس والدقون التي سيحلقونها، لذلك لا أزورهم يوم السوق. لعلك تلاحظ أن هذا الوجه تخترقه الشعاب والحفز، وجه قديم هو، يستلزم حلقه صبرا."
قاطعته:
ـ " لازال بإمكانك الزواج ثانية حتى وأنت في هذه السن، النساء على حد علمي تعجبهن الوجوه القديمة، الوجوه المجربة التي خبرت جميع الأحاسيس والأحزان، الوجوه التي لم تعد تصطنع شيئا..."
أضفت وقد حاولت أن أكون حكيما ملما:
ـ " يخيل لي أن النساء لا يغريهن في الرجل سوى التجربة وقليل من المال".
يا لها من تعميمات فضفاضة وأحكام جاهزة، ولكن كنت مصرا على اطلاقها وكنت أترقب رد فعل "دا الحسين"، أعرفه كما يعرفه أهل القرية وسكان القرى المجاورة، سر شهرته عميق ومتين، ليس لحس دعابته وسخريته اللاذعة فقط، ...
رد على تعميماتي قائلا" إني بدأت أشك حقا في رجولتكم، رجولة جيلكم هذا يحق لنا أن نشك فيها"
أدركت غايته وفهمت قصده، ولكن امعانا في استفزازه ودفعه للذهاب بعيدا في الشرح قلت، الرجولة؟ نحن عند كلمتنا دوما، أبواب منازلنا مشرعة لا تغلق، هذا ما تعلمنا منكم، قلتم أن الكرم هكذا يكون، نستقبل الغرباء وغير الغرباء. أمس بلغتني أمي أنك بعثت في طلبي لكي أحلق دقنك وها أنا ذا أفعل، وأفعل بشفرة أمضى وأحسن من شفرتك البالية، عبدنا طريقا جديدة للقرية تمكن العربات للوصول حتى حدود عتبات الدور، ماذا تريدون من جيلنا أكثر من هذا؟ هل من رجولة أخرى أجهلها حدثني عنها؟ نحن نسير على دربكم، نحافظ على إرثكم ولعلنا تجاوزنا اجتهاداتكم.
كل هذا قلته بسخرية، وكان "دا الحسين" لا ينظر جهتي وإنما يتحسس دقنه بأصابعه، يبحث عن بقايا شعر يدلني عليه، وكأن ما أقوله لا يعنيه.
"الهادي، أفسدكم شيء ما، أنا متأكد من أنكم جيل من البلهاء، لا أدري بالضبط أي مصيبة ألمت بكم، هل ما تلقيتم في الصغر من حقن طبية أم ما أصبحتم تستهلكونه؟ المهم أني لست متفائلا بكم"
لأول مرة نطق باسمي، هو هكذا يناديني، يُسقط "عبد" ويستبقي "الهادي"، نطق اسمي وكأنه يريد أن يقول بأن تأويلك للرجولة ذاك لا أعنيه، وأنك أولته في الاتجاه الذي تريده أنت.
" أنظر إلى ابني الأصغر، علي، إنه على مشارف الخمسين ولم يتزوج بعد، أعياني الحديث إليه، يئست من حثه على الزواج، إنك لا تختلف عنه في شيء. لماذا لم تتزوجا بعد، قولا لي فقط ماذا أصابكما؟ أليس من حقي أن أشك في رجولة جيلكم هذا إذن؟ أظن أنك فهمت الآن قصدي بالرجولة، دعك من التأويل ومن كل تلك الترهات، إنكم وبكلمة واحدة جيل مخصي."
قال هذه الكلمة الأخيرة ولاح طيف ابتسامة على وجهه، أما أنا فقد استغرقت في الضحك طويلا.
في تلك اللحظة لم يعد ظل " دالحسين" وهو يقتعد كرسيا خشبيا قصيرا، منعكسا بجانبه، فالشمس غاب نصف قرصها وراء الجبل المقابل لقريتنا. لم ينتظر تعليقي ولا ردي وبدأ يمسح وجهه معلنا انتهاء عملية الحلاقة.
قبل قيامه استطرد قائلا: "إن طريقكم المعبدة، التي قلت أنها ثمرة اجتهاد قل نظيره، لا أسلكها، إن هذا الوجه القديم لا تناسبه طرقكم الجديدة. أنا معتاد على ظلال منعرجات الطريق، لا أقول القديمة، لأنها الطريق الوحيدة التي أعترف بها، ليس هناك غيرها. أنت تعلم أني كنت ضد مشروعكم الخائب هذا، بل وتدري أن شجرتي التي قمتم بقطعها من أجل تعبيد طريقكم لازال أمرها يحيرني، وأحتار كيف خضعت لضغوط علي الذي كان يترجاني شهرا كاملا."
كانت الشمس قد غابت تماما، وعندما أكمل دا الحسين هذا الخطاب، وقد كان أكثر جدية هذه المرة، هم بالوقوف، غير أنه تراجع في آخر لحظة وكأنه نسي أن يقول شيئا " إن أهل هذه القرية مثلي، أعني الذين تقدموا في السن، لايزال معظمهم قادرا على السير واقفا، لم تخنهم أقدامهم، بل ونموت واقفين كأشجار الجوز تلك، أتدري لماذا؟ لأننا لم نخن هذه الطريق التي تسمونها الآن قديمة، إنها طريق مباركة، خطانا تمشي على خطى أجدادنا، أرواحهم تزورنا عبر تلك الظلال الوارفة. تنفرون من التعرق اليومي ونعتبره نحن عادة واجبة، تكرهون التعب والكد ونعتبرهما نحن طقوس الحياة. إني أخشى عليكم من سهولة الحياة."
قام دا الحسين هذه المرة، ونظر إلى الأفق البعيد الذي يحده الجبل، وقال" أن تنظر من الأعلى شيء لا يضاهى، تعب حياتنا كله يكاد يكون في سبيل هذا العلو، ولكن لا يستشعر هذا سوى من يكون قادرا على الصعود يوميا على أقدامه من الوادي، شاقا الطريق عبر تلك المنعرجات، وحينما تصل تكافأ بهذه الرؤية، وربما ذاك الصعود مكافأة في حد ذاته"
لم أعقب..