كانت أم الجــبــل حية،قبل أن تموت اشترت لي حــمامــة تشبه ذاكرتي.ربيتها فوق سطح منزلنا القديم ،شيدت لها عشا بحجم ساعة يدوية..
أما أبي فرأيته يحدق من بعيد في طقسنا،انبجست من وجهه الشريف ابتسامة غامضة،دنا بتعب نحـوي،حدثني:
في يوم ما ستهرب الحمامة من عمرنا،/
في يوم ما سنبحث عن حبة زمن،/
فيعـــز الطلـب..
في يـــوم ستبحث عني،/
أو أبحث عنك فوق الأرض/
أو تحت الارض،/
فلا يعثر الرائي منا /
إلا عــلى غــبار.
رسمت لهذه الألغاز منطقا آخر،،تناسيت ما سمعت..
----------------
ننزل معا إلى هناك،حيث تقف شجرة المشمش كغيد تختال بعناقيدها المتلألئة،تصب لي أمي حصتي من الشاي،تنصحني:
- قد لا يتكرر هذا الطقس،
واثقة أنا مما أقول،
كان أبي " موحى بن لحسن " نهرا جاريا ثم غار تحت التراب..
....
وأحتفل..
أكاد افترس ياقة دراعتي الزرقاء من فرط اللحظة والمــذاق،عبر شبابيك النوافذ النحاسية التي تصغي لنا،تتماوج تقاسيم إخواني..
قالت امي:
انظـــر،إنهم يركضون خلف الستار،يقفزون بين الأعشاش،يصخبـــون كفـراخ دجاجة..قد يكبـــرون يوما ،فيطمر الوقـــت طفولتهم .
.....
وأنا صامت ..أحملق كصرصور مجنون في هذه اللوحة...
أبي جالس ،قبل الهم الذي سيأتي...
شوارب كثة/ أنف بارز كرمح يوناني./ حاجبان لذيذان،/ فسبحان الصورة منك وفيك/
-----------------
-أتذكـر يا جبلي..نهر "أبي رقراق" ونحن نعاند تياراته ذات صباح بارد.؟
أتذكر.وأنـــت تشوي لنا كتف الشــاة على نار رومانســية،تترك الوليمة فــوق أنشــودة الوميض،ثم نسمي الله،ونــــزدرد الشوكولاطة..
كم تجولنا في دروب "شــالــة"...
ونحن ننصت لأغاني الغيوان والحسين السلاوي وبهيجة ادريس..
كان ذلك في زمن الستينات والسبعينات:
لما ذبح المخــزن الوردة وشنــق غصن التفاحة،لما مات الناس كالقــديد اليابــس في المعتـقلات،وانتشــر الظلام القديـــم مرة أخرى،وأدوات الصنم الكبير باركت تلـك المذابـح..
كان زمنا مغربيا مرا،
أما أنت يا أبي، فأنــت/ أنت..كنت تقول بكل وضوح وشجاعة: .
- لا.. لا..،
تفعل هذا لأن اسمك يشبهك.
-----------------
سقط الجبل..
وجه بشــوش وقوي يخاطبني ،يبث في قلبي رهبة وهيبة،عينان لهما المجد الأبــدي، صدر ناعس،فــم صمت بغـــثة عن الكلام المباح،يدان لا تعبثان بالدف كما كان،جسد يـبـس،وسـاح في التلاشي.
هذا الردى غرد في دولتي الصغيرة،/
هذه الحيــرة بنت الضباع والذئاب استوطنت أفقي،/
فاتركيني أبكي،/
اتركيني، /
فقد شخت كمدا قبل الأوان..
--------------------
جدار من الدموع يخنـق وجهي،إخواني كأنهم خربشـات بلا لون،لا يبـدو لي خلف النوافذ النحاسية إلا ضجيجهم ونحيبهم المنكسر.
تمنطقت آيات الشفــاء والسلوى،..
فلم أفلـح،
تسللت الى بيـت البيان وبيت البلاغة قبل انبلاج القرص..
فاحتار في أمري أهل الشعر والشأن.
قالت الخنساء:
- سقط الزناد
سقط الزناد
- صخري وجبلك توأمان.
----------------------
وتعود بي الساعات إلى ما كان..
ها هــو،يقف وسط الحيدوس كنمر الغابات،يعزف ب"البنديـر" أنشودته.
ويغني:
"سأدك جبروتك
أيتها الأرض اللعينة
سأسحق كل حبة رمل فيك
بحذائي
وقدمي
سأفعل حقا..
قبل أن تسرقي جسدي
وصوتي"
....
فهل كنت راهبا قبطيا آنذاك..؟
أجبني يا ذا العينين الواسعتين؟
----------------
أه ياسيدي ..
كنت نسائما تمتد ولا تنقبض،
إذا زارالضيف البيت،قالت الملائكة للمجالس هيا هلمي،
دلاع ورمان وبرتقال،
رغيف منسم بالسمن الحر وعسل "زعـيـر"،
دجاج مشوي يرقص على إيقاع العود،
تمر وكؤوس ولوز،
صحون ترفع ،
صحون توضع،
لبن أزرق،
وأبيض،
وأرجواني.
-----------------
عندما كنت مؤمنا ساذجا،التقيـت دجالا وسخا يبيع أعشابا ومطبوعات ملونة.
ضبطني أبي ..
في المساء ،غضب مني
قال:
- إن الله يوجد في القرآن فقط ..
سأ لت:
- وأين تركت الأنبياء؟
أجابني:
-الأنبياء أبناء الله..
-----------------
حلقت الحمامة إلى منتهاها، ثم دفنتها الساعات..
قرأ الكهنة قسطا من القرآن على الجثة،تسلموا حصتهم،ثم تبددت جلابيلهم خلف باب المقبرة..
بست قبرحبيبي.
قلت:
- يوما ستنطفىء شمعتي ،وتتكلم حمامتي،
- يوما سأنام أنا وأنت على وسادة طين واحدة،ونحكي ما كان. .
أتسمعني..
رافقــتك السلامة في تلك الـــدار،نور الرحيم قبرك، وأفســح الله في ظلك ،وسقاك من كأس ريحـان وزنجبيل،وأطعمك من شغف فاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة.
أبي العظيم ..
أنحني لك بقدر حزب الحزن الذي يساورني..
أنا المكلوم بفقدك،
أنا اليتيم بدونك..
أنا البئيس بعد رحيلك.