بَعْدَ صلاةِ العشاء، تَقَاطَرَ شُيوخُ القَريّة ومَعَهُم جدّيَ "سي عبد السّلام" برفقة مساعده، على منزلِ "سّي قاسم ولد الزّرواليّة". كان المَوعِدُ كقافيّة مقيّدة في نهاية مُعلّقةٍ جَاهِليَّة. دَخَلَ الجَمْعُ إلى "الدّكانةِ" فَوجَدُوا ضُيوفاً قادمين من قرية "البُرُومِيّين" جاءوا ليشتروا جَلابيبَ الحبَّةِ، أو يَقْتَنِصُوا بَعضَ الخَرِيدَاتِ المصُونات والكَواعِب النّاهداتِ زوجاتٍ لهم أو لِكِبارِ أبنائهم، الذينَ بَدَأت تَصْدُرُ عنهم فَواحِشُ الفِعل. بدخولِ "سّي عبد السّلام" وقف الجَمْعُ يُبَادِلُونَهُ السّلامَ والعِناقَ، فقد كانَ محبوباً عند الجميع، ومَعروفاً بخفّة روحه وكرمهِ وقوّته أيضاً. عندها جاء "سّي قاسم" مرحباً بكلّ الضيوفِ، داعياً إياهم للجلوسِ على فراءِ "الوعولِ" المدبوغة بالملحِ الحرّ والمنظفة والمفروشةِ فوق زرابي "الدُّوم". جَلَسُوا جَمِيعاً بِشَكلٍ دَائِريٍّ مَركَزُ قُطْرِهِ "سّي عبد السّلام اليحياوي" حفيد"سيدي يحيى الآزمي الإدريسي". وحينها جاء "سّي قاسم" حاملاً صينية كبيرة تضمُ ثلاثة أباريق من الشّاي ترافقه ابنتاه "خديجة" و"عزيزة" تحملان صحون زيت الزيتونِ والعسل الحرّ والسمن البلديَّ. بينما تكلّف ابنه الصغير بإحضار صحون الجوزِ واللّوز البلديّ. كانت عيون الضيوف تتركز على هاتين الجبليتين الموشومتين بجمال غجريّ يضجّ بالأنوثة. كانت خديجة أنضج وأكثر أنوثة، تكشفُ قامتها الفارعةُ عن قوامٍ خوطيٍّ ميّادٍ، وعلى صَدْرِهَا يَنطُّ نَهدانِ نافرانِ كأنهما أرنبين مشاغبين في غابة سعيدة.
التقط "سي عبد السّلام"، بدهاء، زيغَ عيونِ "علي الهوّاري" فعمد إلى مبادرته بالحديث عن المحاصيل الزراعيّة لهذا الموسم، وعن أحوال ابنه محمّد الذي يدرس في كليّة العلوم القانونيّة بمدينة فاس. كانت إجابات "سّي علي" تشي بالاطمئنان، فالمحصول وفيرٌ والابن أنهى دراسته قبل ستة أشهر وهو الآن، محامٍ متدرب في المحكمة الابتدائيّة بفاس. وهنا، عاجل "سي عبد السّلام" صديقه باقتراحِ تزويجه من "خديجة" فهي ذات نسب ومحتدٍ شريفيّن. أدركَ "عليّ"، بخبث أهل الجبلِ، أنّ "سّي عبد السّلام" قرأ عيونه أثناء نظره إلى خديجة وابتسم دلالة الموافقة على هذا المقترحِ.
كان "سّي قاسم" غائباً عندما كان الجمع يتناقشون عن إعجاب "عليّ" بخديجة" ورغبته في تزويج ابنه بها. وحين حَضَرَ "سّي قَاسَم" بادره "سي عبد السّلام" قائلاً:
إنّ "سّي عليّ" يود أن يخطب ابنتكم المصونة لابنه المحامي على سنّة الله ورسوله، فخديجة فتاةٌ حسنة التربيّة شريفة النسب، وأبوها رجلٌ عظيمٌ وكريمٌ. وكلنا نعرف دماثة أخلاق ابننا محمّد مذ كان صغيراً. فالرأي عندي، والجمع الحاضرُ ينحاش لرأيي، أنْ نجمع هذا الطّيب بهذه الطاهرة العذراء العفيفة.
نظرَ "سي قاسم" إلى "سّي عبد السّلام" نظرة احترامٍ، فمقامُ الرجل جليلٌ، وكلمتهُ فيصلٌ وحكمٌ وكلّ ما يقترحه لا يحيد عن الصّواب قيد أنملةٍ. طلب من الضيوف الانصرافِ لمدّة قصيرةٍ، ثم اتجه رأسا إلى غرفةِ "لالة رقيّة" واقترح عليها الأمر. أَبدت موافقتها مبدئيًّا، وطلبت من ابنها الصغير مُناداة خديجة للقدوم، تشاورت الأم مع ابنتها، فابتسمت خديجة بعدما بثتها أمّها الخبر، ثم هرولت نحو الغرفةِ وأغلقت الباب. وما هي إلا لحظاتٌ حتى تعالت الزغاريد مخفّفة حرّ صيف متجبرٍ. عادَ "سّي قاسم" إلى الضيوف وعلى وجهه علائمُ الموافقة، قَرَأَ الجمعُ الغفيرُ الفاتحة إِذَاناً بزواجٍ قريبٍ بين الغريبينِ.
وهنا اشرأبتِ الرؤوسُ، وتعالت الصياحات، مطالبةً "سي عبد السّلام" بأنّ يحكيَ لهم الرؤيا التي داهمته ذات ليلةً ليلاء، حين سلّم عليه سيدي يحيى، في المنامِ، وأودعهُ طُلسماً إلهيًّا، يمنحه بركَة معالجة مَرْضَى "بزلُّوم". فَقدُ عُرِفَ "سّي عبد السّلام" من حينها بقدرتِه على مُدَاوَةِ هذا المرضِ اللعينِ واستئصالهِ كليًّا. كان الكلّ يسوّي المكان الذي سيجلسُ فيه. تحلّقَ الجميع حولَ مركزٍ يحمي الوجود من الاندثار من خلال تأبيده في حكاياتٍ تقاومُ النسيانُ. ثنى "سّي عبد السّلامَ" ركبتيّه، ثم غمغم مُصليًّا على النبيّ الكريم وعلى آل بيته الشرفاء، ثم أَخَذَ مِسْبَحَتَهُ وشَرَعَ يمرّرها بين أصابعهِ مسبّحا بحمد ربٍّ لا يفني، وحين أنهى عدّ المائة نظر إلى الجموع، فلمحَ في عيونهم رغبة لاعجةً في الإنصات للحكاية، استسمحهم الذهاب إلى بيت الخلاء، فآذنوا له بالذّهاب، وذهب معهُ لفيفٌ من الشيوخ الكبار حتى لا تهزمهم متانتهم أثناء الإنصات للرؤيا. أخبرتني جدّتي "فاطنة" أنّ كل ما كانَ يقوم به "سّي عبد السّلامَ" قبل الحكيّ، كان ضرباً من المخاتلةِ قصد إشعالِ أوّار التشويق في أنفس الحاضرين. بعد عودته، جلس مكانه، أخرج مصحفاً كان قابعاً في جبّته ثمّ انغمس في بحرِ الحكاية:
"سلامٌ على الذي أتمّ الرسالاتِ جَمِيعَها، سلامٌ على من بعث رحمةً للعالمين، سلامٌ على هادي الآمين، الذي هدانا إلى نور الإله وحقيقة الوجود. وبعد أيّها السّادةُ الكرام، لا أخفيكم سراً أني سررت بمجالستكم في هذا المجلس العظيمِ، لأبثكم وَجَعَ الحياةِ وبعضاً من لعنةِ الحكَايةِ، وأنبش معكم في ذاكرة أبينا الوليّ الصّلاح "سيدي يحيى الآزمي الإدريسي" سَليلُ البيت الشريف. هذا الوليّ المقدّس الذي حَمَتْ بَركَاتُهُ أجدادنا، وتحمينا، نحنُ أيضاً، في زمنٍ خوّانٍ صَعْبِ المرَاسِ. سأحكي لكم الرؤيا التي وهبني على إثرها "سيدي يحيى الإدريسي الأزمي" بَرَكَتَهُ.
ليلتها نمت باكرا، فَبَعْدَ سَفَرِي الطّويل، هُدَّ جسدي وانهَارَ بُنياِني، فَارتَمَيتُ على مَضْجَعِي خَائِرَ القوى، وقبل أنْ أغمضَ عيني حَضَرنِي مَشْهدُ السيدة الشّقراءِ التي صَادَفْتُهَا، قُرْبَ مَنْزِلها، في قريّة تَعْمَرِينَ""-وهي قرية صغيرةٌ تنامُ على صدرٍ جبلٍ ينتصبُ عاليًّا في إيفري-، كانت سيدةً ضالعةً في الجمال، يَشِفُّ فستانُها النبيذي عن جسدٍ بضٍّ منحوتٍ من المرمرِ الأبيض، في عينيها تثوي السّماء بكلّ زُرْقَتِهَا، وعلى خديّها تندلع الفراشاتُ الزهريّة. آهٍ مِنْ جَمَالٍ يَذْبح بهدوءٍ.! سَألتها، بضربٍ من الشغبِ وأن تُعْطِينِي كُوز ماءٍ أروي به عَطَشِي، فسقتني ماءً ليس كالماءِ، وأطعمتني من ثمار شجرة رمّانها. وهنا، طفقتِ المسكينة تحدثُني عن التّاريخ المؤلمِ للرّيفِ اليتيمِ، وعن زَوجِهَا الذي ذهبَ ليقاوم المستعمِر ولم يعدْ، بعد شهرٍ من غيابهِ طالعها خبر استشهادهُ. كنت أجدُ صعوبةً في فهم لغتها ذاتِ اللثغة الأمازيغيّة. كانتْ بَعضُ كلماتِها مُبهمة رُغم معرفتي للغة أهل الريفِ الأشاوس وثقافاتهم. وحين هَمَمْتُ بسؤالها عن الدّاءِ الذي بدأ يسرى في فخذها اليسُرى، رفعتْ الملاءة واستدارت نحوي، كاشفة عن فخذها البديعةِ التي أفسد "بوزلّوم" قداستها، هالني الأمر، أشفقتُ على المسكينة، التي تسلّلت إلى قلبي في غفلةٍ مني. دعوت لها بالشّفاءِ العاجلِ، وقبلَ أنْ أستأنف طريقي مخترقاً جبال "تزي إيفري"، و "مرنيسة"، منحدراً إلى نهر "ورغة"، قبّلتها من شفتيّها النديتيّن، ثم سألتُها عن اسمها ونسبها فأخبرتني بأن اسمها " تِيلِيلا أَربْيِش"."
توقّف الجدُّ عن الحكيّ، متأملاً القَمَرَ المُنزلق بِغِوايةٍ خَلْفَ جَبَلِ "دَلُّوهْرَا"، تسامق بكلّ شموخٍ ليغالب دمعتين هاربتين طفرتا من عينيّه الكُحليتين، ثم تأوّه وعاد لينغمس في حكاياته المارقةِ:
"حين تخطّفني النّوم، رَأَيْتُنِي ليلتَها عارياً كما َأْنجَبَتْنِي أمّي، تائهاً بين جبال "تِدْغِينْ" و"شَقْرَانْ"، كان الثّلجُ يندف بِشَرَاسَةٍ مَشْفُوعاً ببردٍ مُدْمٍ، في غمرةِ هَذَا الجُنُونِ اللاذِعِ، طفقتُ أخسفُ َأغصان البلّوطِ وأَتَدَثَّرُ بها، كنتُ وَحِيداً في أبديّة بيضاء مَفْتُوحَةٍ على غاباتٍ مُتَدَاغِلةٍ، أُقَاومُ الموتَ بإرادةٍ زائفةٍ. بَدَتْ لي الرّياحُ بِزَمْجَرَاِتهَا الصّاخبة وَحْشاً أسطوريًّا لا يبزُّ ولا يُهْزَم. ارتعدت فَرَائِصِي، دَكّت أركاني رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ. صَرَخْتُ بِكُلِّ مَا تَختزنهُ حِبَالِي الصوتيّة من قوة ورغبةِ حياةٍ، كنت كذئبٍ عجوزٍ بُقِرَتْ بطنه بعد مَعركةٍ حَاميّة. فجأةً اِشْتَعَلَت نارٌ زرقاء في الفارغِ الفاصل بيني وبين جرفٍ سحيقٍ لا قرارة له. اقتربت من النّار فإذا هي "سيدي يحيى الآزمِي الإدريسي" سيد البياض المطلقِ، اقتربَ مني ووضع يده على رأسي فإذا بجلباب أبيض يلفُّ تضاريس جسدي المرتجفِ. نظر إليّ بإشفاق ونبس بحروف من نورٍ: أَحْسِن قِراءةَ الألوانِ في وجوه النّاس يا ابني فإنّ الربّ أودعَ في الوجوه أسراره، من لا يحسن قراءة ألوانِ الوجوهِ لن يدركَ حقيقتَهُ. مهما طال عمر الإنسان يا ابني فإنه عمرٌ قصيرٌ، فَدَاوِمْ على السّفر، فالمسافرُ يحيا حيواتٍ جديدة لا يحياها السّاكن في مكانه، السكنُ فراغٌ وعدمٌ والسفرُ اختراقٌ وتسرّبٌ خفيٌّ إلى الحقيقة في أرقِّ شقوقها وأدقِّ نتوءاتها. أَحِبَّ النّاس جميعاً وسْعَ إلى الخير ما استطاعت، وإنّي أهبُك بركة إشفاءِ داءِ "بُزلّوم". فما عليك إلا أن تقطع غصنا من أغصانِ شجرة من الأشجارِ المحيطة بسكنايَ قبل طلوعِ الفجر، وإليكَ ترتيلةِ القطعِ التي يجب أن تردّدها حينها: "اِشهدْ يا غصن الحياةِ أنّي أقطع الداء الذي ألمَّ بفلانٍ أو فلانة." وحينها اقطع بنصلكَ الغصن وحذفهُ من أصله في المرّة الأولى. سترى، يا ابني، أنه بعد مرور وقتٍ قصير سيشفى المريض وكأنه لم يمرض قطُّ."
تطلّع الحضور في دهشةٍ إلى "سّي عبد السّلام"، لقد أخذت هذه الرّؤيا بجمّاع عُقُولهم، وسافرت بهم إلى عوالم الحبّ والعشقِ الدّامي، فهذا "سيدي يحيى"، سيد الجبالُ الثالث، يغدق كرماته على أبنائه البررةِ، ويسبغ عليهم جليل نعمه وأصيل محبّته. في هذه الهنيهة المتشنّجةِ، كانت عيونُ المتحلّقينَ تُومِئ بِرَغْبَتِهم في مَعْرِفَةِ مَصِيرِ "تِليلا أَرْبِيش"، لكن لا أحد منهم استطاعَ أن يطلبَ ذلكَ من "السّي عبد السّلام" لقد فطنوا جميعا أنّهم قد فتحوا جرحاً أسود عصيّا على الاندمالِ في قلبه. نظرَ الجدُّ، الذي فقه أسرار الحكاية إلى الجَمعِ الغفيرِ نظرة اختراقٍ وقال:
"بعد هذه الرُّؤيا، استيقظت في فجرِ الليلة المواليّة، واتجهت، رأسا،ً صوب ضريحِ "سيدي يحيى"، قصدتُ شجرةَ رمّانٍ تقع على في الحدّ الفاصل بين الضّريح ومرج الزّعتر البريّ، ونفدت ما أمرني به سيد الجبالِ الثالث، أخرجت النّصل المسننّ من كمّ جلبابي وقطعت غصن الرّمان مردداً ترتيلة الحبّ السماوي: اشهد يا غصن الحياة أني أقطعُ الدّاء من سيدة النّار الزرقاء، يمامةُ الريف الحرّة، "تِليلا أَربيش"."
لملم "سي عبد السّلام" مسبحته ومصحفه دلالةَ انتهاء الحكاية، فقد انشرخَ الليل وعرّش الظلامُ، وموعد الالتحاق بالزّوجاتِ العزيزات حلّ. كان الجمع يتحرق شوقاً لمعرفة بقيّة الحكاية، لكن الجدّ انصرفَ بأناقة ذكر الحمام البريّ، مودعاً أصدقاءه. متوغلاً في حكاياته التي تشبه العلب الصينية، علبة داخل علبة وتتضاءل العلب حجما إلى أنْ تبلغ العلبة الصغرى في القَلْبِ مِنْهَا جميعاً، وإذَا في داخلها -لا خاتم ثمين من خواتم ابنة السلطان-بل سر أثمن وأعجب: فِتْنَةُ الأسطُورِة. كانت هذه نتفاً من حكايةٍ جدٍّ عذّبته موسيقى النّجوم وأدْمتهُ حقيقتُه المذبوحةُ.